صلاح فضل: السجين والجلاد في زنزانة الشعر

ربما كانت الزنزانة أفضل رمز يعبر عن علاقة الشعر بالناس، لقد صار الشعراء محاطين بجدران غير مرئية لكنها غليظة وعالية وتبعدهم بقوة عن الناس. الزنزانة غير المرئية تضيق باستمرار، حيث يقل عدد قراء الشعر يوما بعد يوم، ولا شك أن الشعراء هم ضحايا تلك الزنزانة، لكنهم في نظر البعض هم الزنزانة والجلاد.

تلك النظرة ظالمة، والمؤسف أنها تصدر من ناقد تقوم حياته على الدفاع عن الشعر والشعراء. رغم أن كتاباته النقدية هي الأخرى مسجونة في زنزانة أضيق من زنزانة الشعراء.

**

لقد ذهب الدكتور صلاح فضل مؤخرا إلى أن الشعراء هم السبب في تراجع قراءة الشعر. خاصة الشعراء الذين استغنوا عن الوزن والقافية، وهو يدعم ذلك الحكم بمغالطات، ويسكت عن أطراف أخرى تلعب دورا واضحا وقويا في تراجع قراءة الشعر.

كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول: “كان شعري العزاء في مآتم الشرق، وكان الغناء في أفراحه”.

والمقصود من ذلك، ـ كما يذهب الدكتور صلاح ـ أنه حينما كانت تقع حادثة ما، كان يكتب قصيدة، فكان الشعر حينذاك يقوم بدور الإعلام، لكن مع الحركة الوجدانية، تخلى الشعراء عن القضايا العامة واهتموا بالحب والأمور الذاتية. فلم يعد الشعر مثل الصحافة اليومية، حينما كانت القصائد تنشر في صدر الصفحات الأولى، مثل ذهاب الملك إلى الحج، أو حادثة حريق في كتب حافظ إبراهيم قصيدة، فحينذاك كان الشعر يحظى باهتمام الناس”.

منذ مائة عام ـ كما يضيف الدكتور فضل ـ لم يقم الشعراء بهذه المهمة، فتحول الشعر لديهم إلى تأملات وأشياء ذاتية خاصة. وإذا عبروا عن أشياء جماعية تكون وطنية مثل الاستقلال، من هنا تقلص حجم حضور الشعر في المحافل العامة، وأصبح يتقلص حتى اقتصر الاهتمام على الشعراء أنفسهم، وخاصة حينما استغنى الشاعر عن الوزن والقافية، وأصبح شاعر تفعيلة أو قصيدة نثر، فأصبح عدد القراء محدودا جدا.

**

الشيء الأساسي الذي يحتفظ برواجه حتى يومنا هذا، وهو الشعر المغنى. لقد أصبح الغناء كأنه رأس جبل الثلج، وأصبح الشعر الغنائي رغيف الخبز اليومي الذي لا يستغنى عنه أي إنسان مهما كانت ثقافته.

تلك هي أقوال رئيس مجمع اللغة العربية، والتي نخرج منها بإدانة الكتابات الشعرية الجديدة، والتكريس للأغاني باعتبارها رغيف الشعر اليومي. وكأن الشعر الآخر نوع من الرفاهية، ويكفيه التواجد في الغرف المغلقة، وكأن رواج الغناء لم يظهر منذ قرون بعيدة، منذ عرفنا السجع والأزجال والمواويل، لا منذ ظهور التجارب الشعرية الجديدة.

ينطلق الدكتور فضل من قراءة حرْفية لمقولة شوقي، فلم يكن شعر شوقي هو “العزاء في مآتم الشرق والغناء في أفراحه”. فقد كانت الأغلبية العظمى من “ناس” الشرق لا تتذوق شعره، ولا تعرفه، وأعماله موجودة حتى الآن ولا تحتفي بها تلك الأغلبية رغم انخفاض نسبة الأمية عن أيامه بدرجة كبيرة.

لقد اعتبر شعر شوقي نموذجيا في علاقة الشعر بالناس، والمقصود هو عامة الناس، وهذا خطأ. فالناس بالنسبة لشوقي هم الذين يقرأون الجرائد تقريبا، وعددهم في ذلك الوقت كان محدودا للغاية. إذا افترضنا أن كل قراء الجرائد كانوا يتذوقون الشعر. أما الأغلبية فكانت مع الشعر الشعبي، مثل السير الشعبية والمواويل والمربعات، وأغاني الأفراح، وعديد الجنائز، وحداء العمل في الحقول عند رفع الماء بالسواقي والشواديف، أو قيادة النوارج، وغيرها.

**

يبرر الدكتور فضل محدودية قراءة الشعر الآن، بتخلي الشعراء عن القضايا العامة، واهتمامهم بالحب والأمور الذاتية، وتلك مغالطة. لأن القضايا العامة استمرت في الشعر بشكل واضح على مدار القرن الذي يتحدث عنه، ومازالت مستمرة، والقضايا العامة ستظل ملتصقة بالشعراء. لأن الجماعة التي ينتمون إليها جزء لا يتجزأ من هويتهم، وقضاياها تظهر بأشكال مختلفة مهما يبدو الشاعر فرديا وبعيدا عنها، وواجب الناقد هو كشف تلك الأشكال لا طمسها.

لقد فقد الشاعر دوره الإعلامي كما يقول الدكتور فضل وكان ذلك سببا في ابتعاد الناس عن الشعر. والشاعر لم يفقد شيئا في الحقيقة، بل تَحرَّر من قيد كان يخنق الشعر.

الشاعر كجهاز إعلامي كان عبئا شديدا، فالشاعر كان يقطع من لحم الشعر ليمدح القبائل والسلاطين والأمراء ويهجو خصومهم، وكان الشعر عبدا بسبب هذه الوظيفة، يضحي بنفسه من أجل القبيلة أو السلطان، وتلك العبودية فرضتها الظروف التاريخية. ومع ظهور منظومة الإعلام الحديث تحرر الشعر من هؤلاء الأسياد الذين كان يستغلونه وتركوه عندما وجدوا الأفضل.

سقوط الشاعر كجهاز إعلامي انتصار كبير للشعر، وعلينا أن نفرح به كما نفرح بأي انتصار إنساني كبير، ومن الظلم اعتباره سببا في ابتعاد الشعر عن الناس.

**

المغالطة الكبيرة التي يروج لها الدكتور فضل، هي اقتصار الاهتمام بالشعر على الشعراء أنفسهم، بسبب استغناء الشاعر عن الوزن والقافية. فعندما “أصبح شاعر تفعيلة أو قصيدة نثر، أصبح عدد القراء محدودا”.

عدد قراء الشعر محدود جدا رغم وجود الشعراء الذين يكتبون الموزون المقفى، وأعظم الإبداعات العربية القديمة موجودة. وقراء تلك الأعمال محدودون جدا. فهل توزع أعمال المتنبي آلاف النسخ سنويا؟ بالطبع لا، علينا أن نبحث عن أسباب ذلك بعيدا عن الشعراء.

اقتصار الاهتمام بالشعر على الشعراء أنفسهم يسجن الشعر في زنزانة. وهو جريمة إنسانية معقدة، لا يتحمل وزرها الشعراء، لأنهم يفعلون كل شيء ممكن من أجل فض عزلتهم الإجبارية، باستثناء ذبح الشعر قربانا لمن لا يحبونه، ولا يُقْبلون عليه.

جهود الشعراء لكسر عزلتهم كثيرة، ويكفي قيامهم في الغالب بدفع ثمن طبع أعمالهم من قوتهم وقوت أطفالهم. وهذا يأخذنا إلى الخطأ الآخر للدكتور فضل، وهو سكوته عن أطراف أخرى لها علاقة قوية ببناء زنزانة  الشعر.

**

التعليم الذي جعل شوقي صوت الشرق في الأحزان والأفراح، يلعب دورا في بناء زنزانة الشعر، وأحمد شوقي نفسه لا يتخيل وجود طالب جامعي درس الأدب لأربع سنوات، ويعجز عن قراءة قصيدة جيدة.

هذا الطالب هو النموذج السائد في جامعاتنا الآن. ومعنى ذلك أن كليات الآداب مثلا تفشل في بناء قراء للشعر، أو تقتل قرَّاء الشعر في مهدهم. ولو قامت بواجبها ونجحت في تعليم ربع طلابها تذوق الأدب لكن حال الشعراء والأدباء عموما في ازدهار خيالي، ومن الظلم تحميل الشعراء جريرة هذا التقصير الرهيب.

النقد الأدبي هو الآخر يلعب دورا كبيرا في صنع زنزانة الشعراء. حيث يصمت معظم أساتذة الجامعات عن تحليل الشعر وتوسيع نطاق تذوقه وتلقيه، وتعميق وجوده في حياة الناس.

لقد تخلى معظم أساتذة الجامعات عن دورهم النقدي. وباتت متابعة الحركة الشعرية قاصر على بعض الجهود الفردية القليلة جدا، والتي لا تكفي لإشباع حياة الناس للنقد، والكثير من الكتابات النقدية محل شكوى دائمة، بسبب صعوبتها، وتفوقها في الغموض عن النصوص الشعرية الغامضة. وتبقى الجهود النقدية سجينة هي الأخرى، ويقتصر الاهتمام بها على النقاد أنفسهم وبعض الشعراء.

**

الجهاز الإعلامي يلعب دورا كبيرا في بناء زنزانة الشعراء، فهو يقدم صورة سيئة للشعر والشعراء، وهي تقريبا الصورة التي يرسمها الدكتور فضل، والتي تقدم كائنات غريبة تتخلى عن القضايا العامة، وتهتم بالحب والأمور الذاتية مع التكريس لصورة الحب السطحي المبتذل.

يطول الحديث عن دور الإعلام في تشويه صورة الشعراء، وعزلهم عن الناس خاصة أصحاب التجارب الجديدة. ولو بحثنا في خزانة ماسبيرو الهائلة عن أمل دنقل، وعفيفي مطر، وعبدالمنعم رمضان، وحلمي سالم، وأمجد ريان، وأسامة الدناصوري، وعماد أبوصالح، وفاطمة قنديل وغيرهم، ممن يمثلون تجربة الشعر الجديد، لما وجدنا شيئا، وينطبق الأمر نفسه على النقاد أيضا. رغم أن دورهم هو الأقرب للجهاز الإعلامي وفق التصور الذي يجعلهم صناع الجسور التي تربط بين الإبداع والجمهور.

كل هذه القوى وغيرها هي السبب في بناء زنزانة الشعر و سجن الشعراء، والصمت عن تلك القوى، والاكتفاء بالحديث عن الشعراء ـ خاصة أصحاب التجارب الجديدة ـ يغسل أيدي الجلادين الحقيقيين، ويحول الضحايا إلى جناة يستحقون النبذ والبعد عن الناس.

اقرأ أيضا

الشعر واللعب: عبير عبدالعزيز وليدو الشعراء

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر