ليلة أن مات سيد درويش

في سبتمبر 1923 كانت الأمة المصرية مشغولة بحدثين هامين، الأول هو قرب عودة سعد باشا زغلول من منفاه بجزيرة سيشل، والذي كان قد نفي إلى هناك منذ عام 1921 وتقرر عودته يوم 17 سبتمبر 1923. أما الحدث الآخر أو القضية الأخرى فقد كانت محاكمة مدام فهمي قاتلة زوجها الوجيه علي بك فهمي. وكانت أخبار تلك القضية تتصدر الصفحات الأولى من الصحف والمجلات وقتها بما كانت تعكس نظرة الغرب إلى الرجل الشرقي وربما كان أكثر ما يدل على ذلك هو ما ذكره محامي «مارجريت فهمي»: «أن مدام فهمي قد تكون ارتكبت أعظم خطأ يحتمل أن تقع فيه امرأة غربية وهو اقترانها بشرقي».

الإسكندرية العودة الأخيرة

في خلفية هذه الأحداث كانت الرحلة الأخيرة لسيد درويش إلى الأهل والأصدقاء والمحبين في الإسكندرية. حيث سافر ليكون في استقبال سعد زغلول وليحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذي لحنه لاستقباله. وما كاد يطمئن المقام له في المدينة حتى ذهب إلى أماكن كان يغشاها وأصدقاء كان يحتفظ لهم بالود. ولم يكن أحد يعلم أنها رحلة الوداع وأن هذا آخر العهد بلقاء المحبين بل لم يكن أحد يعرف أن القدر سمح بهذا اللقاء حتى تكون الفرصة الأخيرة وحتى تكون الأرض التي ولد بها هي التي يتوارى تحت ترابها.

استقبلته شقيقته في محرم بك عائدا إلى منزلها في منتصف الليل، وقد ظننته عائدا للنوم ولم تدري أنه قادم للموت حين كان فجر اليوم الخامس عشر من سبتمبر. ولعل أعمق ما قيل في وصف حالة سيد درويش عند وفاته هو الوصف الذي استخدمه الدكتور محمود الحفني: “كان موته على هذه الصورة مفاجأة غير طبيعية ولا منتظرة. كان لا يزال في أوج شبابه يباهي بقوة جسده وسلامة بنيانه، ولعل هذا كان مصدر الثقة بالمقادير والاطمئنان إليها”.

مات سيد درويش ولم يشعر بوفاته أحد بل لم تكتب عنه أي صحيفة في الحال. وكانت جنازته تسير على استحياء مخترقة شارع محرم بك لم يسع خلفه سوى سبعة أشخاص وبعضهم لم تربطه بسيد درويش صلة من قبل بل سار خلفه بغية الأجر والثواب. لم يسأل عن الجنازة أحد لصغر حجمها، لا من المارين في الشارع ولا من الواقفين على الأرصفة. فهذا التساؤل عادة يثار عندما تكون الجنازة مهيبة يمشي خلفها الألوف، لكن جنازة يسعى خلفها سبعة فقط عادة ما تكون لشخص لا يحسب لمجيئه أو رحيله أي حساب. هكذا كانت جنازة سيد درويش مضى متسللا من الدنيا في هدوء والأمة مشغولة بعودة سعد زغلول وبقضية مدام فهمي.

الصحافة وخبر وفاة سيد درويش

في صباح يوم 15 سبتمبر 1923، وبينما كان جسد سيد درويش ينطلق إلى ظلام القبر، كانت صحيفة المقطم تنشر مقالا بعنوان “الكوكايين أيضا”. وكأنها مفارقة غريبة لها دلالاتها وكأن هذا المقال كان بديلا عن نعي وخبر وفاة سيد درويش، فيختفي من الصحف أي أخبار عن وفاة هذه العبقرية الموسيقية النادرة لينشر مقالا عن الكوكايين جاء فيه: “ليس من المدنية التغلغل في طريق الضلال والفساد ولا من الرقي والتقليد الأعمى. فكم حادثة كانت شاهدا على أن كثيرين لا يسلكون غير هذه الطريق الوعرة التي لا تعود عليهم وعلى الوطن والأمة إلا بالخسارة والتأخر المعيب. نادينا وسننادي في كل آن حتى يعمل أولو الأمر على توقيف تيار المواد السامة التي شاع تعاطيها وانتشرت انتشارا مخيفا ليس بين الطبقة الفقيرة أو المتوسطة فقط بل بين الطبقة المتعلمة الراقية وأصحاب المراكز العالية أيضا”.

وكان أول خبر لوفاة سيد درويش ينشر في الصحف هو ما كتبه الدكتور محمد حسين هيكل في السياسة يوم 17 سبتمبر. كتب يقول: “بلغنا خبر وفاة ملحن في طليعة الملحنين المصريين، إن لم يكن أولهم وهو الشيخ سيد درويش.. فاضت روحه بالإسكندرية مسقط رأسه وهو لم يزل بعد في ريعان شبابه”.

مقال بديع خيري في صحيفة المقطم عن سيد درويش
مقال بديع خيري في صحيفة المقطم عن سيد درويش
صحيفة المقطم

وفي يوم 21 سبتمبر كتب بديع خيري مقالا في صحيفة المقطم بعنوان: “دمعة على النابغة” كتب فيه: “حضرات الدكاترة الأماجد أصحاب المقطم الأغر. مات أمس الأول نابغ في ريعان شبابه، كان أقدر مؤلف موسيقى عرفته المسارح المصرية في نهضتها الأخيرة. ذلك هو المرحوم الشيخ سيد درويش. أول من أوجد صلة من الفن الحديث بين الموسيقيين الشرقية والغربية- مات هذا العالم الفنان- فما حرك أنصار النهضة الأدبية ساكنا ولا أبدوا أية مواساة عائلية ميلا ما. ولست أدري بعد كل هذا أتنصفه الصحافة بكلمات من عندها. أم تبخل حتى تنشر هذه القصيدة من زميل كانت تربطه به صناعة المسرح أكثر من غيره. أني أبعث إليكم بها على أمل أن أعود للمقطم بالشكر إذا تفضلتم بتحقيق رجائي في إثباتها على صفحاته مصدرة بكلمتي هذه إليكم.. بديع خيري”.

وتنشر المقطم قصيدة الرثاء مع كلمة بديع خيري التي تحمل بعض العتاب على الصحافة التي لم تهتم بوفاة سيد درويش. وكما واضح من مقدمة كلمة بديع خيري أن الصحيفة أيضا تأخرت في نشر هذا الرثاء. فقد نشر يوم 21 سبتمبر وبديع خيري يفتتحه بعبارة: “مات أمس الأول” من الواضح أنه قد أرسله يوم 17.

وتتوالى المفارقات ففي نفس صفحة مقال بديع خيري يوجد مقال بعنوان “الأفيون” جاء فيه: “أن هذا الصنف انتشر في طول القطر وعرضه. فلا تخلو مدينة أو قرية من تاجر يبيعه إما بالجملة أو بالقطاعي. لأنه رخيص بالنسبة إلى سائر المكيفات مثل الحشيش والكوكايين والخمر. والوصول إليه سهل بل يسير الحصول عليه ويقتل بالنفس مثل باقي المكيفات أن لم يكن أشد فتكا”.

اللطائف المصورة

كانت وفاة سيد درويش التي تزامنت مع عودة سعد زغلول من المنفى تتشابه مع وفاة “مصطفى لطفي المنفلوطي”، الذي توفي يوم نجاة سعد زغلول من محاولة اغتيال عام 1924. وقد نعاه أحمد شوقي في قصيدته المعروفة:

اخترت يوم الهول يوم وداع

ونعاك في عصف الرياح الناعي

من مات في فزع القيامة لم يـجد

قدما تشيع أو حفاوة ساعي.

عدد اللطائف المصورة
عدد اللطائف المصورة

وهكذا صدر العدد الجديد من اللطائف المصورة يوم 17 سبتمبر 1923 بعنوان عريض ليس فيه أثرا لوفاة سيد درويش. بل كان العنوان يقول: “ابتهاج الأمة بعودة زعيمها وحرمه المصون”. ويقول الخبر الذي تصدر الصفحة الأولى: “مصر اليوم في عيد كبير.. الأمة المصرية على بكرة أبيها تخرج اليوم لاستقبال زعيمها الأوحد سعد باشا زغلول. تخرج بدافع الشوق والحنين إلى لقياه، تخرج لإظهار عواطف الحب الصادق والولاء الدائم والاحترام العظيم. وفي ذلك الوقت كان محمد يونس القاضي صديق سيد درويش يجهز قصيدة بمناسبة عودة سعد باشا. وقد نشرها بالفعل في نفس العدد بعنوان: “سعد شرف مصر يا ألف نهار أبيض” كان مطلعها يقول:

فين قميص يوسف وفين يعقوب يشوفو

مهرجان الأمة بالفرد العلم

سعد باشا اللي بنا في أرض خوفو

مجد شعبه مثل بنيان الهرم.

**

ولم تنشر اللطائف المجلة المصورة الأكبر انتشارا في مصر وقتها أي أخبار عن وفاة سيد درويش إلا في عددها الصادر في الأول من أكتوبر 1923. بل لقد أرجأت نشر كلمة رثاء ليونس القاضي في صديقه سيد درويش إلى عدد 8 أكتوبر. بينما أخبار قضية “مارجريت فهمي” تتصدر عدة صفحات من المجلة.

وفي عدد 8 أكتوبر يكتب يونس القاضي مقالا بعنوان: “الشيخ سيد درويش” كتب فيه: “الألفاظ الجوفاء والمعاني المنتقاة يسوقها الكاتب ليرثي نجما هوى وهذا لا يأتى إلا لمن يملك عنان مخيلته ويكبح جماح براعته. وهذه شجاعة أصبحت أحسد عليها كل من استطاع أن يخط قلمه كلمة يرثى بها فقيد الموسيقى العربية الأستاذ الشيخ سيد درويش. وأني اقترح على الملحنين عموما وأصدقاء المرحوم الأستاذ الشيخ سيد درويش أن تقام حفلة الأربعين في مسرح من المسارح التي خدمها. وأنا أقوم بنظم مرثية يشترك في تلحينها كل خبير بالفن. حتى نتكاتف كلنا علنا نصل إلى نفسانية هذا النابغة ونرضى روحه في مقامها الأسمى. والدخول إلى هذه الحفل يكون برسم يتفق عليه ورجال الغناء يقومون بتوقيع هذه المرثية. وأن ما يجمع من الحفلة يسلم إلى ذويه وهم أدرى بأوجه التصدق على روحه”.

مقال يونس القاضي
مقال يونس القاضي
التجاهل مستمر لذكرى درويش

ظل سيد درويش يعاني من التجاهل والظلم لذكراه وهو تجاهل لا يستقيم مع قيمته الفنية العالية وعبقريته الموسيقية. فلم تشهد حفلات تأبينه إلا اهتماما بسيطا. وهذا ما دعا الأستاذ عباس العقاد أن يكتب في ذكراه الثانية في سبتمبر 1925 مقالا في جريدة البلاغ. كتب فيه مذكرا بسيد درويش ومعاتبا أيضا الحكومة والأمة بسبب هذا التجاهل. فكتب: “في مثل هذا الشهر منذ عامين مات السيد درويش. وإذا قلت سيد درويش فقد قلت إمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان. مات والقطر كله يصغى إلى صوته وسمع نعيه من سمعوا صوته ومن سمعوا له صداه من مرتلي ألحانه ومرددي أناشيده. فما خطر لهم إلا القليلين منهم أنهم يسمعون نبأ خسارة خطيرة. وأن هذه الأمة قد فجعت في رجل من أفذاذ رجالها المعدودين”.

ويتابع العقاد في مقاله قائلا: “لم تبال الحكومة أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكراه كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا”.

الإذاعة المصرية 

عندما افتتحت الإذاعة المصرية عام 1934 ظن محبو سيد درويش أنه قد آن الأوان لرفع الظلم عنه. وأن الإذاعة المصرية ستعيد إليه اعتباره وتوالي إذاعة ألحانه، ولكن سرعان ما خاب ظن الجمهور. فحتى بعد افتتاح الإذاعة لم يحظ سيد درويش بالاهتمام اللائق وذلك لاستمرار سيطرة رجال الاحتلال على مصير الإذاعة.

وأبرز من تحدث عن تجاهل سيد درويش في الإذاعة المصرية حين افتتاحها كان الكاتب الصحفي “سامي داود”، الذي نشر في يومياته بجريدة الجمهورية متذكرا سيد درويش. فكتب: “عندما التحقت بالإذاعة في مستهل حياتي بعد الجامعية كنت أسمع سيد درويش مرات ومرات كل يوم. أسمعه في أحاديث عابرة بالمكاتب وأسمعه على سلم الإذاعة. حيث كان الفنانون ينتظرون دورهم في دخول الاستوديوهات وأسمع بعض ألحانه يرددها العازف من زملائه أو يغنيها أحد أفراد الكورس قطعا للملل.

ولكني كنت أدخل الاستديو كل ليلة فأقدم من فنون الأوائل والأواخر ما أقدم. ولا أذكر أني قدمت لحنا واحدا لهذا العبقري الذي يذكره الذاكرون صباح ومساء. ولم تكن ليلة تمر دون أن أقدم لحنا لعبده الحامولي أو محمد عثمان أو داود حسني. أما سيد درويش فلا يذكر اسمه أمام الميكروفون وكأنه من الممنوعات المصادرة”.

ويتابع سامي داود حتى يصل إلى ذروة المأساة. فيقول: “أذكر أن ضجة كبيرة ثارت هنا وهناك عندما قدم زميلنا “محمد فتحي” برنامجا عن ألحان سيد درويش في حفل ثقافي أقيم بأحد الأندية الخارجية وسجلته الإذاعة. ولكنها لم تذع منه إلا فقرة أو فقرتين ولقد تعرضت شخصيا لتحقيق في مكتب مدير الإذاعة في عام 1947. لأني سمحت لسيد مصطفى أن يذيع في حفل نقابة الصحفيين لحن الحشاشين وكان ممنوعا برغم أن اللحن يحمل نفس الدعوة التي يحملها مكتب مكافحة المخدرات وهو مكافحة الحشيش.

يحرم علينا شربك يا جوزة

روحي وأنت طالق مالكيش عوزة

دي مصر عايزة جماعة فايقين.

سيد درويش
سيد درويش

الإجابة كانت واضحة ومفهومة وهي أن سيد درويش لم يكن كباق الملحنين أمثال عبده الحامولي وغيره. ممن كانوا ينشدون الألحان للخديوي وكل أتباع ذات المدرسة التي تغني في قصور الأمراء. ولكن سيد درويش جاء ليقلب الدنيا رأسا على عقب ويغني للشعب وباسم الشعب وطبيعي تكون وفاته وكأنها كابوسا قد انزاح عن صدورهم.

اقرأ أيضا:

الشيخ عبدالعزيز البشري يكتب عن الشيخ سيد درويش

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر