عرض كتاب: رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان

كتب- مارك أمجد

رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان

كثيرون اليوم يعيبون على الكاتبة السورية غادة السمان نشرها للمراسلات الغرامية التي تمت بينها وبين غسان كنفاني، وغيره من المحبين العرب، ويعتبرون ذلك التصرف منها نوعا من المراهقة الأنثوية أو تملق امرأة في منتهى طاووسيتها، أما النسويات العربيات فيشجبن ذلك الهجوم ويرجعن أصل حنق المجتمع لفكرة أن صاحبة الرسائل امرأة، في حين أنها لو كانت رجلا لتباهى الكل بفحولته وسطوته على عشيقاته حتى لو بلغ عددهن الآلاف في كل ربوع المسكونة… لكن المهم في تلك المعادلة من وجهة نظرنا ليس ملابسات وأجواء تلك الرسائل وكواليسها، وإنما المهم هو طرفا المراسلات وكيف كانا مخلصين لبعضهما حتى بعد استشهاد غسان كنفاني، وكيف كانت غادة من الولاء بحيث لا تضيّع أثرا من تلك الخطابات التي لا تعتبرها مجرد تميمة غرامية تحتفظ بها مثلما تحتفط أي فتاة بجوابات حبيبها في خزانة ملابسها، بل تقدسها غادة وتعتبرها أثرا فنيا ينبغي أن يطّلع علية طلبة الآداب ليدرسوا في كل الأزمنة وكل الجامعات كيف خاطب رجلا صادقا امرأة أحبها بكل هذا الوله والمزلة.

تقول غادة في مقدمة الكتاب: أهديه إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل، ولكن سيظل يحزنهم مثلي أن روبرت ماكسويل دُفن في القدس في هذا الزمان الرديء، بدلا من أن يدفن غسان كنفاني في يافا.

وبذلك نرى كيف تحوّل السمان مجرد قصة حب لقصة تخص القلق الجمعي لدى جموع العرب. وهي لا تتطلع لنشر رسائل غرامية كتبها لها مجرد رجل، بقدر ما تريد لكل امرأة ستقرأ ذلك الكتاب أن تتلامس مع تجربة عشق حقيقية، الرجل فيها على استعداد أن يضحي بكل ما لديه حتى لو كرامته كي يحظى ولو برسالة أو مقابلة من المرأة التي فتنته وأسرت قلبه وعقله. فكل رسالة في الكتاب نجد غادة قبلها تشرح لنا البيئة المكانية والزمانية التي كتب منها غسان رسالته كي يتفهم القارئ من أي بوتقة صدرت مثل هذه الكلمات التي أحيانا تكون حانية وأحيان أخرى جافية وأحيانا مُرّة تستشعر مرارة الحب وأحيانا جسورة قوية خليقة بأن تحطم السدود وتلغي المسافات بين القارات فيكتب لها من القاهرة والقدس ولندن، دائما تلوح في خاطره مثل جنية شقية لا تكف عن التحليق في مداراته وإيقاظه من أعماق سباته.

أما لغة غسان فهي ليست مثل لغة أي رجل شرقي عهدناه يحب امرأة أو يطاردها برسائل حب. غسان لا يشبه أي رجل عرفناه أو قرأنا عنه. فهو يقدم كرامته قربانا على مذبح غادة كي تقبله وتدخله ولو ضمن جوقة الرجال الذين اعتادت أن تراسلهم أو تسامرهم وتحكي معهم في فنادق العواصم العربية. ينحر كبريائه أمام معشوقته بشكل يجعلك تظن أنه مازوخي في رؤيته تجاه نفسه بالأولى. يستشعر دوما وحشة في تعاملها معه وأنها مهووسة بانتباذه ورفضه وتحييد علاقتها معه. ومع ذلك لا يكف عن الكتابة لها وتعرية كل جوارحه في خطاباته لها، وحتى لو سيكون مصير تلك الخطابات النار أو التجاهل من قبل فتح المظروف. وكثيرا ما كان المُحب يستحلف بعض الأصدقاء المشتركين بينهما إذا قابلوها أن يوصفوا لها حالته وكيف صار وجهه ووزنه بعد أن اقتنع باستحالة الحياة بينهما.

 

عزيزتي غادة…

مرهق إلى أقصى حد: ولكنك أمامي، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة. عيناك وشفتاك وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق، حين يبدأ الألم في التراجع. سعادة الألم التي لا نظير لها. أفتقدك يا جهنم، يا سماء، يا بحر. أفتقدك إلى حد الجنون. إلى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك.

ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار… إنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية. الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك: فحين أغلقت الباب وتركتني أمضي عرفت، عرفت كثيرا أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك.

لم تكن غادة بالنسبة لغسان كنفاني مجرد حبيبه، كانت أمه وابنته ووطنه فلسطين. لذلك اعتبر خيانته لها من خيانة فلسطين الحبيبة. وهو يصارحها بأنه مهما عرف من نساء أو عاشرهن حتى، لم تستطع واحدة منهن أن تسلب عقله ووجدانه وتهيمن على مشاعره مثلما فعلت غادة الملعونة.

الكتاب صادر عن دار الطليعة ببيروت طبعة أولى يوليو 1992 في 120 صفحة من القطع المتوسط بصور فوتوغرافية على الغلاف لغسان وغادة والفنان بهجت في تلفريك جونية. بتقديم وإعداد لغادة السمان حيث خصصت ريع الكتاب لمؤسسة غسان كنفاني الثقافية وضمّنت المخطوطة نسخا من الخطابات بخط يد غسان تعلوها طوابع البريد وأسماء الفنادق التي نزل بها في بيروت والقاهرة والقدس ولندن وكتب منها لمحبوبته، ثم تتبع تلك الخطابات الأصلية بصورة أخرى منها منمقة وواضحة لتعذر قراءة الأولى بسبب تخبط خط المُحِب مثل وجدانه.

  

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر