شهادة أصدقاء الطفولة: «أم كلثوم» في سنوات التكوين

على مدار عمرها الفني الكبير والثري، عاشت «أم كلثوم» رحلة المجد، ولم يتوقف صعودها وتألقها حتى وفاتها في (فبراير- 1975). وبعد وفاتها وغياب جسدها، ظل صوتها المعجزة باقيا في حياتنا وحياة أجيال كثيرة مقبلة، لأن صوت أم كلثوم يكمن فيه كل العبقريات، فكانت تعبيرا عن النغم المتقن. فوجودها في عالمنا جعل النغم بالفعل موجودا وبوضوح في حياة الناس. ارتبط ظهور أم كلثوم في العشرينيات بثورة فنية في الغناء والموسيقى، وكان صوتها من أبرز العوامل التي أدت إلى نجاح تلك الثورة. فقد كان غير معقول أن يصغي المستمعون إلى الألحان التي يصنعها الشيخ أبو العلا محمد لولا أن قيضت الأقدار السعيدة صوت أم كلثوم لهذه الألحان، فملأت الدنيا وشغلت الناس.
الميلاد والطفولة
كمعظم الأعلام الذين ولدوا في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، يظل تاريخ الميلاد لهؤلاء الأعلام غير دقيق أو ملتبسا، والكثير منهم حاولوا تغيير وتبديل تواريخ ميلادهم. ولم تكن أم كلثوم بعيدة عن هذا اللبس، فالشائع أن تاريخ ميلادها هو 31 ديسمبر 1898، ولكن هناك ما يؤكد بالوثائق أن تاريخ ميلادها هو 4 مايو 1904 وليس 1898 كما هو الشائع. بعد وفاة أم كلثوم بأيام، وقبل ذكرى الأربعين لها، كُلف الأستاذ صبري الزلفي، مدير الإعلام والنشر بمجلس مدينة السنبلاوين، بالبحث عن حقيقة تاريخ ميلاد أم كلثوم، وكانت النتيحة كالتالي: أن تاريخ ميلاد السيدة أم كلثوم هو 4 مايو 1904 وليس ديسمبر 1898 للأسباب الآتية:
أولا: أن شقيقها خالد إبراهيم السيد البلتاجي أكبر منها بعامين وتاريخ ميلاده عام 1902، فكيف يكون مواليد 1902 ويكبر أم كلثوم بعامين وتكون هي مواليد 1898؟
ثانيا: أن السيدة أم كلثوم حينما جاءت إلى كتَاب الشيخ إبراهيم جمعة في السنبلاوين عام 1910، كان عمرها ست سنوات، والتحقت بالصف الثاني الدراسي، وكان معها خالد وعمره 8 سنوات، وكان يجلس بجوارها على مقعد واحد زميل الطفولة واسمه “برهامي سليمان برهامي”، وتاريخ ميلاده 12 مايو 1900، أي أن عمره في ذلك الوقت 10 سنوات. ونشرت المجلة صفحة من دفتر المواليد بالقرية، ومستخرجا رسميا من دفاتر الدفترخانة في مأمورية الضرائب العقارية بالسنبلاوين للسيدة أم كلثوم، ومذكور فيها أنها مواليد 4 مايو 1904.

صديق الطفولة يتحدث لأول مرة
اسمه برهامي سليمان برهامي. يوم وفاة أم كلثوم كان قد أتم 75 عاما. حينما تراه، تبدو عليه هيئة الفنانين والمطربين الذين ظهروا في بداية القرن العشرين، فقد رافق أم كلثوم مشوارها الغنائي الأول حينما كانت تغني في الليالي الدينية والموالد، وكان يرافقها مع شقيقها خالد ينشدون معا الأغاني والموشحات، واستمر ذلك لمدة 8 سنوات حتى سافرت إلى القاهرة وبدأت رحلتها إلى المجد.
وربما لو سافر هو أيضا إلى القاهرة لأصبح فنانا مشهورا مثل زميلته في الكتاب أم كلثوم، يقول برهامي سليمان: “كانت أم كلثوم زميلتي في كتاب الشيخ إبراهيم جمعة بالسنبلاوين، وكنت أجلس على نفس التختة التي تجلس عليها. وقتها كان عمر أم كلثوم 6 سنوات، وذلك عام 1910، وكان عمري 10 سنوات تقريبا لأنني مواليد 1900، وكان أخوها خالد يكبرها بعامين أي عمره 8 سنوات. كانت معاملتها لنا رقيقة، صوتها منخفض، تطلب الشيء منا بأدب وترده لنا بالشكر، وفية في صداقتها معنا معتزة بكرامتها وكبريائها. بعد اليوم الدراسي، كنا نلعب “السيجة” أو تجلس على رصيف المحطة تغني موشحات دينية ومديحا في الرسول الكريم، لأنني كنت غاوي مغنى، وخاصة أن والدي كان يقيم ليلة دينية في نصف شعبان ويحضر “صييت” من بلقاس ليحيي الحفل الديني ونظل نغني أنا وأم كلثوم وأخوها خالد”.

أول حفل وأغنية
عن أول حفل وأغنية تغنيها أم كلثوم، يتحدث زميلها الشيخ برهامي فيقول: “فيه خفير نظامي اسمه عوض محمد عوض جاء الكتاب. وقال: يا عم الشيخ إبراهيم، لو سمحت نحضر حفل زفاف الليلة معك إخواننا المدرسون في الكتّاب وكمان التلاميذ والتلميذات، فلبى الشيخ إبراهيم دعوته. وقال لنا: يا ولاد لازم تحضروا الليلة واحفظوا كويس أبيات الشعر اللي قلت لكم عليها من أسبوع”، وكانت أبيات الشعر تقول:
سلم لمولاك العليم الحكيم
والشمس تجري لمستقر لها
ذلك تقدير العزيز العليم
يارب أن العيون السود قتلتني
وأن عاشقها لا زال مقتولا.
ويتابع الزميل القديم لأم كلثوم حديثه عن أول حفلة قائلا: “وفي هذه اللحظة جلسنا “بطانة” لسيدنا الشيخ إبراهيم، وبعده قامت أم كلثوم تردد الأبيات فشدت الناس وصفقوا لها. وعلشان كدة العريس جاء وأعطاها 15 قرشا، قدمت منها عشرة قروش لسيدنا الشيخ واحتفظت بخمسة قروش. في اليوم التالي صرفتها علينا في شراء الفول والطعمية من البياع “عبدالحميد البربري”.
فرقة الشيخ إبراهيم
كانت حفل زفاف الخفير “عوض” بمثابة طلقة البداية لتنهال العروض على فرقة الشيخ “إبراهيم” لإحياء الحفلات، وفي حفل كبير بالسنبلاوين، وقفت أم كلثوم تغني أول أغنية مؤلفة خصيصا لها وذلك مقابل عشرة قروش. وكانت بطانتها تتكون فقط من برهامي وخالد شقيقها. والقصيدة تقول:
بين الدلال وبين الحسن محكمة
اليوم جلستها والحكم في غدها
والقلب متهم فيها بسلوتها
وتهمة النفس فيها من تعشقها.
وارتفع أجرهم بعد ذلك، إذ أقاموا حفلا بمنزل سامي أفندي مهندس الري الذي أعطاهم جنيهين، وقد غنت أم كلثوم قصيدة تقول:
ملكتموا بالجمال روحي
وباللقاء وعدتموني
عار عليكم.. حرام عليكم ألا تجبروا حبا أتاكم.
وتكررت الحفلات في منزل سامي أفندي حتى عام 1917، ووصلت إلى أعلى أجر في تلك الفترة عندما أقامت حفلا في قرية “تمي الأمديد”. أقامها عمدة القرية “إسماعيل حسن” حيث دعا أم كلثوم وفرقتها، وذلك عام 1918. وكانت الفرقة وقتها مكونة فقط من والد أم كلثوم، والشيخ خالد شقيقها، والشيخ برهام. وكان الأجر هو عشر جنيهات. وكانت تلك الحفلات عبارة عن منافسة بين عمدة القرية ورجل آخر، كل واحد يريد أن يفوز بمنصب العمودية، فأحضر منافسه صالح عبدالحي وعبداللطيف البنا. واستمرت الحفلات حتى انتقلت أم كلثوم إلى القاهرة عام 1918.
أم كلثوم تكتب قصتها الحقيقية
في عام 1948 كتبت أم كلثوم مقالا بمجلة “آخر ساعة” بعنوان “قصتي الحقيقية”. تتحدث فيه عن بداياتها مع الغناء وعمرها ثماني سنوات، عندما غنت أمام مأذون قرية “طماي”. ولم تتقاض مليما، فقد كان مجرد الغناء أمام المأذون شرفا في حد ذاته. وعندما سمعها أهل القرية المدعوون عند المأذون طربوا بغنائها. وفي اليوم التالي دعيت إلى فرح خفير نظامي في عزبة “الحوال”، وغنت فيها حتى الصباح، وتقاضت في ذلك الحفل أول أجر لها، وهى الحفل الذي ذكره أيضا رفيق طفولتها “برهامي”.
أول حفل بتذاكر
بعد ذلك، فكر حسن أفندي حلمي، التاجر بمحطة أبو الشقوق، في إقامة ليلة يكون الدخول فيها بأجر. وكان أجر الدخول خمسة قروش في الدرجة الأولى، وثلاثة قروش في الدرجة الثانية، و”ببلاش” في الدرجة الثالثة. أي يقف المتفرج من وراء الخيمة. ونجحت الليلة نجاحا لم يخطر على بال، فقد حضرها متفرجون من كل البلاد المجاورة. حصلت أم كلثوم في تلك الليلة على جنيها ونصف جنيه، فنظرت إلى الجنيه في دهشة. فقد كان أول جنيها تراه في حياتها. ثم دعاها عبدالمطلب أفندي، الموظف بدائرة الشناوي باشا، لإقامة حفل فرح في كفر برماص بندر المنصورة، بأجر قدره جنيه ونصف في الليلة، بما في ذلك مصاريف الانتقال.
ثم بعد ذلك، وجدت أم كلثوم نفسها تنتقل من مديرية إلى أخرى. وفي سنة 1915 كانت تركب حمارا، ويسير والدها وأخوها على أقدامهما. وبعد ذلك زاد الإيراد، فركبوا جميعا ثلاث حمير. وتقول أم كلثوم: “من الطريف أن أهل الفرح كانوا يحضرون لنا حميرا لنذهب بها إلى الفرح. وبعد انتهاء الفرح يتركوننا نعود إلى بيتنا سيرا على الأقدام!
أما أول دار لشخصية كبيرة تغني فيها أم كلثوم، فقد كان بيت “نعمان باشا الأعصر” بالمحلة الكبرى. وقد أرسل بدعوتها بالتلغراف، وكان هذا هو أول تلغراف تستقبله أم كلثوم في حياتها. وقد أعطاها الأعصر باشا ثلاثة جنيهات في كوفية من الحرير. وفي تلك الليلة، رآها الشيخ أبو العلا محمد لأول مرة، وأصبح أستاذها لتتغير مجرى حياتها تماما. فقد سافرت مع الشيخ أبو العلا إلى القاهرة، وتتلمذت على يديه لتبدأ رحلة المجد والخلود.
اقرأ أيضا:
«الست» في 2025: ماذا لو كانت أم كلثوم بيننا اليوم؟
أم كلثوم العربية ضد عبد الوهاب المصري على الشاشة