صور| منازل إسنا.. واجهات تراثية تحفظ تاريخ المدينة
تصوير: أحمد دريم
تتميز مدينة إسنا بجنوب محافظة الأقصر بتراث عريق يمتد إلى مئات بل آلاف السنين، لعل أكثر مايلفت الانتباه حين تطأ قدماك تلك المدينة الحسناء هو منازلها التي تختص بعمارة وطراز فريد مقارنة بباقى مدن الأقصر.
واشتهرت مدينة إسنا بعمارتها في أكثر من مرجع حتى عرّفها ابن دقماق في كتابه “الانتصار لواسطة عقد الامصار” قائلًا: “هي بلدة كبيرة حسنة العمارة، مرتفعة الأبنية، تشتمل على مايقرب من 13 ألف منزلا وحمامين، وأسواق، ويقال أنه كان بها كثير من الأفاضل حتى قيل أنه كان بها 71 شاعرًا، وخرج منها جماعة كبيرة من أهل العلم والأدب”.
كما وصفها علي مبارك في كتابه الخطط التوفيقية “تقع فوق تل ترابي كما هي عادة المدن المصرية القديمة وبيوتها مبنية من الطوب الآجر ومن الطوب اللبن، وكانت مدينة إسنا قديما ذات شكل بيضاوي وأعظم طول لها من الشمال إلى الجنوب تسعمائة متر وعرضها أربعمائة متر، بها حوانيت كثيرة وخانات تجلب إليها البضائع من القاهرة والأقاليم”.
حارات عثمانية
في إسنا تترابط الشوارع وتلتقى ببعضها في شكل حواري متداخلة، في هذا الشأن يقول محمد محيي، مسؤول إدارة الوعي الأثري بمحافظة الأقصر؛ تتراص البيوت في إسنا في شكل أشبه بالحواري العثمانية والتي كانت عبارة عن منازل مقامة على الجانبين تتوسطهم ساحة أو ممرًا صغيرًا، كان يخصص لإقامة المناسبات والاحتفال بها في هذا المكان.
يستكمل: الحواري متفرعة من شوارع عمومية، وذُكر في بعض المصادر التاريخية أن إسنا تضم 70 حارة، الحارة الصغيرة تضم من عشرة إلى عشرين منزلًا، لافتًا إلى أن بعضها كانت تضم باب عمومي يشبه بوابة الحلواني وهي من ضمن الحواري العثمانية.
الأبواب المزخرفة.. العنصر الهام في التكوين الجمالي للمبنى
ملامح المنازل هناك لايضاهيها مثيل في مدينة المائة باب، فهي تتسم بأبوابها المزخرفة، التي نٌقش عليها أو على قطع خشبيه تعلوها، بعض الحكم وآيات قرآنية كأنها حارس يقف على عتبة المنزل، إضافة لأشكال هندسية تم نحتها على الأبواب، ما أضفى لها مظهرًا جماليًا مختلفًا يشبه في مظهره بيوت دمشق السورية، إلى جانب احتفاظ بعضها بتدوين تاريخ إنشائها، ماجعل الأبواب في إسنا تشكل عنصرًا هامًا في التكوين المعماري والجمالي للمبنى.
كما تميزت بعض المنازل بأبواب ذات مطرقة، وهو الطراز الذي اشتهرت به العمارة العثمانية فأضفى للمنزل طابعًا تراثيًا فريدًا، يستحق الحفاظ عليه في ظل التطور السريع بكافة مجالات الحياة.
ولم يقتصر التميز على واجهات المنازل والأبواب فقط، بل كانت الشرفات من أكثر ما ميز تلك البيوت بتصميمها الذي يشبه المشربيات، حيث تتبع للغرف العلوية وتتعدد نوافذها.
مواصفات منازل الأعيان
“لم تكن المنازل المميزة تتسم بمميزاتها تلك، إلا لتعبر عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية لأصحاب المنزل”، يوضح مدير إدارة الوعي الأثري أن المنازل ذات الأشكال والزخارف المختلفة لم تمتلك هذا لاحتلاف إلا لتبعيتها لأصحاب الأطيان والإقطاعيين ورجال الدولة.
أعلى نافذة إحدى المنازل رصدنا كتابات تقول: “نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين”، وجدد هذا المنزل المبارك حضرة المكرم حسن أغا بن المرحوم حزين أغا وذلك في 8 رمضان المبارك سنة 1302 هـ، اثنين وثلاثمائة وألف من هجرة النبي الشريف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكرم وعظم.
ويشار إلى أن عائلة آل حزين من أعيان عائلات مدينة إسنا خرج منها وزير ونواب برلمان، يتمركزون بمدينة إسنا لكن يوجد للعائلة فروعًا في أكثر من محافظة بالجمهورية.
كما حوت بعض النقوش على أحد المنازل كتب عليها “لا تتوكلوا على السادة اللٌجاة… ولا على ابن آدم.. فليس بنجاه”، وعلى منزل آخر نقش أعلى الباب أول آيات سورة الفتح والتي يقول فيها المولى عز وجل: ” إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ماتقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا وينصرك الله نصرًا عزيزًا”.
مشروع إعادة اكتشاف الأصول التراثية
في إطار الحفاظ على ماتبقى من هذا التراث بدأت شركة “تكوين” لتنمية المجتمعات المتكاملة بالشراكة مع شركة “سي. آي. دي. للاستشارات” في تنفيذ أعمال مشروع “إعادة اكتشاف الأصول التراثية لمدينة إسنا” للحفاظ على مواقع التراث الثقافي بالمدينة، والتي من بينها عمليات الترميم والتأهيل المعماري التي شهدتها البيوت الكائنة بمنطقة الـ25 فدانا بإسنا.
ويقول المهندس عمرو القمري؛ مهندس معماري أول بمشروع إعادة اكتشاف الأصول التراثية، إن المنازل ذات الطابع التراثي والتي تتسم بحالة إنشائية جيدة، بعض منها تم ترميم واجهاتها وجزء آخر تم توثيقه وذلك بناء على انتماء البيوت موضع التوثيق لعصور مختلفة وأنماط استخدام مختلفة، وتتسم بطراز مختلف.
الواجهة التراثية لأكبر مركز تجاري بالصعيد
إحدى واجهات المباني التي تجذب انتباه المارة، هي واجهة مبنى وكالة حسن بك الجداوي، التي مثلت أكبر مركزًا تجاريًا بالصعيد في العهد العثماني، والتي دُون على واجهتها تاريخ التأسيس وبعض الكتابات بالخط النسخ العثماني محفورًا بالخشب كسمة سائدة آنذاك.
ويصف محمد محيي، مسؤول إدارة الوعي الأثري، عمارة الوكالة قائلا: “بمدخل الوكالة تظهر العمارة الإسلامية والفن الإسلامي واضحين، فيوجد عقد مدبب يكتنفه بائكة محمولة عبارة عن ثلاثة عقود متجاورة، الكتلة بها مسمطة داخل الواجهة، وخشبة صغيرة كان يوضع بها قنديل للإضاءة ليلًا، أما مجموعة الحوانيت الخارجية، فيوجد مكسلتين استخدموا للحراس للجلوس عليها”.
يتابع محيي: يوجد العتب الخشبي المدون عليه النص التأسيسي للوكالة والزخارف الهندسية، كزخارف الأرابيسك وزخارف النجوم السداسية ثم الكتابات، ومنها خط الثلث والتي نصت على كتابات دينية نصية وتذكارية وتسجيلية، كلها تعكس الفنون التي كانت مستخدمة آنذاك، ويضيف أن الوكالة تتكون من أربعين حجرة الدور الأسفل حجرات للمخازن، يتوسط الوكالة فناء مكشوف كان يغطية “شخشيخة” لإضاءة المكان وتهويته.
الجزء الأيمن بواجهة الوكالة دون عليه “بسم الله الرحمن الرحيم.. وبه نستعين.. وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.. نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يامحمد.. قل هو الله أحد الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.. ولم يكن له كفوًا أحد هو الاول والآخر سبحانه أحد صمد.. ياسيد.. سعد السعد يلوح في أركانها دار مباك”.
أما الجزء الأيسر فقد دون عليه “دار السرور ودار الخير والنعم.. العظم فالسعد ربها.. والبشر لازمها طوبى لسكانها ناج.. من الغم الله يحرسها من كيد حاسدها بجاه طه التهامي… معدن الكرم عليه أزكى صلاة خالقنا مع السلام على من جاء.. بالحكم رب يسر ولا تعسر.. رب تمم بالخير.. تحريرًا في 12 ربيع الثاني 107”.