عرض لكتاب “عرق الضفدع” سيرة ذاتية عن أكيرا كوروساوا
كتب – مارك أمجد
كتاب “عرق الضفدع” هو كتاب سيرة ذاتية بقلم المخرج الياباني الشهير أكيرا كوروساوا (23 مارس 1910- 6 سبتمبر 1998)، وعلى حد قول المترجم يعتبر ذلك الكتاب هو المادة المكتوبة الوحيدة التي خلّفها كوروساوا وراءه، ليخبر فيها مريديه قصصا حول طفولته مع المعلمين في المدرسة وأمه الصامدة وأخيه الفنان الذي انتحر وأبيه العسكريّ الصلب، وبداية احتكاكه بالوسط السينمائي من الأساس وتتلمُذه على يد “ياماسان”، وكيف تحول من فنان بروليتاري إلى واحد من أهم مخرجي اليابان، تسبب في أن تخرج تلك السينما المحلية لآفاق عالمية.
طفولة كوروساوا
طبقا لكتاب “عرق الضفدع” يستطيع المخرج الياباني أن يتلصص على بعض المناطق المعتمة من ذاكرة الطفولة فيسرد عدة وقائع، منها انقلابه على ظهره في الحمام ووقوع الحوض عليه وجري أمه عليه لتنقذه هي وبقية قاطني المنزل، بينما لمبة “الكاز” معلقة في السقف تترنح، وذكرى أخرى حول أخيه الأكبر حينما عادوا به للمنزل ورأسه مضمد بسبب وقوعه في حصة الرياضة، وما أن رأت واحدة من الشقيقات منظر الرأس المجروح حتى صرخت: ليتني أموت بدلا عنه! ويعلّق كوروساوا هنا أن إطلاق الأحكام الباردة شيء من سمات الجنس الياباني المعروف بالأحاسيس الإنسانية الاستثنائية المسماة بالقلب الطري.
ولعل أي مُشاهد مخضرم لأفلام كوروساوا، سيتفاجأ حينما يتعرف من تلك السيرة الذاتية أن أفلامه المفضلة في مرحلة الطفولة كانت الكوميديات، وهو بنفسه يتدارك موضحا لقراء السيرة أن انطباعاته عن السينما في تلك الفترة لم تكن لها علاقة بالمسار الجاد الذي اتخذه فيما بعد، كل المسألة أنه كان يطمح كطفل في مشاهدة وجوه على الشاشة تتحرك، وأن يتفاعل معها بعفوية فيضحك تارة بسذاجة ويبكي أخرى.
يذكر كتاب “عرق الضفدع”، أنه كان كثير البكاء لدرجة أن زملائه في المدرسة لقبوه بـ”برغوث الصمغ” وكانوا قد استخلصوا ذلك اللقب من أغنية يرددونها وقتها تقول: برغوث الصمغ جاء بيننا، ولا يفعل شيئا سوى البكاء، يذرف الدموع بسخاء، الدموع الكبيرة مثل حب البونبون، ومن وسط جميع الأطفال الذين عرفهم كوروساوا، كان بإمكانه أن يرى في “كينوسكي ويكوسا” رفيقا أبديا، تعرفا على بعضهما في مسابقة رياضية تُقام بشكل دوري في مدرستهما، ومن وقتها صارا صديقين، وكوروساوا يعترف أن ويكوسا استطاع أن يعبّر عن تلك الصداقة بشكل أرفع أدبيا في كتابه الخاص.
وللأب في طفولة كوروساوا ومسيرته دور ليس بصغير، فلقد كان عسكريا حازما في حياته قبل التقاعد حريصا أن يكون أولاده على اطلاع بقوانين الساموراي وإلا عنّفهم، لكن رغم جلافته تلك فهو منْ عوّد كوروساوا وإخوته على زيارة السينما بشكل مستمر ومشاهدة الأفلام الأمريكية والأوروبية، ولم يكن الأب يتعامل معها كأداة للتسلية والمتعة، رغم أنها الموجة الذائعة وقتها، وإنما كأداة معرفية مثلها مثل الكُتب، كذلك الأم التي يصفها كوروساوا بالحرف قائلا: أمي امرأة من حقبة “ميدجي” وزوجة رجل عسكري محترف، وهو يقول أنه عندما قرأ كتاب “واجبات المرأة اليابانية” من تأليف “شوغوروياما موتو” رأى أمه في واحدة من بطلات الكتاب، ويروي واقعة تشهد على قوة تحمّلها عندما كانت تقلي السمك فاشتعل الزيت المغلي، وجرت بيدين مشتعلتين للحديقة الخلفية كي تبعده عن المنزل والأطفال، وحتى لما جاء الطبيب ليضمد يديها المحروقتين لم تهتز أو تصرخ، الأمر الذي لم يتحمله الطفل كوروساوا فبكى بدلا عنها.
ومن طفولته أيضا في كتاب “عرق الضفدع”، يستدعي المخرج في سيرته الذاتية الأغاني اليابانية التي كانت مبنية على كلمات وألحان بسيطة مثل: “المعركة في بحر اليابان” و”معسكرات البحارة”… كان كوروساوا مشدوها منها لدرجة أنه لما سيصبح مخرجا كبيرا له تلاميذه سينصحهم بأن تلك الأغاني البسيطة تصلح جدا أن تكون سيناريوهات لأفلام، وعليهم التأمل في معانيها جيدا، ولعل تعامله مع التفاصيل بتلك الطريقة يتسق مع شخص مثله كان قد حدد لنفسه برنامجا للقراءة منذ سن مبكرة، فقرأ لـ”اتشيوهيغوش، دوبوكونيكودو، سوسوكي ناتزوفي…” وهم جميعا كُتّاب من المرحلة الواقعية المبكرة في الأدب الياباني.
الكوارث التي عاصرها في طفولته يختزلها في زلزال “كانتوسكو” الكبير، أما الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية والتحولات التي أصابت المجتمع الياباني فيصفها بأنها كانت بالنسبة له كطفل، تشبه ضجة بعيدة لرياح ومطر بعيدين.
الانضمام للحركة البروليتارية
يروي كوروساوا بدايات التحاقه بتلك الحركة المشجوبة وقتها، حينما ذهب لمركز الفن البروليتاري في “شينا-توشيما” عام 1928 وقُبلت لوحاته لتعليقها في معارض المركز، وعام 1929 انتسب إلى اتحاد الفنانين البروليتاريين، واتضح له أن شاغلهم الشاغل هو الاهتمام بالواقعية القريبة من الطبيعة، لكنه مع الوقت سيشعر أنه فن بلا حركة وسيفقد اهتمامه به تدريجيا، لكن الأمر لن يقف عند فقدان الوقت بل الأمان أيضا.
فالصحف البروليتارية تمت مصادرتها وتوسعت حركة الاعتقالات لكل أنصار الحركة، وصار كوروساوا منتميا لتنظيم يمكن أن يتم اعتقاله بسبب عضوتيه فيه، في أي وقت، ولم يكن يخطر على باله سوى وجه أبيه العسكري الصارم إذا سمع بأخبار من هذا القبيل، وهو يحكي أنه كثيرا ما كان يتفق على موعد مع زميل في الحركة ويظل منتظرا إياه في المقهى أو الشارع، ولا يأتي ذلك الزميل، ثم يكتشف كوروساوا بعدها أنه تم اعتقاله في الطريق.
لكنه سينهي هذه الحيرة بالانفصال عن بيت العائلة والتحجج برغبته في العيش عند أخيه الأكبر منه.
مأساة الأخ الأكبر
يسرد كتاب “عرق الضفدع” أنه كان أخوه يكبره بأربعة أعوام، ويذكر عنه كوروساوا أنه كان متشائما شغوفا بالسينما، ولم يتوقف عند الشغف بل عمل من قَبل كوروساوا في الوسط السينمائي وشكّل لنفسه خبراته ودائرة معارفه، وفي يوم من الأيام يلتقي أكيرا كوروساوا بأحد أرباب المهنة فيخبره أنه يشبه أخيه كثيرا، مع فارق أنه أكثر تفاؤلا منه. فيعلّق مخرجنا على تلك المقارنة بشكل في غاية العذوبة قائلا: لو أنني نموت بوصفي شخصية إيجابية فإن هذا بفضل الروح السلبية عند أخي… هو كان مثل شريط السينما السالب، لا يمكن للنسخة الإيجابية أن تتحقق من دونه أبدا.
كان الأخ الأكبر له آراء حول الحياة، من ضمنها أن الإنسان بعد عمر الثلاثين يصبح من الغباء بشكل يتعذر معه الاستمرار، وكان مغرما برواية “الحدود الأخيرة” لـ”ميخائيل آرتزيباشف” وفكرة الموت السري لبطلها الرئيسي، حتى أدرك كوروساوا متأخرا أن حديث أخيه عنها وعن الموت قبل الثلاثين وغيرها من تفاصيل أخرى كثيرة سوداوية، كانت إرهاصات حقيقية لانتحاره.
الالتحام بوسط السينما العملي
يروي كوروساوا في كتاب “عرق الضفدع” أنه في عام 1936 رأى في الجريدة إعلان لشركة FHL للإنتاج السينمائي يحتاجون فيه لمساعدي إخراج، تقدم للامتحان الأول وكان نظريا وموضوعه “النواقص الأساسية في السينما اليابانية” وهو يعترف كيف ساعده الأخ الأكبر بنظرياته حول السينما الأجنبية، وبعد أشهر تفاجأ بقبوله ودعوته للامتحان الثاني، ولمّا ذهب تعرّف هناك على معلمه الأعظم “ياماسان”.
تقدّم للامتحان الأول حوالي 500 شخص، وصل منهم 130 للامتحان الثاني، ومن هؤلاء الأخيرين اختاروا خمسة فقط، في الامتحان الثاني طلبوا منهم في القاعات كتابة سيناريو حول جريمة قتل يرتكبها عامل لينهي حياة راقصة عشقها، ثم أتى وقت المناظرة الشفهية، ولم يكن كوروساوا يعرف أحدا من أعضاء لجنة التحكيم، باستثناء ياماسان المشهور طبعا.
بصعوبة تغلّب كوروساوا على نفسه وانفكت عقدة لسانه، وربما ما شجعه على ذلك وجود ياماسان بشحمه ولحمه بينهم، فراح يكلّمهم ليس فقط عن السينما، بلعن المسرح وموسيقى هايدن ولوحات فان جوخ، وبعد شهر من تلك المقابلة جاءه إشعار من FHL بموعد الامتحان النهائي وهو لقاء مع المدير العام للشركة والمدير التنفيذي.
محاولات مع هوليوود والسوفييت
في عام 1966 عُرِض على كوروساوا أن يصور فيلما في هوليوود بعنوان “القطار الهارب” وكان من المتفق عليه أن يؤديه ممثلون أمريكيون، لكن الخطط جميعها فشلت ونفذ الفيلم “أندريه كونشالوفسكي عام 1985. مرة أخرى، تم الاتفاق أن يخرج فيلما أمريكيا بعنوان “تورا تورا تورا” وهي إشارة راديو اللاسلكي أثناء الهجوم على ميناء “بيرل هاربر”، لكنه تشاجر مع المُنتجين أكثر من مرة وأعاد كتابة السيناريو 28 مرة، وتعمّد الشركاء الأمريكيون أن ينشروا إشاعات تقلل منه مفادها أنه يعاني انهيارا عصبيا، بينما الأمر في حقيقته أنهم اعترضوا وغضبوا لما أراد أن يضمّن فيلمه حقيقة مفادها أن كثيرا من اليابانيين كانوا ضد الحرب من الأساس.
ثم في عام 1974 قدّمت له استوديوهات “موسفيلم” السوفييتية سيناريو فيلم “دورسو أوزالا” عن قصة الكاتب “فلاديمير أرسينييف”، وكان كوروساواقبل هذه الواقعة صرّح بمهرجان موسكو 1971: أن اليابانيين ينمون مع الأدب الروسي. وبالفعل نفّذ سينمائيا”الأبله” لدوستويفسكي و”في الحضيض” لمكسيم غوركي. ولما أنجز “دورسو أوزالا” قال: إن إمكانيات الكاميرا لم تساعدني في سيبيريا لإظهار كل هذا الجمال الوحشي المتمثل في بحر موزع على آلاف الكيلومترات.
كتاب عرق الضفدع صادر باللغة العربية عن منشورات المتوسط، طبعة أولى 2016 ترجمة عن البلغارية فجر يعقوب في 250 صفحة من القطع الطولي الكبير.