قصة عالمة أمريكية جمعت 400 فستان فلسطيني منذ عام 1850| صور

تحتفظ حنان قرمان منير بذكرى لحظة ساحرة وقعت عام 1987، عندما لاحظت مجموعة من الفساتين والإكسسوارات الفلسطينية في معرض تاجر تحف في نيويورك بالولايات المتحدة. بالرغم من أصولها الفلسطينية، إلا أنها لم تكن قد شاهدت من قبل جمال التطريز الفريد على تلك القطع التي تعود إلى أوائل القرن العشرين.

بهذه القطع المُطرزة بدأت د.حنان قرمان منير، وزوجها د.فرح يوسف منير في خوض معركتهما مع الاحتلال الإسرائيلي دون حمل سلاح. بل بـ”إبرة وخيط” فقط، صاغا بهما أصل الصراع من وجهة نظر فلسطينية وعرضها في الولايات المتحدة.

على مدار 35 عاما نجحا في جمع الكثير من الأثواب الفلسطينية المطرزة التي يتجاوز عمرها 170 عاما. كل خيط بقطعة منهم يروي تاريخ منطقة من فلسطين، مزينة برموز سردت بها النساء حكاياتهن بينما كانوا في فلسطين.

نجحت حنان في فك شفرة هذه الرموز وطرح معلومات جديدة عن طبيعة ملابس النساء في كل منطقة بفلسطين قديما. وكأن لكل سيدة زى يخبر الجميع من أي منطقة هي. فتطريز أثواب رام الله، تختلف عن بيت المقدس، وبيت لحم، ويافا والخليل وغزة والنقد واللد.

 فلسطين في كل مكان

ترجع بداية تغيير حياة حنان وزوجها العالمان الأمريكيان من أصل فلسطيني، بعدما هاجرا بسنوات إلى الولايات المتحدة من حيفا واللد بفلسطين. ومنذ ذلك الحين، عمل كلاهما في مجال البحوث الصيدلانية. أثناء البحث عن كتاب عن الأزياء التقليدية الفلسطينية في أحد المتاجر في القدس، وعرض عليهما  صاحب المحل مجموعة كبيرة من الأزياء الفلسطينية العتيقة للبيع. أثار هذا البيع سلسلة من الأحداث التي حولت حياتها من الطب إلى التاريخ.

اعتزم التاجر بيع الفساتين الـ65 كل قطعة على حدة. ولكن حنان وزوجها فرح أدركا أن هذه المجموعة لها قيمة لا تقدر بثمن ولا يمكن بيعها مجتزئة. إذ تعتبر حنان التطريز واحداً من أقوى أشكال التعبير عن الثقافة.

في اللحظة نفسها لم يتردد الزوجان بشأن شراء المجموعة كاملة. وبدأ نشاطهما الثقافي في أبريل 1987، باقتناء مجموعة كبيرة من الأزياء والمجوهرات الفلسطينية. وبعد ثلاثة أعوام حصلا على مجموعة فريدة مملوكة للراحلة رولا فولي الأمريكية التي عاشت في فلسطين عام 1938. تضم مجموعة فولي، التي وصلت إلى يد هذا التاجر، عددًا كبيرًا من القطع عالية الجودة من الأزياء الفلسطينية والسورية، والتي يعود تاريخ بعضها إلى عام 1850.

«رهبة وسعادة ومشاعر أخرى لا تُوصف» تصف المؤرخة الفلسطينية لـ”باب مصر” مشاعرها بأنها لم تتخيل أنها تمسك بين يديها أثواب من القماش المطرزة التي يتجاوز عمرها مائة عام. وكأنهما أرادا أن يحملاها ويسيرا بها في الشارع ليراها كل شخص.

من الصيدلة لعلوم النسيج

قرر الزوجان الحصول على قرض لشراء منزل واقتناء القطع بأكملها. وعندما تملكوا هذه الأرض، أدركت أن هناك الكثير لا يعرفونه بعد عن تاريخهم.

تعامل الغرب لفترة طويلة مع العرب وفقا للصورة الإعلامية المشوهة. هذا التحدي كان سببا في أن يكون الزوجان الفلسطينيان المقيمان بالولايات المتحدة سفراء ثقافيون لحضارة كنعان. وباستخدام خبرتها كعالمة أحياء جزيئية، قامت بالبحث في تاريخ الأزياء الفلسطينية. من خلال الكتب المتاحة آنذاك، والاستعانة بخبراء النسيج، ورحلات العودة إلى الشرق الأوسط.

يحتفظ الزوجان بأكثر من 400 فستان، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى 1100 قطعة أخرى تتضمن المجوهرات وأغطية الرأس والسترات والشالات، والكثير منها مزين بالتطريز الفلسطيني الفريد.

على حد وصف المؤرخة الفلسطينية لـ”باب مصر”، هذه الخيوط المُحاكة بعناية ودقة صامدة على مدار عشرات العقود كانت عينة سهلة النقل للثقافة الفلسطينية. وتساءلا عن كيفية تطور هذا الفن إلى هذه الدرجة من التعقيد. وهكذا بدأ بحث طويل في تاريخ الفن والآثار وتفسير الرموز والأنماط القديمة في تاريخ الأزياء والحرف اليدوية في الشرق الأوسط الذي امتد لفترة أربعة آلاف عام.

كشفت دراسة هذه الأنماط الدائمة عن “لغة”. وهي عبارة عن نص من الرموز الفردية التي اختارها المطرزون ليتغلبوا على افتقارهم إلى مهارات الكتابة من خلال قدرتهم على التعبير عن إبداعهم من خلال اختيار الأنماط المنسوخة من جيل إلى جيل.

وجدت حنان في الرموز المستخدمة للكتابة على الأزياء الفلسطينية كنزا ثقافيا. إذ تعتبر هذه المجموعة الغنية من الأنماط القديمة التي نجت في هذه الأزياء التقليدية مصدرًا للبيانات التاريخية مثل أي اكتشاف أثري.

تاريخ التطريز الفلسطيني

لم تكتف بفك هذه الرموز فقط، بل لاحظت أن لكل قطعة طابع مميز يختلف عن الآخر. فيما تتشابه قطع تاما باختلاف لون القماش. وكان هذا سببا في دراستها لتاريخ كل قطعة ومعرفة مصدرها من مدن فلسطين.

رغم تنوع الأثواب والعباءات إلا أنها تشترك في أنها جميعا للنساء. منها عباءات مزينة باللون الأحمر الزاهي وذات تصميمات هندسية تفصيلية، التي ترمز إلى نضج الفتاة واستعدادها للزواج. وغطاء رأس امرأة متزوجة من بيت لحم يعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين.

وقطع أخرى قد تشاهدها للمرة الأولى، لقبعة مخروطية الشكل مرصعة بالعملات العثمانية والخرز المرجاني والتطريز الحريري. وكلها مرتبطة بالمجوهرات الفضية الرقيقة التي كان من المفترض أن تتدلى فوق فستانها.

وتتألق العباءات الأخرى بمساحات واسعة من القماش الحريري أو القطني متعدد الألوان، والمغطى بخياطة نابضة بالحياة. وتتنوع الألوان بين الأرجواني والبرتقالي والأحمر والأبيض. وتتسم بوجود رموز في كل تصميم مثل أوراق الشجر والأمشاط ذات الحدين وأكواب. وخمس دوائر وهو يرمز إلى بيت لحم التي كانت ذات يوم مسيحية تمثل المسيح والرسل الأربعة.

وتضيف لـ”باب مصر”: “يتنوع التطريز باختلاف مناطق فلسطين، كل منطقة لها تطريز وطابع خاص بها وأردنا تعريف الجيل الجديد للشباب الأمريكيين وفي الغرب بهذه الملابس ذات التطريز الفلسطيني. مثل الملابس القديمة لرام الله عام 1920، ولها طابع مختلف تماما عن أزياء منطقة الخليل، وطاقية الدراهم هي للعروس فقط، وباقي الزى أو الثوب يكون لعروس أيضا”.

وتستكمل: “لباس منطقة نابلس مختلف تماما بدون تطريز لأنهم بهذه المنطقة لم يحبوا التطريز بكثرة بخلاف باقي المحافظات الفلسطينية. كذلك غطاء الرأس في بيت لحم يكون مرتفع لأعلى ومنها غطاء للرأس يرجع إلى عام 1850 وسكان فلسطين أثناء البحث لم يتعرفوا عليه. وفي العالم بأكمله يوجد 4 قبعات فقط، وهو أمر نادر، ولم تذكر معلومات عنه في الكثير من المراجع التاريخية”.

خيوط سيادية

نظمت قرمان وزوجها العديد من المعارض لعرض هذه القطع النادرة. ومن ضمنها 35 فستانًا يعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وتم عرضها في متحف الحرف والفنون الشعبية .

وباستخدام هذه القطع الفنية أيضا والمواد البحثية التي جمعتها حنان في عام 1990، أنتجا فيلمًا وثائقيًا بعنوان “الأزياء الفلسطينية والتطريز: إرث ثمين”، يشرح أصل وتاريخ فن التطريز في فلسطين والشرق الأوسط.

منذ إنتاج هذا الفيلم أصبح مرجعا للتراث الثقافي لفلسطين. وتم توزيع 100 نسخة على المكتبات وأقسام دراسات الشرق الأوسط. وكانت إحدى النتائج الملموسة لهذه العروض هي تشكيل “مؤسسة التراث الفلسطيني”.

على مر السنين، استمدت مؤسسة التراث الفلسطيني إلهامها من الأشخاص الذين تابعوا عروضها أو شاركوا فيها. فقد ساهمت هذه العروض في بناء شعور جديد لدى الشباب العرب الأميركي بفخر بتراثهم.

وعلى حد وصفها، الأزياء التي تُعرض ليست مجرد قطع ملابس، بل هي قطع تاريخية تعبّر عن الثقافة. ونادرًا ما يتعرّف الأميركيون غير العرب على فن وثقافة العالم العربي. وتقول: “يخبروننا أنهم يغادرون المعارض بتقدير كبير لتعقيد وجمال الفساتين والمجوهرات، وباحترام جديد للحضارة العربية التي صاغها الأجداد”.

مؤسسة التراث الفلسطيني

يرجع تاريخ تأسيس مؤسسة التراث الفلسطيني إلى عام 1992، كمنظمة غير ربحية معفاة من الضرائب وتتمتع بمجلس استشاري مكون من شخصيات في المجالات الفكرية والثقافية والفنية.

وعلى مدار ثلاثة عقود، تهدف مؤسسة التراث الفلسطيني إلى تعريف الجمهور الأمريكي بالثقافة والفن العربي. قدمت المؤسسة معارض كبرى في عدة مواقع مثل متحف مينجي للفنون الشعبية في لا جولا، سان دييجو، ومتحف فولر للفنون بالقرب من بوسطن.

كما قدمت عروضًا خاصة في عدة مواقع مثل قاعة ليمان بجامعة هارفارد، والأمم المتحدة في نيويورك، ومكتبات عامة في نيوجيرسي. وأقيمت عروض حية في العديد من المناسبات والفعاليات مثل الأمم المتحدة ومهرجان العالم العربي في ميشيجان ودار الطفل في لوس أنجلوس والمؤسسة الثقافية الفلسطينية الكندية في كندا وغيرها الكثير.

وفي عام 1998، حصلت مؤسسة التراث الفلسطيني على جائزة الثقافة والتراث من قبل اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز خلال حفل توزيع جوائز المؤتمر الوطني السنوي الخامس عشر.

اقرأ أيضا:

حوار| المصور الفلسطيني أسامة سلوادي: عين على المعاناة والتراث الفلسطيني

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر