مشهد السيدة نفيسة.. هندي برائحة توابل البهرة!

خبراء: ما جرى في مسجد السيدة نفيسة جريمة في حق علم الترميم والتراث والهوية المصرية

كما هو متوقع أثارت عملية ترميم مسجد السيدة نفيسة، موجة من ردود الفعل الرافضة لما حدث، والذي لا يمكن وصفه إلا بالتشويه المتعمد والقضاء التام على الروح المصرية الهادئة للمكان لصالح حالة من البهرجة والافتعال والمسخ لرمز ديني وروحي كبير في حياة المصريين، ليستمر مسلسل العبث بمشاهد آل البيت من قبل جماعة البهرة، تحت سمع وبصر الحكومة المصرية التي تسمح بمثل هذه السرقة العلنية لتراث المصريين الذي تسعى تلك الجماعة لاستيلاء عليه ووضع بصمتها عليه بخلق حواجز مفتعلة بين المصريين أصحاب المكان وتراثهم الطويل الذي تعرض لعملية سطو.

ما جرى في جامع السيدة نفيسة وتحديدا غرفة مشهدها، جريمة متكاملة الأركان في حق علم الترميم والتراث والهوية المصرية وروح المكان وعناصره الأثرية، فالحكومة المصرية سمحت لجماعة البهرة، وهي جماعة شيعية إسماعيلية ترى نفسها امتدادا للخلافة الفاطمية، بأن تدس أنفها في مشاهد آل البيت الموجودة في القاهرة، فبعد أن مارست تشويهها المتعمد لمشهد الحسين العام الماضي، وضربت بسور خانق على ساحته، عادت وكررت فعلتها في مشهد السيدة نفيسة، الذي يعد أحد أكثر المراكز الروحية للمصريين في عاصمتهم على مدار أكثر من ألف سنة، الأمر الذي أثار موجة استياء واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمؤرخين وأثريين ومهندسي عمارة وغيرهم من المهتمين بتراث مدينة مركبة التاريخ مثل القاهرة.

***

المهندس طارق المري، استشاري الحفاظ على التراث وعضو لجنة التراث بالاتحاد الدولي للمعماريين، عبر عن استيائه الشديد مما جرى في مشهدي الحسين والسيدة نفيسة، وكتب عبر صفحته الشخصية على فيسبوك: “إن ما حدث في الأونة الأخيرة في ضريحي الحسين والسيدة نفيسة، ما هو إلا إهدار للقيمة التاريخية لهما، بدافع التطوير ذلك التطوير الذي محى فنيات وعلامات تاريخية تشهد على تطور البناء على مر الزمن، وتدمير عناصر أصلية وإبدالها بعناصر أقل ما يقال عنها انها اعمال فنية ركيكة غير ناضجة مقارنة بالأصل التاريخي المزال”.

مسجد السيدة نفيسة
مسجد السيدة نفيسة

وعبر المري عن حزنه الشديد بعد السماح لغير المتخصصين بالتلاعب بالآثار المصرية، وقال: “إن تراثنا المعماري الإسلامي أصبح لعبة في أياد غير متخصصة، وغير دراسة لأصول الحفاظ والترميم والتعامل مع مباني ومناطق تاريخية، ففي كل العالم هناك المتخصصون الدارسون لعلوم الحفاظ المعماري والعمراني، كما تذخر بلدنا بالعديد منهم، لكنهم للأسف مهمشون ليحل محلهم غير المتخصص وغير الدارس، وكما نرى نتيجة هذا العبث ما هو إلا مسخا لتاريخ القاهرة التاريخية وتراثها وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا”.

وعن أبجديات الترميم المتعارف عليها عالميا وتم إهدارها في عملية ترميم مشهد السيدة نفيسة أضاف المري: “بداية منذ أواخر القرن التاسع عشر والاهتمام بترميم الآثار أصبح بارزا على طاولة الثقافة، وأصبح له متخصصين مهتمين بتلك النوادر الفنية، وعلى مر تلك السنوات والتي تزيد عن قرن من الزمان  ظهرت العديد من النظريات والممارسات المتباينة والمختلفة في بعض مناهجها وتفاصيلها التقنية، لكن كل المدارس وكل المناهج اجتمعت على نقطة واحدة أساسية تدور حولها كل مناهجهم ومدارسهم تختلف وتتباين مع ثبات تلك النقطة، ألا وهي الحفاظ على الهوية التاريخية للمبنى، واحترام تفاصيله الفنية والأصلية، وضع تحت كلمة الأصلية مليون خط”.

***

من جهتها، عبرت الدكتورة أمنية عبد البر، الباحثة بمتحف فيكتوريا وألبرت بلندن، عن صدمتها مما حدث في مشهد السيدة نفيسة، وكتبت بلغة تعبر عن مشاعر حارة وغاضبة على صفحتها الشخصية على فيسبوك: “إزاي نسمح لنفسنا أننا نسيبها للبهرة يبهدلوا ضريحها؟ إزاي أصلا نوافق أن حد تاني يتكفل بترميم أضرحة أهل النبي؟”، ووصفت ما جرى للمشهد بـ “التشوه البصري والمعماري”، وتابعت في استنكار: “أي حد يشخبط أي رسمة بدعوى التطوير وينفذها بدون أي اعتبار لتاريخنا الطويل”.

ولفهم ما جرى من تدمير لا بد من رواية القصة من بدايتها، لكي نستوعب حجم التشويه الذي ألحقه البهرة بالمكان ومن قبل بأن يشاركهم هذه الجريمة في حق مصر وتراثها. البداية ترجع لألف عام قد خلت، عندما قررت السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أن تعيش في مصر، وقد اتفق المؤرخون والإخباريون على أن قبرها في مصر صحيح وثابت منذ وفاتها في سنة 208 هـ/824م، إذ دفنت في منزلها حيث قبرها الآن، وهناك روايات تتحدث عن أنها حفرت قبرها بنفسها.

ورويت الكثير من الأخبار في زهدها وصلاحها وإخلاصها في العبادة حتى ألف الشريف النسابة الجواني فيها وفي بركة مشهدها كتاب (الزورة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة)، وذلك في العصر الفاطمي الذي شهد عناية خاصة بمشهد السيدة نفيسة إذ أجريت ترميمات واسعة له في عصر الخليفة المستنصر ووزيره القوي بدر الجمالي، وأضيف باب مصفح من الحديد لمشهدها، كما جدد الخليفة الحافظ لدين الله القبة المقامة على الضريح، ولدينا أثر نادر من مشهدها يعود إلى العصر الفاطمي يتمثل في محراب خشبي متنقل غاية في الروعة والجمال محفوظ حاليا في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة.

***

تحول مشهد السيدة نفيسة إلى نقطة جذب روحية هائلة للمصريين منذ زمن طويل، فاعتقدوا أن الدعاء عند قبرها مقبول، لذا لم يكن غريبا أن يكون محل اهتمام مستمر للخلفاء والسلاطين، فوجدنا السلطان الناصر محمد بن قلاوون يلحق بالمشهد جامعا سنة 714هـ/ 1314م، كما أمر بأن يتولى نظارة المشهد النفيسي الخلفاء العباسيين بالقاهرة، ومقابر هؤلاء الخلفاء تقع خلف مشهد السيدة نفيسة الآن، وظل الاهتمام بالمشهد متواصلا سواء من المصريين أو الحكام، مرورا بتجديدات السلطان قايتباي، وصولا إلى العصر العثماني إذ أجرى عبد الرحمن كتخدا عملية ترميم واسعة بالجامع والمشهد سنة 1173هـ/ 1759م، وفي عصر أسرة محمد علي استمر الاهتمام بالجامع، فعملت مقصورة من النحاس حول الضريح في عهد عباس باشا الأول سنة 1850م.

ومع الحريق الذي شب في الجامع سنة 1892م، أمر الخديو عباس حلمي بإعادة بناء الجامع والمشهد من جديد وتم ذلك في حدود سنة 1897م، وهي العمارة القائمة حاليا، وقد سجلت عدة كتابات تأسيسية على المدخل الرئيسي بالواجهة الشمالية الغربية، وفي حشوة تاريخ تعلو باب الروضة الأيمن للمنبر، كما وضع رنك كتابي أعلى حائط بمشهد السيدة نفيسة، حمل عبارة: “عز مولانا الخديوي عباس حلمي الثاني أدام الله أيامه”، ونفذت عملية التجديد الشامل في عهد الخديو باستخدام نماذج بناء مستوحاة من فنون العمارة المملوكية فجاء بناء الجامع متماشيا مع محيطه من المساجد والقباب. ولم يدخل أي تغييرات عميقة على بنية الجامع أو المشهد باستثناء تجديدات وتوسعات في عصري الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك.

***

المدهش أن عمليات الترميم المتواصلة والتي شهدت تدخلات كثيرة على مدار مدى زمني يصل إلى ألف عام تقريبا، احترمت مبدأ في غاية الأهمية وهو أن تكون عمليات الترميم معبرة عن الهوية المعمارية للمكان ومتناسبة مع غيرها من أشكال معمارية نعبر عنها الآن بمصطلح العمارة المصرية أو الهوية المصرية للعمارة، فلم يكن بناء المشهد أو الجامع بجواره بمثابة شذوذ معماري بل كان متماشيا مع تطور العمارة المصرية ومواكبا لها، ويعكس في الآن نفسه فلسفة المصريين في التعامل مع مشاهد آل البيت، التي غلب عليها السكون والهدوء والزهد والبعد على البهرجة واعتماد البساطة التي تأسر من يزور هذه المشاهد، فالتأثير الذي أرادت عمارة المشاهد أن توصله للزائر هو أن البساطة والبعد عن البهرجة هي نفس روح آل البيت خصوصا السيدة نفيسة التي عرف عنها الزهد والتقشف في الحياة، وهي حالة وفلسفة احترمها المعمار المصري على مدار ألف سنة تقريبا.

 

مسجد السيدة نفيسة من أعلى القلعة - المصدر موقع ويكيبيديا
مسجد السيدة نفيسة من أعلى القلعة – المصدر موقع ويكيبيديا

لكن هذا كله طوته روح غريبة هبت على مصر ولا تعرف خصوصية الحالة الصوفية التي تربط المصريين بآل البيت، نسفت هذه الروح الغريبة هذه الحالة من جذورها، واستخدمت مواد رخيصة مبهرجة محت معالم مشهد السيدة نفيسة، في عدوان بصري ومعماري، فاختفت مقصورة المشهد القديمة في ظروف غامضة، ومعها الرنك الكتابي للخديو عباس حلمي، وتم محو نص تذكاري للرئيس الأسبق أنور السادات المتواجد على الرخام بجوار باب دخول الرجال للمشهد، بل أن باب المشهد المحلى بالفضة نفسه اختفى، بينما استخدم طراز معماري أكثر بهرجة ينتمي إلى العمارة الهندية التي حملها معهم البهرة (كلمة كجراتية تعني التجار لتجارتهم في التوابل) الذين تواجدوا في مصر بوضوح منذ عصر الرئيس السادات، وتصاعد وجودهم منذاك حتى الآن.

***

وينظر البهرة إلى القاهرة المسورة باعتبارها مدينة مقدسة لأنها المدينة التي أسسها الأئمة الفاطميون وهم أئمة المذهب الإسماعيلي؛ المذهب الرسمي للخلافة الفاطمية، وينظر إلى الأئمة/ الخلفاء بشيء من التقديس، وينتمي البهرة إلى أحد فروع الإسماعيلية المنشقة التي تعرف أصلا باسم الإسماعيلية الطيبية نسبة إلى الطيب بن الخليفة الآمر بأحكام الله، والتي تمركزت أساسا في اليمن ومنها انطلقت عبر طرق التجارة إلى الساحل الغربي للهند، حيث استطاع دعاة الطيبية الإسماعيلية نشر أفكارهم وجذب الكثير من الهنود إلى قضيتهم، ولما كانوا يستخدمون التجارة خصوصا تجارة التوابل، كغطاء لنشاطهم عرفوا بالبهرة أي التجار.

ووضع البهرة خطة بموافقة الحكومات المصرية منذ الثمانينات على استعادة الآثار الأصلية للفاطميين في القاهرة من حالتها المتدهورة، فأنفقوا على عمليات ترميم جامع الحاكم بأمر الله المتهالك، ثم جامع الأقمر الذي أعادوا بناء النصف الأيمن لواجهته الذي سبق وأن هدم منذ زمن طويل، كما تولوا عملية ترميم المشهد الجيوشي فوق هضبة المقطم، وكذلك رمموا مسجد اللؤلؤة بالإباجية، ومن أسف أنهم استولوا عليه ولا يسمحون للمصريين بدخوله، وبعد أن انتهوا من ترميم معظم الآثار الفاطمية في القاهرة المقدسة بالنسبة لهم بأساليب ترميم محل جدل بين المتخصصين، بدأوا في مد أنظارهم لمشاهد آل البيت فبدأوا بمشهد الحسين، وأفقدوه طابعه المصري ومسخوه بعمارة غريبة وافدة من الهند لا تناسب الذوق المصري ولا تاريخ فنه وعمارته، ثم كرروا فعلتهم في مشهد السيدة نفيسة في عبث لا يليق بمكانة هذه المشاهد في نفوس المصريين، الذي يشعر قطاع منهم بالغربة الآن عند التعامل مع مشاهد تعكس البذخ والبهرجة بشكل منفر ولا يحتوي على أي حس جمالي.

***

إن ما يجري الآن في مشاهد آل البيت هو جريمة متكاملة الأركان في التراث المصري الذي أوجد صيغة لتناغم الطبقات التاريخية رغم تنوعها. فتجد صلة ما بين الطرز الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، وهو ما تجلى في مشاهد آل البيت التي كانت محل تقدير المصريين دوما وتبجيل الحكام بغض النظر عن خلفية الطبقة الحاكمة. لذا عكست أضرحة آل البيت خصوصية مصرية فكانت مميزة بصريا عن مشاهد آل البيت في العراق مثلا.  لكن هذه الخصوصية تم نحرها على مذبح موافقة الحكومة المصرية للبهرة بأن يتولوا عملية ترميم مشاهد آل البيت التي انقلبت إلى محض تشويه للهوية البصرية للمكان وأفقدته طابعه المصري. الأمر كله عبثي ويفتقد لأي معنى فلا توجد حكومة في العالم تسلم تراث بلدها لآخر، يفعل فيه ما يشاء ويضع عليه بصمته ويمحي البصمة المحلية، أمر لم يفعله الإنجليز أنفسهم إبان فترة احتلالهم لمصر.

اقرا أيضا:

القرافة في السينما.. واقعية لم تستغل السحرية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر