“صيادو العقول”: رحلة المباحث الفيدرالية من ملاحقة المعارضين إلى إصلاح التربية والتعليم!

تحولت الدراما التليفزيونية خلال العقد الأخير إلى فن قائم بذاته، وتنوعت أنواع وموضوعات هذه المسلسلات بشكل غير مسبوق، بل تحولت إلى مجال لاستكشاف وتقديم أفكار وقضايا يصعب حتى على السينما أن تتناولها، على الأقل بهذه الشمولية وثراء التفاصيل.

ومن أهم وأفضل الأعمال الأمريكية التي تعرض على منصة “نتفليكس” منذ فترة مسلسل “صيادو العقول”  Mindhunter، وهو عمل يصعب تصنيف نوعه الفني، إذ ينتمي شكلا لدراما الجريمة والتشويق، وخاصة النوع المسمى بالقتلة المتسلسلين Serial Killers، ولكنه أيضا عمل يوثق تاريخيا، ويحلل اجتماعيا، يفحص العلاقة بين الجريمة وعلم النفس، والعلاقة بين الجريمة والسياسة في الولايات المتخدة الأمريكية منذ السبعينيات.

صيادو العقول

يتناول المسلسل أحداثا وشخصيات حقيقية ويعتمد بشكل أساسي على كتاب بعنوان “صائدوا العقول: داخل وحدة المباحث الفيدرالية الخاصة بالجرائم المتسلسلة” للمؤلفين جون دوجلاس ومارك أولشاكر، صدر في منتصف التسعينيات، ربما تحت تأثير النجاح الذي حققه فيلم “صمت الحملان” (إخراج جوناثان ديمي، وبطولة جودي فوستر وأنطوني هوبكنز، 1991) وبعض أفلام القتلة المتسلسلين الأخرى التي ازدهرت في هذه الفترة، وكان من أشهرها فيلم “سبعة” الذي لعب بطولته براد بيت ومورجان فريمان من إخراج ديفيد فينشر 1995.

ديفيد فينشر هو أيضا المخرج الرئيسي لمسلسل “صيادو العقول”، مع مخرجين آخرين تحت إشرافه، كما أنه أحد المنتجين الرئيسيين.

يتناول المسلسل قصة وكيلي المباحث الفيدرالية هولدن فورد (يلعب دوره جوناثان جروف) وبيل تينش (هولت ماكلاني) وعالمة النفس ويندي كار (آنا تورف)، الذي أدت جهودهم في دراسة القتلة المتسلسلين إلى تأسيس “وحدة المباحث الفيدرالية لعلم السلوك” في بداية السبعينيات. وهي فترة تتسم ببعض المعالم الهامة منها: ارتفاع حدة المعارضة الشعبية ضد السياسات الأمريكية الاستعمارية خاصة بعد ورطة حرب فيتنام، وضد سياسات الفصل العنصري والاضطهاد المنظم للملونين، وكذلك ضد ملاحقة المثقفين الذين يشتبه في ميولهم اليسارية أو التي لا تتفق مع النظام بشكل عام. وبفضيحة “ووترجيت” التي أتهم فيها الرئيس ريتشارد نيكسون بالتجسس على خصومه السياسيين وأدت في النهاية إلى استقالته.

أحداث المسلسل

هذه الفترة شهدت أيضا تحولا جذريا في طبيعة الجهاز الأمني المسمى بالمباحث الفيدرالية، أو مكتب المباحث الفيدرالية الذي يختزل اسمه إلى FBI، والذي تأسس في العشرينيات على يد إدجار هوفر لمكافحة الجريمة المنظمة والجرائم التي تتعدى اختصاصات الولايات، ثم تحولت إلى وكالة استخبارات “سياسية”، فعملت كذراع أمني لهيئة “مكافحة النشاطات المعادية لأمريكا” التي أسسها عضو الكونجرس ماكارثي في الخمسينيات، ويطلق عليها اختصارا الماكارثية، ثم كذراع استخباراتي وأمني ضد قادة حركة الحريات المدنية في الستينيات، وكانت وراء اغتيال عدد منهم. ويظهر هذا في الحلقات الأولى من خلال نظرة قادة المباحث الفيدرالية والمواطنين إلى الجهاز في بداية السبعينيات باعتباره أداة تجسس على المعارضين وتجنيد للمخبرين.

في الحلقات الأولى من الموسم الأول لمسلسل “صائدو العقول” يذكر اسم عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أكثر من مرة، في إطار الحديث عن العلاقة بين انتشار الجريمة والقمع السياسي أو الظلم الاجتماعي. ويقال ذلك في تفسير جرائم لا يبدو أن هناك أي صلة مباشرة بينها والسياسة، مثل الاغتصاب والقتل المتسلسل (أي قيام الجاني بارتكاب سلسلة من الجرائم ضد ضحايا مختلفين وفي أوقات وأماكن مختلفة).

الصراع الدرامي

يدور الصراع الدرامي الأساسي في الموسم الأول للمسلسل (الذي يتكون من موسمين ينقسم كل منهما إلى عشر حلقات) بين القيادة القديمة التقليدية للمباحث الفيدرالية التي ترى أن دورها ينحصر في الامساك بالمجرمين وتسلميهم للعدالة، وبين الضابط هولدن فورد وفريقه الذين يرون أن من واجبهم دراسة علم النفس الجنائي وعمل الدراسات والأبحاث الميدانية من خلال الحديث مع القتلة المتسلسلين والسفاحين لوضع خريطة لأنواع القتلة وجرائمهم ودوافعها والنماذج التي يسيرون عليها عادة في تنفيذ جرائمهم.. وأيضا، وهذا هو الأهم، توفير هذه الدراسات لعلماء الاجتماع والمسؤولين لتعديل نظم التربية والتعليم والمؤسسات الاجتماعية والاصلاحية لمنع ظهور هؤلاء المجرمين بقدر الإمكان!

يعرض مسلسل “صائدو العقول” أيضا الفارق بين الشرطة المحلية التقليدية وأساليب تحقيقاتها ونظرتها للمجرمين وبين المباحث الفيدرالية بعد “تأسيس وحدة علم السلوك”، وهو فارق يمكن ملاحظته في فيلمي “صمت الحملان” و”سبعة” وأعمال أخرى. ومن خلال العلاقة بين بطلي العمل (التي تشبه العلاقة بين شخصيتي براد بيت ومورجان فريمان في “سبعة”)، يعرض المسلسل أيضا الجدل المثار دوما حول الطريقة المثلى للتعامل مع المجرمين والمشتبه فيهم أثناء التحقيقات، وبجانب ذلك كله يعرض قصة صداقة وحلم مشترك ورحلة طويلة من أجل تنفيذ هذا الحلم، بخدمة العدالة والإنسانية في الوقت نفسه.

اقرأ أيضا

في “الحرامي 2”: كلنا لصوص.. ولكن الكبار أكثر لصوصية!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر