عرض لكتاب “الجبروت والجبار” تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية.. مذكرات مادلين أولبرايت
كتب – مارك أمجد
في كتابها “الجبروت والجبار”، تسرد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، مذكراتها وأدق تفاصيل حكاياتها التي وقعت داخل البيت الأبيض، خاصة وأن فترة مادلين تزامنت مع أحداث عالمية عصيبة، أهمها سقوط البرجين وتنامي نفوذ القاعدة وغزو العراق وتولي طالبان مقاليد الحكم.
وعلى عكس ما نتوقع من شخصية كانت صاحبة منصب سيادي في أقوى دولة بالعالم، نجدها تنحي باللائمة على سياسات البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات الأمريكية في مواقف كثيرة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية الحساسة، مثل المقدسات الدينية والتابوهات التشريعية وقوانين القبائل ونظرة العرب وإيران لأمريكا: “الشيطان الأكبر”.
تحكي مؤلفة الكتاب كيف حوّلت الثورة الإيرانية 1979 بوصلة الشعب الإيراني في اتجاه مضاد للولايات المتحدة، فإذ بالشعب الأمريكي يستيقظ يوما ليجد الإيرانيين يتظاهرون في الشوارع بلافتات كُتب عليها: الموت لأمريكا.. الشيطان الأعظم، وكان على أمريكا أن تفهم آنذاك أنها فقط بداية الحرب.
وانتبه الساسة متأخرين إلى أن حادث احتجاز الرهائن الشهير داخل السفارة الأمريكية بإيران، لم يكن سوى قمة بركان فجرته تدخلات أمريكا في السياسات الإيرانية والمساعدات التي قدمتها للشاه. كذلك الوضع في أفغانستان، فحينما بدأ الغزو السوفييتي لأفغانسان لم تنتبه أمريكا سوى لخطر واحد هو الشيوعية.
هرع الأمريكان إلى الأراضي الأفغانية وراحوا يحثون الشعب المسلم هناك على الجهاد بحجة ألا تقع بلاد المسلمين تحت الغزو الأجنبي الشيوعي، وانصاع الأفغان للتجربة وقدموا كل ما يملكون حتى أرواحهم لنصرة الإسلام، دون علمهم أنهم يسدون خدمة في المقام الأول للبيت الأبيض.
تنظّر مادلين أولبرايت في كتابها “الجبروت والجبار” لنظرية “فرانكشتاين البيت الأبيض”، وهي نظرية مفادها أن أمريكا بتمويلها للجماعات الإسلامية المتشددة في أفغانستان خلقت دون أن تدري مسخا متوحشا طالت أياديه من صنعه يوما ما، في الحادي عشر من سبتمبر حينما رأى الأمريكان البرجين وهما يسقطان.
تلتفت مادلين لعلاقة الشعوب العربية بالدين، تلك العلاقة الحساسة التي تؤكد وزيرة الخارجية السابقة كيف من شأنها أن تنشئ أو تنهي حروبا، وذلك يتوقف على مدى ذكاء الوسطاء والزاوية التي يلتقطون منها الأمور، فعلى سبيل المثال هي ترى أن مشكلات الشرق الأوسط بالذات حلّها بسيط، خاصة وأن الأديان الإبراهيمية الثلاثة ترسّخ لمفاهيم إنسانية واحدة حول السلام والإله الواحد.
وفي هذا الصدد تذكر مادلين نظرية أخرى هامة، وهي ملاحظتها أن أصحاب الديانات المختلفة يمكن بسهولة أن يصلوا لنقاط مشتركة، على عكس أصحاب الديانة الواحدة المنقسمين لمذاهب، الذين يصرون بطفولية على منهج الصوابية الدينية.
تعرّي مادلين نقطة خفية عن أعين معظمنا، وهي أن المجتمع الأمريكي رغم انفصاله تماما عن المؤسسات الدينية، إلا أن نبرة الكتاب المقدس كثيرا ما كان يلجأ لها القادة الأمريكيون وقت الأزمات والحروب، كي يضمنوا الاستحواذ على ولاء الشعب واندفاعه في اتجاه الحرب التي ينوون خوضها باسم الأمن والسلام اللذين يريدونهما لأبناء بلدهم، وقد فعل ذلك ترومان وروزفلت وكينيدي وبوش. ولعل تلك كانت مساهمة المجتمع الغربي في التأكيد على الفكرة القائلة بأن الحرب على العراق كانت حربا صليبية.
أيضا لا تخفي الكاتبة الخطايا السوداء للسياسة الأمريكية في التعامل مع مشكلة الشرق الأوسط والإرهاب، فتتحدث بمنتهى الاستفاضة عن جوانتنامو وأبو غريب وغيرهما من المعتقلات التي احتُجز بداخلها سجناء عرب، منهم من أجرم فعلا ومنهم من تم الاشتباه فيه، وجميعهم تعرضوا لصنوف من العذاب الجسدي والنفسي والجنسي لا يمكن ذكرها ببساطة. والأكيد أن كثيرين دخلوا هذه السجون أبرياء وخرجوا متطرفين مشحونين بطاقة كراهية كافية لنسف مئة برج هذه المرة.
لا تخجل مادلين طوال فصول الكتاب من المقارنة بين رؤساء الولايات المتحدة، وتوضيح تباين سياساتهم التي دفعت البلاد في اتجاهات مختلفة، بداية من عهد الحرب العالمية الثانية وحتى عهد بوش الابن، وكثيرا ما ترجع بالتاريخ لفترة أقدم من ذلك بكثير حيث تورد أقوالا للرئيس لينكولن.
وتذكر واقعة حكى فيها رئيس أمريكا أنه كان عائدا للمنزل حينما رأى خنزيرا علق في الوحل ويحاول بائسا الخروج من المستنقع لكنه يفشل كل مرة، وبعد أن مضى لينكولن عدة أمتار رجع للخنزير مرة أخرى وساعده على الخروج من الوحل، وحينما سأله المارة لِم تكبد عناء هذه المحاولة، قال بمنتهى البساطة ودون تفكير: أنه لم يفعل ذلك للخنزير بل لنفسه، لأنه لو عاد للمنزل يومها وترك الخنزير عالقا، لم يكن لينام بضمير مرتاح.
الكتاب صدر باللغة العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون طبعة أولى عام 2007 في 250 صفحة من القطع الكبير، من تأليف مادلين أولبرايت بالاشتراك مع بيل ودوورد، وبمقدمة للرئيس بيل كلينتون، وترجمه للعربية عمر الأيوبي.
6 تعليقات