«شنطة سفر»: القهوة تستحق الانتظار (1-3)
تعرفت على ميريانا ديفيت حينما خاطبتني عام 2002 بخصوص مقالتي عن مكتبة الإسكندرية في مجلة العمارة، الصادرة عن مدينة دبي الإعلامية، والتي كانت محررتها الهندية تبحث عمن يكتب لها المقال الرئيسي بالمجان بمناسبة افتتاح المكتبة، مقابل وضع الاسم والصورة والسيرة الذاتية الملخصة والحصول على مجموعة أعداد مجانا.
رفض من تواصلت معهم المحررة من المعماريين/الأكاديميين أن يكتبوا المقال بالمجان، وأنا قبلت. وبعدها قمت بكتابة عدة مقالات في هذه المجلة وغيرها وأصبحت “سونا” من وقتها صديقتي (وهذه حكاية أخرى). وفي هذا الوقت، كانت ثقافتنا عن الصرب مازالت متأثرة بالحرب بينهم وبين البوسنة والهرسك.
***
ميريانا -دكتورة في قسم العمارة، كلية الهندسة جامعة بلجراد، كانت تريد تحويل مقالي إلى كتاب إلكتروني، لتدريسه في مقرر ثقافة التواصل الإلكتروني التي تقوم بتدريسه، وطلبت أن تستضيفني في هذا الكورس (عن بعد). وبعد عامان، كان مؤتمر الاتحاد الدولي للمعماريين في مكتبة الإسكندرية، اشتركت فيه ميريانا وتقابلنا، ووجدتها رقيقة ودمها خفيف. وكانت محتفظة في جيب بدلتها بعقد لولي وحلق وأشياء أخرى وفق نصيحتي لها، عندما سألتني قبل مجيئها عن الجو في إسكندرية، و”نلبس ايه؟”، كان ردي بدل. وأضفت، إني شخصيا أحب الإكسسوارات جدا وهي من أساسياتي.
انتهى المؤتمر وظلينا على تواصل من خلال البريد الإلكتروني، والمنتديات المعمارية، ثم مواقع التواصل الاجتماعي، وصرنا أصدقاء. نحكي لبعضنا البعض عن أخبار الشغل والأبحاث. علمتني ميريانا أن أفكر “بالتجريد” من خلال كلمات مفتاحية. المهم، لم ألتق ميريانا من 2004 إلى 2015. كان عندي اجتماع في رومانيا، وبعده بأسبوع كان من المفترض أن أكون في مؤتمر آخر بألمانيا. وقررت بدل العودة إلى مصر والسفر مرة أخري أن أزور ميريانا وأتعرف على بلجراد.
***
خططت ميريانا لي أن أقدم محاضرة عامة عن العمارة الإسلامية، وحجزت لي في نُزُل الأساتذة بالقرب من الجامعة. لم أخطط لإقامتي في بلجراد وقررت أن “أسيب نفسي”. في المطار من بوخارست لبلجراد احتجزت أكتر من ساعة ليتحققوا مني أمنيا!!! وصلت مطار بلجراد، وجدت ميريانا وباتير في انتظاري بالتاكسي. أخذاني إلى مكان إقامتي، وقد أحضرا لي رغيف عيش بني loaf يكفيني المدة كلها مع قرص جبنة مع 2 كيلو عنب، وماج وملعقة وسكين ولوفة مواعين وكل ما يمكن أن احتاجه خلال مدة إقامتي. وأهداني باتير شال حرير قام بالرسم عليه يدويا. وكان أهم ما أحضراه لي هو القهوة، والتي أشرب منها مرة تلو المرة على مدار النهار.
مبنى الإقامة هو نزل الطلبة بشارع ألكساندر الأول والذي خصص الدور الرابع منه لإقامة الأساتذة وضيوف الجامعة (ظهر المبنى في مسلسل أحمد عز هجمة مرتدة – رمضان 2021). ستديوهات غاية في البساطة وآية في الشياكة ومجهزة بكل ما يمكن أن تحتاجه إقامة طويلة للدراسة أو التدريس. يطل المبنى على حديقة إيريلاوميتوديجا واللي تمتلئ بالناس 24 ساعة، مع كلابهم أو مع الأطفال، في مجموعات من الشباب والعجائز، أو فرادى.
***
الحديقة دائما منيرة وبها العديد من التماثيل. ننزل من آخرها لمحطة المترو أو نعبر الشارع من النفق إلى الجامعة على الجانب الآخر أو نركب الأتوبيس من المحطة أمام مدخلها. جامعة بلغراد هي أقدم وأهم جامعة في ثاني أكبر جامعة في منطقة البلقان بعد جامعة أرسطو في تسالونيكي. تأسست عام 1808 تمت تسميتها عدة مرات حتى عام 1996 أصبحت جامعة بلجراد الحكومية.
يضم الحرم الجامعي المركزي 8 مباني أكاديمية ومكتبة البحوث ودار نشر، ومتحف التاريخ، مكتب الصحيفة الجامعية، مركز الإرشاد الوظيفي، المركز الثقافي للشباب، بناية سكنية لأعضاء هيئة التدريس ومبنى إداري. ولها مكتبة جامعية ضخمة تضم أكثر من مليون كتاب كما تتميز بالمتاحف التاريخية وعدد من المعامل، بالإضافة إلى مدرسة الفروسية وحديقة نباتية ومركز ترفيهي.
مبنى الجامعة كلاسيكي عريق. دخول المبنى بدون أي تعقيدات أمنية. بهو الجامعة ذكرني بمبنى كلية الآداب جامعة القاهرة، السلالم، الرخام، التماثيل، إضافة إلى أساتذة الجامعة كانت ميريانا قد دعت أساتذة من جامعة سكوبيا، مقدونيا، وأساتذة ومعماريين من البوسنة لحضور محاضرتي. أخدتنا كلنا في جولة على الأقدام لمعالم بلجراد، وعرفت أن كثير من الصرب والبوسنيين يرتبطون بصلات عائلية ومازالوا أصدقاء و”على طول مع بعض”. كانت المحاضرة ناجحة جدا الحمد لله، عرضت على شاشتين (عرضين متوازيين) في نفس الوقت، وكانت مؤثرة لدرجة أن أساتذة جامعة سكوبيا دعوني لإعادة المحاضرة عندهم بعدها بشهر ونص. أعدت لنا ميريانا اجتماعات على منضدة مستديرة وقهوة مع العميدة وبعض الأساتذة لدراسة إمكانات الشراكة، وأهدوني كتاب عن عمارة الحداثة في بلجراد.
***
بعد ما أتممت المهمة العلمية، كانت مهمة اكتشاف بلجراد. وميريانا “ما قصرتش خالص”. مكان مقابلتنا أنا وميريانا دائما في ميدان الجمهورية في قهوة معينة أسميناها “القهوة بتاعتنا”. تطل على الحصان. وفي هذا الميدان موقع بعض المباني العامة الأكثر شهرة في بلجراد، بما فيهم المتحف الوطني والمسرح الوطني وتمثال الأمير مايكل، ومنه نتفرع لمنطقة المشاة والمحلات. جولات في أهم المباني، الكنيسة الأرثوذكسية الصربية لها مظاهر معمارية وفنية قريبة جدا من كنائسنا.
أخذتني عند باتير في مبنى الإذاعة والتليفزيون ودخوله أيضا بدون إجراءات أمنية، كان به معرض فني تصوير زيتي ونحت. ثم أخذتني في رحلة على الأقدام مع صديقتها تاتيانا والتي يوافق تاريخ عيد ميلادها عيد ميلادي، وزرنا المعرض المعماري وتعلمت كثيرا عن العمارة الصربية. وأخذتني إلى الممشى الجديد على نهر السافا (مشروع تطوير كورنيش بلجراد) وقابلنا صديقتها مديرة متحف العمارة لدراسة إمكانات الشراكة أو التعاون مع بيت المعمار المصري. وقابلة بيليانا (عضو برنامج العمارة والأطفال بالاتحاد الدولي للمعماريين) والتي أهدتني لعب معمارية للأطفال تصممها وتنتجها. وأخذتني إلى متحف تيتو.
***
كان تيتو رئيس الحزب الشيوعي اليوغوسلافي وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى 1939 وبعدها قائد المقاومة ضد الاحتلال النازي لحد نهاية الحرب 1945 وبعدها أصبح رئيس الوزراء وبعدها رئيس الدولة، وكانت البلاد بأسرها تحتفل بعيد ميلاده على أنه (يوم الشباب) حتى وفاته عام 1980. وتيتو هو مؤسس حركة عدم الانحياز مع نهرو وعبد الناصر.
وبعد موت تيتو دخل الاتحاد اليوغوسلافي في صراعات وانفصلت سلوفينيا وبعدها كرواتيا والبوسنة بعدها الجبل الأسود ثم كوسوفو. يقع المتحف في متنزه “يوغولاند بارك” في منطقة سوبوتيكا، ومن بعيد وسط الأشجار، مازال علم يوغوسلافيا السابقة المخطط أفقيا بالأزرق والأبيض والأحمر والمطبوع بنجمة حمراء يرفرف أعلى المدخل. يظهر تمثال تيتو في وسط الحدائق بارتفاع 10 أمتار. مرقده (ضريحه) وسط أشجار وورود داخل المتحف وإلى جواره مرقد زوجته. داخل جسم مبنى المتحف مقتنياته الشخصية، والصور والرسائل والبرقيات. ونرى من خلال الصور كيف كان له حضور طاغي وسط زعماء العالم في الستينيات.
ونرى من الوثائق كيف شهدت يوغوسلافيا في عهده نموا اقتصاديا جيدا وتمتعت بعلاقات ممتازة مع معظم دول العالم، مع أنها كانت ميالة للاتحاد السوفيتي. وكان تيتو غاوي سينما وعاشقا لممثلات هوليوود، يستضيفهم في رحلات الصيد والاستجمام على الشواطئ. ضمن الصور صورة لجمال عبدالناصر بالزى العسكري وهو يتوسط زعماء العالم، إضافة إلى صورة للسادات وبرقية تحمل اسم السادات باللغة الإنجليزية.
***
من أول مدخل المتحف وبداخلي إحساس إني في مصر الستينيات. العمارة الاشتراكية الحديثة، واجهة المبنى الصماء محمولة على أعمدة، عدد من السلالم قبل المدخل الغاطس، بلاط الموزايكو الصغير مثل ذلك الموجود في المريلاند القديم، والتليفزيون المصري ومدخل هيلتون النيل (ريتز حاليا) ومباني كثيرة في مدينة نصر السبعينيات. بساطة فرش المتحف أكدت هذا الشعور كأني دخلت محل إيديال، أو كأني خطوت داخل فيلم أبيض وأسود من أفلام صلاح ذو الفقار وشادية. وعندما انطفأ النور في قاعة العرض، ظهر عبد الناصر في معظم لقطات الفيلم مع تيتو… وزاد إحساسي بأنني في مصر.
وليس متحف تيتو فقط الذي أعطاني هذا الشعور، لكن أيضا الميدان في آخر شارع ألكسندر قبل الدوران. وبعض الشوارع الداخلية بعمارات من الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. الأرصفة ومداخل العمارات والبلكونات بالكراكيب والزرع فيها، والسيدات تنشر الغسيل وكبار السن جالسين في البلكونة “يتفرجوا ع اللي رايح واللي جاي”. أخذتني ميريانا إلى بلجراد الجديدة (بنركب أتوبيس ونعدي النهر) وزرنا المساكن “الاشتراكية” الجديدة التي اشترت ميريانا فيها شقة. العمارات الشرفة/الممر – نوع الوصول balcony/corridor – access type مستطيل حول حيز يمكن أن يكون فناء داخلي للعب الأطفال وفعاليات الجيران المختلفة. وفي الممرات/البلكونات يترك السكان فيها العجل وينشرون الغسيل، ويضعون كراسي، وأشياء أخرى كثيرة خارج الشقق. الشقق مساحتها 60 متر بحل معماري جيد جدا وبها أماكن تخزين أيضا.
وكل بضع شقق بينهم بلكونة كبيرة مثل الفرندة، بارزة قليلا عن جسم المبنى وتطل على الشوارع البينية، ليستعملها الجيران بطريقة تشاركية. بالرغم من أن التصميم العمراني شبكي، إلا أن الحلول في منتهى البساطة، وفيه مراعاة للمشاة والأطفال والكبار. الشمس والهوا من جميع الاتجاهات. الزرع في كل مكان، الملاعب المفتوحة للكل. والشقق بالتقسيط على ٥٠ سنة! وببلجراد الجديدة قرية أوليمبية ومولات وغيره.
***
من أجمل المناطق التي تركت أثرا في قلبي هي منطقة زيمون. وهي منطقة جبلية متدرجة على نهر الدانوب وكانت أصلا قرية زراعية كما هي قرية للصيادين أو بلدة منفصلة عن المدينة. بها كمية مطاعم وكافيتريات على المياه (نهر الدانوب) من أجمل ما يكون. كلهم في منتهى البساطة وروح المكان أصيلة وعتيقة، وقديمة. وهي مرتبطة بالمزارع والصناعات الغذائية.
لن يسع المقام هنا الحديث حول الأكل وجماله ولا على دفئ ميريانا وباتير وكل من تعرفت عليهم هناك. وحينما ذهبت إلى المطار للسفر إلى المانيا، كانت شركة طيران لوفتهانزا بها إضراب. اتصلت بميريانا وأتت إلى المطار وأخذتني إلى مكتبها في الجامعة. واتصلت بشركة طيران صربيا والتي وافقت على إنقاذ الموقف، فأطير إلى برلين ويتم التفاوض على ثمن التذكرة مع لوفتهانزا.
ونزلنا نلتقط آخر أشعة شمس نوفمبرية، وذهبت إلى المطار. استمتعت جدا بهذا الأسبوع في بلجراد، وتعرفت فيه على أناس كثيرون، وعرفت حاجات كتير عن الناس والعلاقات الأسرية. ولكني لم أشعر بأنني “هضمت” المدينة وناسها. فوضعتها على قائمتي، واشتريت كتاب رائع معتمد على الاسكتشات اليدوية مع الشرح المبسط بعنوان “قطع من صربيا“. ووعدت نفسي أن الزيارة القادمة ستكون مدروسة ومخططة لمعايشة المدينة.