تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

صنع الله إبراهيم في مذكرات محمد ملص: يوميات «موسكو»

في عام 1971 ترك صنع الله إبراهيم برلين حيث كان يعمل صحفيا إلى موسكو في منحة لدراسة السينما. وسجل صنع الله تفاصيل هذه السنوات في روايته «الجليد».

في موسكو تزامل صنع الله مع المخرج السوري محمد ملص، حيث سكنا سويا في العرفة 403 في بيت طلبة معهد السينما بموسكو، وقد كتب صنع الله أول أفلام ملص عن تجربة السجن، وشارك في التمثيل أيضا، وهو الفيلم الذي كان مشروع تخرج كليهما.

سجل ملص يومياته في موسكو، ونشرها في كتاب «مذاق البلح» ليقدم فيها بورتريها عذبا لصاحب «تلك الرائحة»، بوتريه لروائى خاص، حيث جاء صنع الله إلى موسكو ليكتب، يكتب فقط كان هذه مشروعه. يكتب ملص في مقدمة يومياته: ومن مصادفات صداقتنا، أن طلبه هذا أوصله إلى معلمي المخرج “تالانكين”. بعد أن التقى “تالانكين” بصنع الله، أدرك كما قال لي: يجب أن تكون مهمتنا مع صنع الله، ليس تحويل هذا الكاتب إلى سينمائي، بل أن تكون السينما في نسيج تجربته الأدبية”. نختار هنا – بإذن خاص من ناشر الكتاب الروائي السوري خليل صويلح- مقاطع من يوميات ملص عن علاقته بصنع الله.

-1-

روايتاه اللتان قدمهما لي لأقرأهما، كانتا مخطوط رواية “67” التي لم تنشر، وروايته الجميلة “تلك الرائحة”، وقد شعرت وأنا أقرؤهما، أنه هو نفسه بلحمه ودمه يقفز من بين سطور روايتيه وينظر إلى القارئ بشماتة. بعد أيام روى لنا صنع الله حكاية الاعتقال والسجن.

كانت ليلة رأس السنة. وكان عام ١٩٥٩ يهل علينا بيومه الأول. كنت قد عدت إلى البيت بعد سهرة رأس السنة، وبدأت أستعد للنوم، فجاءوا وأخذوني. أتذكر كيف وقفنا واحدنا إلى جانب الآخر، في سيارة “اللوري” صامتين. وكل يزال بملابس النوم. منا غارق في أحواله وعالمه الخاص. كان المنظر مضحكاً لأن الكثير منا، كان لا يزال بملابس النوم.

هذه السيارة الداكنة كانت تزحف في شوارع القاهرة التي كانت تلك الليلة نائمة، وهي التي لا تنام عادة يداي مقيدتان بسلسلة واحدة مع شهدي عطية الشافعي، وننتقل من “القلعة”، إلى “الواحات” إلى “أبي زعبل”. بعد مراسم الاستقبال في “الواحات” في ذلك النهار اللاهب، أخذوا شهدي، ولم تعرف بعدها ماذا فعلوا به.

في اليوم التالي سرت شائعات، بأنهم قتلوه! كان حديث صنع الله هذا، يرن بإيقاع شخصي وخاص. وقد حملت رغبته بالتعبير مذاقاً فصلنا عن كل شيء آخر. حتى صديقتي العزيزة “فيرا” التي لا تفقه اللغة العربية، كانت تصغي باهتمام وتأثر كانت فيرا قد لجأت إلينا هربا من صبايا الطابق الخامس الغارقات في خلط الطحين بالملح، وانتظار منتصف الليل، ليرمين بفردة من أحذيتهن من النوافذ، وليهرعن بعدها إلى الشارع لتستقبل كل واحدة منهن أول رجل تصادفه، فيعرفن من اسمه أسم رجلها في المستقبل. بدا هذا البوح النادر عند صنع الله، في ليلة الميلاد الروسي، أشبه بخلط الحزن بالدم، فقد كانت عيوننا تجوس كل همسة تزفرها هذه الذكريات.

وفجأة وبشكل لا يشبه إلا الرعد الروسي دخل صديقنا الألماني “كورت” مخموراً؛ وأزرار قميصه المنفلتة؛ تكشف عن صدر تتهدل على صفحته ربطة عنقه في هذه الأيام كان كورت بعد أن عاد من ألمانيا إلى المعهد ليتابع دراسته السينمائية… يعيش في ضيافتنا. كان كورت يكن لفيرا مشاعر خاصة ويحس بالسعادة حين يلتقيها. لكنه حين دخل إلينا على هذا النحو ورآها شعر بالخجل. جلس معنا، ودعا فيرا لتقترب منه فصدم واستغرب انغماسها بما لا تفهمه ولما طالت الحكاية، ولم يعد “كورت” يستطيع تحمل منفاه بيننا. نهض وهو يردد بشكل سينمائي:

أحس يا أصدقائي بأني أشبه بمكنسة في هذه الغرفة… إني وحيدا وحيدا

ساد الغرفة وجوم بعث شحنات من المشاعر المتناقضة. وأخذت كلمات كورت تتصادي وتنداح، ثم تعود نحونا مغمسة بالوحدة تارة، وبالعزلة تارة أخرى. لم يكن يعذبنا في تلك اللحظة، شيء أكثر من انقطاع الحديث بين حدي القتل والأسيد. وكانت مشاعر “كورت” تتسرب بين هذين الحدين. جمع كورت أغراضه كلها، رمى مفتاح الغرفة على الأرض، وصفق الباب وراءه وكأنه يغادرنا بلا عودة. تاه كل منا في عالم من السكينة والصمت. وبعد فترة نهض صنع الله ومضى إلى غرفته لينام.

شهادة تخرج صنع الله من موسكو
شهادة تخرج صنع الله من موسكو
-2-

قادني حديثه عن السجن إلى الحوار عن “السيناريو” الذي نعد معاً لكتابته من أجل “فيلم التخرج”. اتفقنا ألا يهدف هذا السيناريو إلى التعبير عن القسوة أو صعوبة أو القمع السائد في السجون العربية

وأن علينا البحث للإمساك بالفكرة التي تجعل من الفيلم أكثر راهنية على أرضية من التجربة التي كان المثقفون المصريون قد عاشوها في أوائل الستينيات إذا كانت هزيمة حزيران ٦٧ “الانكسار” الذي لا يغادرنا أبداً. فقد كان لدينا نحن الاثنان، ما يكفي من التقدير لعبد الناصر، ما يحول بيننا والوقوع في مصيدة الهجمة اللاوطنية السائدة الآن ضده. وكنا نغلب إبرة التسديد باتجاه إطلاق نار على “النظام”. في بوحنا المرسل لمست بقوة، كم تستهوي صنع أخبار السياسية في حياة المعتقلين المصريين….

فكثيراً ما كان يتذكر ذاك الهوس بتهريب الصحف المصرية، الذي يتدبره المعتقلون داخل السجن، والحالة والوجدانية لتلقف هذه الصحف. في استعراض صنع الله للصور والنماذج والأفراد، أدركت أن هذه الحمى لدى النظام في القضاء على هؤلاء، استهدفت خيرة المثقفين والمبدعين الفعالين في حياة المجتمع المصري. وجعلتني أتوهم أن كل المثقفين المصريين شيوعيون، وأن أتساءل عما إذا كانت تلك الحمى كانت تستهدف “الثقافة” أكثر مما تستهدف الحزب الشيوعي؟

ال حنين العميق عند صنع الله لشخصية كانت محببة جداً لدى السجناء، يطلقون عليها “شيخ العرب”. كما أن حنينه للدور الذي كان يقوم به هو نفسه، داخل السجن كـ قارئ الأخبار…. وحال تلك البلاد الذي تأخذ بمثقفيها إلى السجن وبجيشها إلى الحرب. لعب دوراً كبيراً في تثبيت عناصر البناء الدرامي المشروع السيناريو المقترح.

قررنا بعدها، أن ينصرف صنع الله لكتابة “مفكرة” عن السجن، تسبق كتابة

خلال انصراف صنع الله لكتابة السيناريو، كان يشغلني بإلحاح الإحساس بأن ثمة “شيء” نفتقده في العناصر التي توصلنا إليها. وفي فضاء هذا الشعور عثرت على “فكرة” أخذت أهتف بها كشعار:

السينكرون ! أي التزامن!

فقضية التزامن بين الصوت والصورة في السينما واختلاف سرعة وصول الصوت إلى الأذن واختلاف سرعة وصول الضوء إلى العين، كما في التزامن المتفاوت بين وصول البرق ووصول الرعد…. هما اللذان أوحيا لي بالفكرة.

فإذا كان جو السجن المشبع باللهفة إلى تلقف الخبر السياسي، هو الفضاء الدرامي للسيناريو، وأحداث الفيلم تحدث زمن حرب يونيو ٦٧ أدركت بأنه لا بد من اللاتزامن درامياً بين اللهفة والحدث… أي أن تصل أخبار انتصارات حرب يونيو للسجناء من خلال الصحف، في الوقت الذي تكون فيه هذه الحرب قد انتهت إلى هزيمة… فيعيش السجناء حالة النصر بينما البلاد في حالة الهزيمة.  أن يكون “السجناء” ضحايا “اللاتزامن”، كما كنا نحن خارج السجن ضحايا النفاق. أصبحت هذه الفكرة عصب “السيناريو” ويجب أن تكون “روح” الفيلم القادم…. روح فيلم تجري أحداثه في عالم سجن، لا نغادر جدرانه.

مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
-3-

الجو بارد، السماء ممطرة.

خرجنا معاً كعجوزين يحتاجان إلى هواء الصباح لاستعادة طاقتهما من جديد في الشارع كانت الأوراق المتساقطة من أشجار “البتولا” قد التصقت على أرض الرصيف وعلى الإسفلت وغطته، وكان الطوب الأحمر الذي يستر الأبنية أكثر قتامة ونقاء، ونقاط المطر على أطراف المظلة السوداء التي تغطينا معاً، تقطر كالدموع.

اتجهنا نحو محل بيع الصحف فوجدناه مغلقاً. ذهبنا للبريد فلم نجد أية رسالة لنا.

فاشترينا اللبن والخبز والخمر من الأنواع الأكثر رخصاً. ثم قرأنا لوحة الأفلام التي تعرض في موسكو، واخترنا فيلماً بولونياً بعنوان “تشريح الحب”، وعرفنا أيام وساعات ومكان عرضه ثم اتجهنا عائدين إلى البيت.

في مدخل البيت كانت هناك مناوشات عاصفة بين الطلاب ومديرة البيت. فقد كان الطلاب يحتجون بعنف على ظهور الجرذان في طابقهم، وكان وجه المديرة يمتعض ويشمئز تارة من آثار “فودكا” الأمس، وأخرى من تخيلها لزحف الجرذان.

كانت قامات الطلاب المحتجين توحي بأنهم مصورون، إذن هم قاطنو الطابق الثاني، شعرنا بالاطمئنان من أن الجرذان ستحتاج إلى المزيد من الأيام لتجتاح طابقنا الرابع.

أثناء الفطور ورشف الشاي الأحمر، وتدخين السجائر… دخلنا عالم الكلام فتحدثنا عن الكتابة الروائية وعن عبد الناصر، وعن الضرورة بعمل فيلم

عنه …

قال صنع الله: “أحس بأن كل ما أفعله هو تمهيد لهذا النص المؤجل ….

تستهويني عذابات عبد الناصر الداخلية والوجدانية، والسلطة عنده وحب التعلق، لقد كان سعيداً بزعامته” الذات. لقد صاغ بجهود كبيرة، وصنع عملية اهتمام الناس به، ليعيش لذة هذا التعلق، لقد كان سعيدا بزعامته”

-4-

الشتاء القاسي، والأمزجة في حقبة “الالتهابات” المختلفة، قد نجحا في إسقاطنا في الكأبة. فصار المساء للصمت، والصباح للبوح. كان هذا البوح يبدأ ما أن يتقلب كل منا في سريره باتجاه الآخر…. ثم نتابعه مع المؤثرات الصوتية لقضم القطع اليومية الأربع للخبز المحمص، و”شرق” البيضة ورشف الشاي الأحمر.

كان يجب أن يستمع لـ “باخ”، وكنت أحب “تشايكوفسكي”.

وكنا نجلس دائماً وسط الغرفة، فتبدو أشبه بتكوين مسرحي على منصة، جدارها الرابع هو الغابة التي تبدو وكأنها المتفرج الوحيد لعروضنا اليومية هذه.

مذاق البلح - غلاف كتاب محمد ملص
مذاق البلح – غلاف كتاب محمد ملص

بوحنا وحواراتنا يتخللها دائماً دوس باسوس، وجراهام جرين فرويد، دوستويفسكي، السجن القنيطرة، الحب، المرأة، والختام دائماً منام الليلة الفائتة. وعلى مائدة الغداء اليومي، كانت تظهر على المنصة، شخصيات من مجلس قيادة الثورة، من ناصر إلى عامر، إلى السادات إلى علي صبري إلى خالد محي الدين. فكانوا أشبه بالعسس الذين يتلصصون على العرض. حين تنتهي الموسيقى، يبدأ عمود الرافعة المعمارية وراء النافذة بالتحرك حاملاً قطع الطوب الأحمر ليرصفها جنبا إلى جنب في مشروع المشفى المجاور. وحينها يعود صنع الله إلى صمته. يتناول الصحيفة القديمة ليتأملها، ثم يقصها ليرصف القصاصة مع غيرها من القصاصات جنباً إلى جنب.

وفي المساء كثيراً ما يغدو حديثنا المتباعد، أشبه بمونولوج يتناهى من باطن الأرض إلى فضاء مقبرة شرقية. مونولوج تتداخل جمله المتناثرة مع صوت القلم الذي أكتب به روايتي، وبصوت قرقعة الصحيفة بين يدي صنع الله وهو يفتحها، أو يغلقها، أو يرمي بها على الأرض، ثم يئز صرير مقصه في لحم الجريدة مختلطاً بتنهداته.

في آخر الليل، كان صنع الله يسحب الكرسي من تحته ثم يقف. يتجه إلى النافذة ويفتح “الكوة” العلوية الصغيرة، يجول في الغرفة قليلاً، يتناول علبة سجائره الكيلوباترا ويستل سيجارة واحدة، ثم يطق صوت عود الكبريت المشتعل. يقرفص فجأة فتتناهى طقطقة مفاصله وهو يجمع بنزق بقايا الصحف المقصوصة التي رمى بها فيحملها ويخرج إلى الممر مجرجراً أقدامه في الخطوات الأربع أو الخمس وهي تبتعد، ثم تعود فتتناهى إلى من الممر مختلطة تارة بكعب نسائي، وأخرى بصرخات معربده، أو بصوت سفح البطاطا في الزيت المغلي آتية من المطبخ العمومي، أو صوت “السيفون” في المرحاض العمومي أيضا. دائماً تنتهي سيمفونية النهار وصنع الله يربط الساعة المنبه ويشحن طاقتها على الرنين.

بعدها العتمة التي تبث في قضاء الغرفة تكتكة الزمن.  استيقظ صنع الله مبكراً أكثر مما اعتاد عليه. لا يجلس جلسته الصباحية التأملية في السرير. ولم يدفن رأسه مطولاً بين كفيه. لم يضع نظارته كي يغرق في تأمل الخلايا الخشبية التي توصف الغرفة، لم يقم بقفزاته الرياضية المضحكة لم يتناول شفرة الحلاقة أو “قنينة” ماء تمر حضه. لقد نهض على عجل، وابتسم للشمس، واستل سكيناً غزها في الورق الملصق على الخط الفاصل بين درفتي النافذة، ثم سحب السكين ممزقا الورق كله، وشد المزلاج فانفتحت النافذة ودخل الهواء الطازج. تناول قطعة من القماش، وبللها بالماء، وأخذ ينظف بلا هوادة أثار لصاق الأوراق على النافذة. فازداد الهواء نقاء والشمس بهاء.

جلس وراء طاولته، وتناول صحيفة من عام 1970، تأملها مطولاً، ثم أمسك بالمقص وقص جزاً صغيراً منها. لعله خبر سياسي أو نعي أو زواج أو انتحار أو جنون الصق الخبر على ورقة بيضاء، وكتب تحته كلمتين أو ثلاث، ثم عاد وفعل الشيء نفسه، مع صحيفة أخرى من يوم آخر أو عام آخر…. فعل هذه الأشياء من جديد مرة بعد مرة، وكأن الصحف لا نهاية لها، بينما كانت أوراقه تتراكم أمامه كما الأيام.

اقرا أيضا:

ملف| صنع الله إبراهيم: تجربتي الروائية

صنع الله إبراهيم يجيب على السؤال: كيف أكتب؟

واقعية صنع الله رائد جيل التسعينات

 عبد المنعم رمضان يكتب: «العدو»

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.