شيلله يابحر العلوم.. حكاية شارع “باب البحر” مع الحرافيش وشمس الزناتي
هو شارع يحمل من اسمه صفات كثير، واسع حيث يمتد من باب الشعرية وحتى ميدان رمسيس، عميق لما يحتويه من معالم أثرية وحرف يدوية أوشكت على الاندثار، صافي كنفوس ساكنيه، الذين لا يزالون يعيشون مع الماضي بحكاياته، رافضين الانغماس في حداثة الحاضر، وهو ما يظهر لنا فى سرد تفاصيل حياتهم اليومية فى “شارع البحر”.
باب البحر
يذكر عباس الطرابيلي، في كتابه “أحياء القاهرة المحروسة.. خطط الطرابيلي”، أن المؤرخين وصفوا مصر وخططها “المقريزي” عندما قال إن الشعرية هم طائفة من قبائل البرببر يقال لهم بنوا الشعرية هم ومزانة وزيارة، وهوارة من أحلاف لواته، الذين نزلوا بالمنوفية ومعنى هذا أن حي باب الشعرية يعود إلى بداية نشأة القاهرة والذين جاءوا مع جوهر الصقلي ضمن الجيش الفاطمي، الذي جاء من المغرب لفتح مصر.
كما يوضح عباس الطرابيلي أن باب البحر هو ليس البحر المالح وليس بحر النيل الذي كان يصل إلى هذا المكان عند باب البحر، لأنه يعود إلى سيدي الشيخ محمد البحر، وهو أحد العلماء الذي أتي في زيارة لصديقة الشيخ تاج الدين، وظل معه سنوات تم خلالها تنظيم اجتماعات ولقاءات مع سكان الحي للحصول على فتوى علمية، وتحول الأمر إلى كونه عالم ديني ذو رأي صائب، فكانت جميع آرائه تأتي في محلها وهنا تبارك الناس به وأصبح يرون فيه شيخ من شيوخ الله، وعندما توفي قرر سكان الحي دفنه في الشارع وإقامه مقام لها هنا فى الجامع.
عند بداية دخولك باب البحر والمليء بأصوات الدق على الحديد، والنقش على الخشب، الذي تمتزج فيه روائح صناعة الحلاوة وتسوية الفطير، تجد الحاج جلال سعد، صاحب الـ70 عامًا، يجلس هو وصديقه الحاج جمال، أمام ورشته للحدادة، ليحدثني عن باب البحر.
“باب البحر معمول علينا احنا” هكذا يبدأ الحاج جلال، حديثه عن باب البحر قائلًا: باب البحر ليس مجرد مكان نعيش فيه بل هو حكايات أبي وجدي وتفاصيل يومي مع زوجتي وأولادي، فأنا أسكن هنا منذ 70 عامًا وقبلي كان أجدادي، الذين أرث عنهم هذه الورشة، التي لم يتغير منها شيي منذ أن أسست من حوالي 80 عامًا.
ويكمل: شكل شارع البحر كما نراه ضيق وممتد بالطول، وكانت أغلب المنازل مصنوعة من الخشب ببوابة متخذة شكل القوس في أعلاها، لتتميز بها بيوت باب البحر، مشيرًا إلى تغير الوضع الآن بالشكل الحديث والمباني ليمتد من عمارة 25 حتى 109 تابع لباب البحر.
أما عن سبب تسميه باب البحر، يوضح الحاج جمال محمد،59 عامًا، على باب الله، أن الشارع قديمًا كان يوجد بها بحر ممتد حتى غمرة، إلا أنه مع الزمن ردم البحر وتحول إلى منطقة سكينة، مشير إلى أن الشارع قديمًا لم تدخله حكومة بل إن كبار المنطقة هم من يتولون حل المنازعات التي كانت تحدث بين السكان حيث “كان للشارع فتوة زمان يتعمله حساب ويحل أي أمر” على حد وصفه.
عربات الكارو
بجوار ورشة الحدادة أحدي البوابات الخشبية المقوسة لتمر منها وتجد عربات “الكارو” والتى نعرف شكلها من أفلام العربي القديمة باسم “الكارته”.
يتكئ هشام غريب، 53 عامًا، على قدم واحدة لتعب الأخرى، ويشرح مهنته التي لم يعد أحد يعمل بها إلا قليل قائلًا: أعمل بالمهنة منذ أن كان عمرى 21 عامًا وراثة عن والدي، والذي علمنى صناعة عربات الكارو من الألف إلي الياء، وكنت حينها أكسب كثيرًا لتصنيع عربات بعدد كبير، فقديمًا العربات الكارو والكارتات كانت هي وسيلة النقل للأغلب المصريين، ففي كل شارع وحارة كنت تجدها عكس الآن، مشيرًا إلى أن باب البحر لوحده قديمًا كان يحتوي على أكثر من 150 عربات كارو.
يوضح غريب أنه مع مرور الزمن تحول الوضع من التصنيع إلى التصليح، فهو يعمل الآن فى تصلح عربات الكارو والكارتة وعجل المدافع الديكور وعربات الكشري، حيث يقوم بالجمع وتركيب وشد العجل وتزينه أيضًا إذا طلب الزبون ذلك.
وعن المكونات يشير الحرفي إلى أن التصنيع يحتاج إلى خشب وحديد و4 عجلات و8 “بلي” وكوسة حديد، مضيفًا إلى أن الدخل الآن أصبح قليلًا ولم يعد يكفي.
وعن المهنة يؤكد أنها أوشكت على الاندثار لأنه لم يعد هناك من يعمل بعربات الكارو إلا قليل “لم أعلم أبنى المهنة لأننا خلاص هنندثر وزينا زي مهنة الطرابيش الطلب علينا أنعدم” على حد وصفه.
الإسطبل
عليك أن تتذكر مشهد عادل إمام وهو على “الكارته” وبحصانه المميز، وبداية فيلم سعد اليتم، ومشاهد التى شارك فيها الحصان بفيلم الحرافيش والجوع، لنجد أن كل هذه الأحصنة والعربات، خرجت من هذا إسطبل “حسن عجوز”
حسن عجوز كان من علامات شارع باب البحر، وهو مالك أكبر إسطبل خيل حينها، حيث تعامل معه أغلب المثلين، إلا أن توفي في عام 1992، ولم يهتم أحد بالإسطبل والذي تحول إلى جراح حاليًا يضم عربات الكارو التى يقوم بتصليحها عم هشام.
الملك فاروق
داخل “دكانته” الحلوى القديمة يوضح كمال حسن، في الستينيات من عمره، أن باب البحر كأن يشكل قيمة عظيمة لدي ملوك وسلاطين زمان، وذلك لما تداول عن سيدي محمد البحر من كرامات، جعلت كل العظماء الذين يمرون من أمامه وكان أخرهم الملك فاروق، ينزل من الركب، ويتمشي على قدامه احترامًا للشيخ محمد البحر، والذي يقع ضريحه داخل مسجد باسمه.
تاريخ الحلوي
“هى تلك التى تصنع بها حلاوة المولد والتى اشتهر بها باب البحر وحتى الآن، كانت حينها ملك حسين نجم، وهو أحد علامات الشارع أيضًا، والذي كان يقوم بذبح كثير من العجول كل عام، في مولد شيح محمد البحر” هكذا يضيف الحاج كمال.
عن حلاوة المولد يحكي الحاج أحمد محمد، صاحب أقدم محل حلاوة فى باب البحر، تاريخ صناعة الحلاوة في باب البحر، ويقول: صناعة الحلاوة في باب البحر يعود تاريخ للأكثر من 120 عامًا، كانت مهنتنا الأساسية في باب البحر والذب كان المصدر الوحيد فى مصر لصنع الحلوي، ولا يوجد مكان أخر يقوم بتصنيع الحلاوة غيرنا فى المكان، كانت الحلاوة تنتج من باب البحر وثم تصدر للمحافظات الأخري، مشيرًا أن الإنتاج لم يكن مرتبط بمواسم بل كان طوال العام وكانت جميع المحافظات على تواصل مستمر في شراء الحلاوة من باب البحر.
عن الأجواء يكمل: كما كان مصدر الحلوي هو باب البحر كان أيضًا أساس الاحتفال بالمولد، فهنا كان الاحتفال يتضمن الزينة التي تملئ الشارع وتوزيع الحصان والعروسة على الأطفال، وأيضًا يقوم حصان المولد وهو حصان يأتي من الأسطبل ويزين بطريقة معينة ويلف معه الأطفال فى الشارع مغنيًا أغاني المولد الشعبية وراء سيدات الشارع والتى كانت تحفظ تراث هذه الأغاني جيدًا، فكانت لكل مناسبة أغنية.
يوضح محمد أنه مع مرور العصور وترك عدد من كبار صناعة الحلوى المهنة بدأت الإنتاج يقل ويكون فقط في الموسم وهو شهر فى العام.
صناعة خشب
أما عاطف أصله، صاحب ورشة الخشب، والتى يتوارثها عن والده والذي يفتخر به، لأنه من أصحاب الحرف اليدوية المميزة، يقول: كنت أعمل موظف في مصانع حربية في حلوان صباحًا، وأنزل مع والدي أخر النهار لتعلم الصنعة منه، فوالدي كان يعمل بكل طاقته فى الورشة، خاصة وأن العمل يدوي، فكان يعمل بأيده وقدمه ليلًا ونهارًا ليبدع ويخرج منتجات ذات طابع له، وهو السبب في شهرته إعلاميَا، موضحًا أن والده كُتب عنه في كثير من المواقع الإخبارية.
عن المنتجات فيوضح أصله أنه يصنع جمع المنتجات المنزلية من الخشب وأدوات حلاوة المولد، مستخدمًا الخشب الذي يقوم بشراءه من مغالق الخشب التى كانت توجد فى باب البحر قديمًا، أما حاليًا فهناك مغالق في مناطق أخري، مضيفًا أن الزبون أحيانًا يكون معه خشب فيعمل على إعادة تصنيعه.
على الرغم من ضعف سمع عم سلامة، 70 عامًا، والذي كاد أن يسمع جملة منى وأحدة، ليحكي عن ذكريات باب البحر التى يتذكرها جيدًا خاصة، الاحتفال بالمولد النبوي ومولد محمد البحر،
“شالله يابحر العلوم” هكذا يتحدث العم على محمد البحر، قائلا: كان فيه مراجيح وبومب، وكان يركبوا الحصان وعليه قبة الشيخ ذات الخيامية الخضراء وبيلف الشارع كله، وكمان مولد النبوي كان في عرايس وسفن حلاوة
عن كراماته يوضح عم سلامة أنه فى احدي السنين قرر بعض الناس تحريك المقام من المسجد، فاندلع حريق بالسرجة استمر شهر “كل مالناس تطفي الحريق يولع سيد محمد البحر السرجة تاني لأنه غضب منهم” مفسرًا ذلك عم سلامة.
محمد البحر كان عالم أتى إلى صديقة تاج الدين، ليتوفي في باب البحر ويصنع لها مقام بداخل مسجد يحمل اسمه، وتبدأ المواطنين فى صنع مولد له لأنه عرفه بكرامات وبأنه رجل بركة” هكذا يوضح جمال قطب، من سكان باب البحر.
ويضيف قطب أن الشارع كان يحمل علامات مميزة من أصحاب الكلمة والرأي منهم الحاج فاروق اللبان، وعبده الصغات، ومحمد غنام، فرج العربي.
محمد البحر
يقول الشيخ طه، شيخ الجامع منذ أكثر من 50 عامًا، إن الشيخ محمد البحر هو أحد العلماء والذي أتي في زيارة لصديقة الشيخ تاج الدين، وظل معه سنوات جاءت خلالها تنظيم اجتماعات ولقاءات مع سكان الحي للحصول على فتوى علمية، وتحول الأمر إلى كونه عالم ديني ذات راي صائب، فكانت جميع آراءه تأتي في محلها وهنا تبارك الناس به وأصبح يرون فيه شيخ من شيوخ الله، وعندما توفي قرر سكان الحي دفنه في الشارع وإقامه مقام لها هنا فى الجامع.
3 تعليقات