عرض لكتاب نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفيتي

كتب ـ مارك أمجد

بعد حصول الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988 تبارى جميع الكتاب والنقاد والصحفيين العرب والأجانب لإعادة استكشاف مؤلف الثلاثية وأولاد حارتنا واللص والكلاب.

ومن بين تلك المحاولات الحثيثة أتى ذلك الكتاب من إعداد أحمد الخميسي كتجربة فريدة لسبر أغوار الاتحاد السوفييتي والصورة التي تشكلت لأديبنا المرموق لديهم، خاصة وأنه من قبل خبر جائزة نوبل ومحفوظ أعماله مترجمة عندهم في هيئة كتب تتضمن مقتطفات من رواياته وقصصه وقائمة عليه أيضا دراسات أكاديمية من قبل كبار الأساتذة هناك وفي أشهر الصحف والمجلات.

وبالتالي كان من المنطقي أن تُتوج مسيرة نجيب في عالم السوفييت بهذا الكتاب الذي يعرض في عجالة لعدد من الأساتذة الجامعيين لديهم وما أجروه من رسائل بحث ودكتوراه وما لفت نظرهم في أعمال محفوظنا البديع.

الرواية العربية

اهتم الكُتّاب السوفييت بالثلاثية في المقام الأول خاصة أن ذلك النوع من الروايات الضخمة كثير الأجيال والشخصيات والأحداث، إن كان موجودا صحيح في الأدب الألماني والروسي والإنجليزي، لكنه اعتُبر دخيل على الأدب المصري، لكن ذلك ليس بغريب على الأديب الذي أعطى الرواية العربية مكانتها ومنحها هوية مميزة لترتقي وسط الآداب العالمية.

كذلك اهتموا باللص والكلاب، وخاصة إشكالية سعيد مهران المجرم والمثقف الذي كان مولده على يد خيانة زوجته وشريكه، وأيضا هو نتيجة تعاليم المثقف الفقير رؤوف علوان الذي حثه على سرقة الأغنياء في يوم من الأيام ولما قامت ثورة 52 وسلبت من سلبتهم ورفعت من رفعتهم قفز رؤوف على الفرصة وصار بدوره من أغنياء المجتمع، ولم يتردد سعيد مهران في سرقته وقتله، لكن رصاصة سعيد كعادتها تصيب شخصا آخر بريئا، وكأنها رسالة محفوظ أن أشخاصا آخرين دوما عليهم أن يدفعوا الثمن.

بشكل عام كان يرى السوفييت أن روايات محفوظ لا خلاف عليها، أما قصصه فيمكن أن تكون الآراء نحو روعتها نسبية. من حيث الروايات تناولوا مثلا ثرثرة فوق النيل وتخلخل المجتمع الثقافي في مصر من خلالها، والسمان والخريف التي رثى بها نجيب محفوظ علاقته بحزب الوفد، والمرايا التي تتعرض لنماذج متعددة من شخصيات المجتمع المصري المشوهة وكأنهم جميعا مرايا لبعضهم وللواقع السيء من حولهم، وبداية ونهاية التي يراها السوفييت تمرين مبدئي لمحفوظ قبل أن يتشجع ويشرع في عمل ضخم وصعب كالثلاثية.

التراجيديا الأسرية

أما بداية ونهاية فكانت التراجيديا الأسرية التي استطاع عبرها الكاتب أن يرصد آلام المجتمع ومواطن ضعفه من خلال أسرة يتوفى الأب مُعيلها فيتبقى الابنان أحدهما ضابط والثاني مجرم وأخت دميمة يغرر بها بائع فقير بعد أن يقنعها بحبه الكاذب ولما تجد أنها فقدت شرفها هباء تقرر أن تفقده مرات ومرات لكن بمقابل، ورواية زقاق المدق أيضا وشخصية حميدة التي تحلم بحياة أخرى أفضل خارج الحارة وهو هاجس الهروب الذي لم يتخل عنه محفوظ في أي من أعماله.

رواية أولاد حارتنا اعتبرها السوفييت شهادة وإقرار من المفكر والفيلسوف نجيب محفوظ بأن العلم هو دين العصر، وأنه سينتصر في النهاية مهما كانت الأوضاع والتحايلات، ويستدلون على ذلك من شخصية عرفة في الرواية وكيف ساندته زوجته ليحقق أحلامه وانتصاراته، كذلك شخصية الجبلاوي اعتبروها السوفييت رمزا واضحا كل الوضوح للذات الإلهية، وهم يرون أن علاقة نجيب بالله كانت في غاية التعقيد.

وانعكس ذلك على كثير من أعماله فنجد مثلا في رواية الطريق ابنا يكتشف في أول الأحداث أن أبا له لا زال على قيد الحياة ويجب أن يخوض رحلة بحث عنه طويلة. هذا الأب يرسم له محفوظ سمات لا تبتعد كثيرا عن غموض واختفاء الجبلاوي في أولاد حارتنا، الأمر الذي يشي بأنه ربما يكون كلام السوفييت على جانب كبير من دقة الملاحظة.

لاحظ السوفييت أيضا نظرة محفوظ الثابتة لبعض الأمور وأحيانا كانت تُأخذ عليه مثل هذه الأشياء ويتم إرجاعها لثقافته كمثقف شرقي مهما بلغت درجة تحرره، فهم مثلا علقوا على نموذج المرأة الخؤون في أعماله: مثل زوجة سعيد مهران في اللص والكلاب، وحماة أحد أبناء السيد محمد عبد الجواد في الثلاثية.

العاشقة المتصابية

حيث كانت امرأة ترغب في الجنس حتى بعد أن كبرت في السن وحتى لو ستفعل ذلك مع رجل تقدم في الأصل لخطبة ابنتها، وزبيدة العالمة في نفس العمل وحاشية غانياتها، والعاشقة المتصابية في المرايا التي قالت بالحرف أن المرأة الفاضلة يكفيها زوج وعشيق واحد… وليست المشكلة هي جنوح كل هؤلاء النساء في أعماله للفجور وإنما إظهار كل امرأة تحب الجنس والعلاقات السرية في إطار مقزز وكأنه نفسه الأديب يعاقبها على سلوكها ذلك.

على عكس الرجال مثلا في رواياته الذين يترك لهم متسعا من الفساد والانحلال، حتى ذهب أحد المستشرقين السوفييت في تخيلاته إلى أن شخصية السيد محمد عبد الجواد ما هي إلا انعكاس طفيف لشخصية نجيب محفوظ في الحقيقة.

الكتاب من إعداد الكاتب والقصاص أحمد الخميسي صادر عن دار الثقافة الجديدة طبعة أولى عام 1989 في 180 صفحة من القطع الصغير وما زال متوفرا حتى الآن في مكتبة مقر الدار بشارع صبري أبو علم لكن بأعداد قليلة من تلك النسخة، كما أعيد طباعة الكتاب وصدوره عن قطاع صندوق التنمية الثقافية بغلاف ملون يحمل صوة نجيب محفوظ عام 2017.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر