سهرة سياسة على شرف جيفارا في بيت إحسان عبدالقدوس

في شهر يناير رحل الكاتب الروائي والصحفي الكبير إحسان عبدالقدوس، وكذلك الدكتور عبدالعظيم أنيس صاحب التاريخ النضالي الكبير، وقد جمعت بينهما صداقة وعلاقة عمل بدأت منذ عام 1952 عندما دعا إحسان الدكتور أنيس للكتابة في روزاليوسف، وظل يكتب فيها حتى تم فصله من الجامعة في نهايات عام ،1954 وبعدها سافر إلى لندن للعمل هناك في إحدى الجامعات ووقتها كتب إحسان عبدالقدوس مقالا في روزاليوسف عن الدكتور أنيس بعنوان: “الرجل الذي سرقه الإنجليز”.

وظل اهتمام روزاليوسف بعبدالعظيم أنيس متصل وهو في لندن وبعد صدور مجلة صباح الخير أجرت المجلة حوارا مع أسرته في لندن عام 1956 وعندما عاد الدكتور عبدالعظيم إلى مصر عقب العدوان الثلاثي فتحت له مجلة صباح الخير ليكتب فيها أولى مقالاته بعد عودته للوطن بعنوان: “أنا عائد إليكم من أرض الأعداء”.

من ضمن المشاهد الجديرة بالكتابة والتي جمعت بين إحسان عبدالقدوس وعبدالعظيم أنيس ذلك اللقاء النادر الذي جمع بينهما مع المناضل الثائر تشي جيفارا عام 1965، وكان جيفارا عائدا من الجزائر بعد حضوره مؤتمر القارات الثلاث والذي انتقد فيه شروط معونة الدول الاشتراكية للدول النامية وأثار كلامه وانتقاداته للدول الاشتراكية الكبيرة جدلا واسعا، وقد كان اللقاء في بيت إحسان عبدالقدوس، وضم اللقاء كل من خالد محي الدين، وأحمد حمروش، وأحمد بهاء الدين، وموسى صبري، وعبدالعظيم أنيس، وفؤاد الركابي وزير الشؤون البلدية العراقي وزوجاتهم فيما عدا زوجة الدكتور عبدالعظيم أنيس التي كانت مريضة، وقد كتب عن هذا اللقاء بالتفصيل أحد شهوده وهو موسى صبري في مجلة “آخر ساعة” في العدد “1586” الصادر يوم 17 مارس 1965 تحت عنوان: “جيفارا في سهرة سياسية” وهو المقال الذي أشار إليه عبدالعظيم أنيس في مذكراته ووصفه بالمقال الممتاز، وسنلاحظ في الحوار أن جيفارا وضع يده على أهم مشاكل التجربة الاشتراكية في العالم، بل أنه وهو في عام 1965 يكاد يكون قد تنبأ بما سيحدث بعد ذلك بما يقرب من ثلاثة عقود عندما انهارت التجارب الاشتراكية بسبب سوء التطبيق الذي انتقده جيفارا كثيرا حتى أنه شبه تعامل الدول الاشتراكية الكبيرة مع الدول النامية بأنه لا يختلف عن تعامل الدول الرأسمالية.

جيفارا وعبدالناصر
جيفارا وعبدالناصر
جيفارا في سهرة سياسية

“قلت له وأنا أسلم عليه في منزل إحسان عبدالقدوس”:

– لقد لقيتك من قبل في هافانا ودار بيننا حديث طويل سجلته في كتابي عن ثورة كوبا، وقال جيفارا وزير صناعة كوبا وهو يشير إلى السفير الكوبي في القاهرة

– لقد حدثني السفير عن الكتاب وبكل أسف لم أستطع قراءته لسبب بسيط لأنه باللغة العربية

وكان ضيوف إحسان يلتفون في حلقة كبيرة حول هذا الثائر (36سنة) الوسيم القسمات الذي يطلق شعر رأسه وذقنه فيبدو كقراصنة البحار.

الضيف والأصدقاء

استمرت السهرة في منزل إحسان حتى تجاوزت منتصف الليل والمناقشات السياسية لا تنقطع حتى على مائدة الطعام. خالد محي الدين يريد أن يسمع من جيفارا عن تجربة التطبيق الاشتراكي في كوبا وفؤاد الركابي يريد أن يعرف وجهة نظر جيفارا كماركسي ألا يمكن أن تلتزم بالاشتراكية دون أن نلتزم بالماركسية وإحسان عبدالقدوس يستوضح من جيفارا هل ترى معي أن التعاون الاقتصادي بين الدول الاشتراكية غنيها وفقيرها يجب أن يقوم على أساس اشتراكي جديد؟، والدكتور عبدالعظيم أنيس يهمه أن يسمع من وزير صناعة كوبا كيف واجهتم مشكلات الإنتاج والاستهلاك وأحمد بهاء الدين يتدخل خلال المناقشات إما مترجما أو مفسرا أو مثيرا لمشكلة، ويعيننا في الترجمة من الفرنسية إلى العربية أحمد حمروش الملتهب حماسة لكل رأي يقوله جيفارا وكلما راجعته في هذا الالتهاب اتهمني بسوء القصد وظلام النوايا.. وهكذا سهرة سياسية مفيدة ممتعة لا تخلو من المرح والدعابة.

خدعتني يا جيفارا

قلت لجيفارا: لن أنسى لك أنك خدعتني عندما لقيتك في كوبا

قال: كيف؟

قلت: لقد سألتك هل أنت شيوعي Communist فأجبتني: لا أنا اقتصادي econimic وضحكنا طويلا.

وبدأ جيفارا يروي الخطوط الرئيسية لتجربة التطبيق الاشتراكي فقال:

– الواقع أن الثورة الكوبية لم تبدأ ثورة ماركسية حتى استولينا على الحكم. كانت ثورة ضد الاستعمار الأمريكي، ثورة ضد الاستبداد، ثورة من أجل الإنسان وكنت أنا وراؤول كاسترو (شقيق كاسترو) هواة ماركسية باعتبارها نظرية تتفق مع آمالنا. لم يكن ذلك عن دراسة وافية أو علم كاف بالماركسية، وهذه الحقيقة أقولها مخلصا وببساطة، وتولينا الحكم وبدأنا نواجه المسؤولية.. كيف نحقق آمالنا وأحلامنا لرفع مستوى معيشة الشعب.. أمريكا والاستعمار العالمي يحاربنا يعرقل خطوات الثورة ويقف منها موقف العداء، كانت كوبا مستعمرة أمريكية. ما هي الطريق أمامنا كدولة متخلفة تريد أن تصبح دولة نامية ومن ثم دولة متقدمة؟، وجدنا الحل الاشتراكي هو السبيل الوحيد.

الدكتور عبدالعظيم أنيس: ماذا فعلتم لمواجهة مشكلة الاستهلاك؟، هل هو مقيد في كوبا؟، وما هي مواد الاستهلاك المقيدة؟

جيفارا: كل مواد الاستهلاك عندنا.. الطعام، الكساء، كل شيئ يحدد استهلاكه بالنسبة للفرد والقرية، وضحك جيفارا وهو يقول: هناك استثناءات

– وما هي؟

– الهواء وماء البحر

ثم استطرد يقول: هذه مشكلة فرعية، إنها أحد وجوه مشكلات التطبيق الاشتراكي ولذلك فإني حريص على أن أروي لكم خطوط التجربة كاملة من أولها، لقد قرأنا أسس الماركسية في المرجع الذي أصدره الاتحاد السوفيتي. إنه يصف الاشتراكية بأنها الطريق إلى سد حاجات الجماهير المتزايدة، ولكن نظما أخرى وضعت لتسد حاجات الجماهير ولكن الفرق يظهر في التطبيق.

عبدالعظيم أنيس: هل نجح التطبيق الاشتراكي في ذلك؟، ولماذا لم يحقق في بعض الدول ما كان يجب أن يحققه؟

– جيفارا: دعنا من هذا الآن فسأناقشه بعد ذلك، أعود وأقول: كنا مندفعين إلى السرعة في إجراء إصلاح.. في تحقيق العدل الاجتماعي.. إذن فلنستفيد من تجارب الآخرين وبدأنا نحاكي تجربة التطبيق الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا.

– ولماذا أخذتم تشيكوسلوفاكيا تحديدا؟

جيفارا: دون أي قصد لقد أرسلت لنا التشيك تفصيلات عن تجربتها وكنا في لهفة إلى سرعة العمل فبدأنا دون تخطيط سليم.. ثم ضحك وهو يقول:

– وعلى ذكر التخطيط السليم وردا على إجابة عبدالعظيم أنيس الأولى عن الإنتاج والاستهلاك والخدمات، لقد وضعنا خطتنا الأولى على أساس أن تكون مشروعات الخدمات 70% ومشروعات الإنتاج 30% فقط. هذه مشكلة كبيرة، الشعوب في الدول المتخلفة في أمس الحاجة إلى الخدمات بعد حرمان طويل، بدأنا ننشئ المصانع وارتكبنا أخطاء فاحشة لأننا لم ندرس الدراسة الكافية ولم نخطط التخطيط السليم. مثلا أنشأنا مصانع لإنتاج الفؤوس التي تقطع الزرع واستوردنا آلات المصنع فوجدنا أننا في حاجة إلى مواد خام نشتري بالدولار. اشترينا المواد فماذا كانت النتيجة؟، المادة المصنوعة أصبحت تكلفنا أكثر لو كنا اشتريناها جاهزة من خارج البلاد. وينطبق ذلك على صناعات أخرى ولكننا استفدنا من هذه التجربة.

وهنا وجه المتحدث سؤالا وأحمد حمروش يقدم له سيجارا ويعترض على كل استدراك من موسى صبري، وأحمد بهاء الدين يصب الشاي، والدكتور عبدالعظيم أنيس يردد: حوار ممتع، وإحسان يسأل في كرم: حد عاوز قهوة ولا شاي والزوجات في الصالون الآخر ضجرات من هذه العزلة الرجالي المحتكرة لحديث السياسة.

سأل جيفارا: لماذا وقعنا في هذه الأخطاء وأجاب هو على السؤال: إن ماركس لم يضع حلولا.. لم يضع وسائل للتطبيق الاشتراكي إنه اكتشف حقائق استغلال رأس المال.. حقائق فائض القيمة وضع تنبؤات على أساس ما كان يجري حوله. فكرة الإفقار المستمر للطبقة العاملة الذي يسير عليه النظام الرأسمالي كانت حقيقة في عصره ولكن النظام الرأسمالي القادر لا ينتهج الآن هذا النهج.

خالد محيى الدين: أعتقد أن الدول الرأسمالية ترمي عبء إشباع شعوبها على المستعمرات؟

جيفارا: هذا ما أعنيه تماما.. إذن أنت تتفق معي هناك أوضاع عالمية سواء في المجتمع الرأسمالي أو الاشتراكي قد تغيرت الآن. إن الدول النامية التي تتجه إلى الاشتراكية لا تجد أمامها تجربة في تطبيق الاشتراكية.

موسى صبري: ماركس لم يتعرض للتطبيق ولكن لينين بدأها.

خالد محيى الدين: لينين مات قبل أن يبدأ التطبيق الاشتراكي تطبيقا عمليا.

موسي صبري: شرع في الأسس ومن بعده تجربة ستالين وتجربة الصين وتجربة دول أوروبا الشرقية.

عبدالعظيم أنيس: جيفارا يقصد تجربة التطبيق الاشتراكي بالنسبة للدول النامية هذه تجربة جديدة.

تجربة الاتحاد السوفيتي

ويمضي جيفارا:

إن الاتحاد السوفيتي كدولة كبيرة لها موارد غنية سارت في تجربة التطبيق الاشتراكي على أساس الاكتفاء الذاتي.. هذه تجربة لها ظروفها وكان لابد منها.. بعد الثورة تعرضت الاشتراكية لحرب داخلية فكانت معركة طويلة، ثم كان الحصار الرأسمالي حول التجربة. واستطاع الاتحاد السوفيتي أن يكيف التجربة وفق ظروفه وساعده على ذلك كما قلت قدراته على الاكتفاء الذاتي.

ويطفئ جيفارا سيجاره ثم يقول: وماذا حدث بعد ذلك؟، لقد قدمت تجربة الاتحاد السوفيتي لغيرها من الدول الاشتراكية في أوروبا كما هي في قالب مصبوب ولم يكن لدى أحد الشجاعة الكافية ليناقش ليعارض ليكشف أوجه النقص. هناك ظروف جديدة في التطور العالمي لابد أن تكون موضع اعتبار لم تكن أمام عيني ماركس.

خالد محيى الدين: التقدم العلمي.. التقدم التكنولوجي الخطير في الدول المتقدمة.

أحمد حمروش: الراجل بيتكلم كويس قوي..

إعادة نظر واجبة

يستمر جيفارا: من الظواهر التي يجب أن نتداركها مثلا، لماذا لم تنجح الدول الشيوعية في الإنتاج الزراعي؟، سؤال آخر لماذا زاد الإنتاج الصناعي في بعض الدول الرأسمالية بنسبة كبيرة عن الدول الشيوعية.. لابد من بحث الأسباب، إن النظرية الماركسية الاقتصادية نظرية سليمة.. هناك التطبيق. لابد من البحث عن أخطاء التطبيق.. لابد من إعادة النظر في تطبيق نظرية فائض القيمة. لابد من إعادة النظر في فكرة الربح في النظام الاشتراكي لابد من إعادة النظر في فكرة الحافز. أنا لا أزعم أن لدي حلولا واضحة ولكنني أقول أنه لابد من دراسة عميقة تواجه الحقائق في العالم الاشتراكي.

إحسان عبدالقدوس: لقد فهمت من بحث نشر لك أنك تطالب الدول الاشتراكية الغنية بمواردها وإنتاجها بأن تعطي الدول الاشتراكية النامية؟

جيفارا: هذا صحيح أننا نعتقد أن التطبيق الاشتراكي في كوبا يجب أن يرتبط بمصالح الطبقة العاملة في العالم الاشتراكي. وأن وحدة مصالح الطبقة العاملة تعني أن يرتبط التطبيق الاشتراكي بالتجارة العالمية لا أن ينعزل عنها أو يخضع لما تفرضه الدول الرأسمالية عليه.

أحمد بهاء الدين: هذه المشكلة هي جوهر ما بحثه مؤتمر جنيف للدول النامية.

موسى صبري: المشكلة أن الدول الاشتراكية الغنية تشتري من الدول النامية مواردها بالأسعار العالمية. أي بالأسعار التي تشتري بها الدول الرأسمالية.

جيفارا: هذه مشكلة رئيسية.

وكانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل.. وكانت المناقشة عذبة سلسة مثمرة ورفعت الجلسة على أن تعود للانعقاد في هافانا.

وقال جيفارا مودعا: صدقني أنني لم أخدعك في هافانا أنني لست شيوعيا.. في ذلك الوقت كنت فقط من هواة الماركسية.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر