د. بسمة سليم: مصر الجديدة تملك هوية بصرية فريدة يجب إدراجها على خريطة السياحة

التراث ليس مجرد مبانٍ قديمة أو شواهد تاريخية، بل هو حكاية مجتمع وهوية أمة وذاكرة مدينة. في كتابها «التراث الثقافي غير المستغل وأثره على تنمية السياحة المستدامة في هليوبوليس»، تسلط د. بسمة سليم، مديرة قصر البارون إمبان بوزارة السياحة والآثار، وباحثة دكتوراه في الدراسات التراثية والمتحفية بجامعة حلوان، الضوء على واحد من أعرق أحياء القاهرة وأكثرها تفردًا، وهو حي مصر الجديدة، الذي يعد لوحة عمرانية وثقافية نادرة.
الكتاب لا يكتفي بتوثيق تاريخ المكان، بل يكشف أيضا عن الفرص الضائعة لإحياء هذا التراث وتوظيفه في التنمية الثقافية. وبين صفحاته تتجلى خبرة المؤلفة كمتخصصة في الآثار وإدارة التراث، لتقدم رؤية نقدية تدعو لإعادة التفكير في علاقتنا بماضينا وكيفية استثماره في صناعة المستقبل.
في هذا الحوار، نفتح مع الكاتبة ملف هليوبوليس كرمز للتراث غير المستغل، ونناقش معها تحديات الحفاظ على الهوية وسط التغيرات العمرانية السريعة، وفرص تحويل التراث إلى مورد حي يسهم في تشكيل وعي الأجيال القادمة.
-
لماذا اخترتِ موضوع التراث الثقافي غير المستغل تحديدًا ليكون محور الكتاب؟
كان الكتاب في الأصل رسالة الماجستير التي أنجزتها عام 2017 بجامعة السوربون في باريس. خلال تلك الفترة كنت أعمل مفتشة آثار في قصر البارون، وأجريت العديد من الدراسات حول القصر ذاته وحي مصر الجديدة. ومن خلال عملي في القصر تعرّفت على منشئه، وكان يؤلمني كثيرًا أن أرى الآثار والمباني التراثية غير المستغلة. على الرغم مما تحمله من قيمة فنية وتاريخية عظيمة.
كنت أحلم بربط التراث المصري بمصر الجديدة بسياحة الترانزيت، نظرًا لقرب بعض المواقع الأثرية والتراثية بها من المطار. فقد كنت كثيرة السفر، وخلال فترات الترانزيت كنت أحرص على استكشاف الأماكن القريبة. غير أن ضيق الوقت كان غالبًا ما يحول دون ذلك.
أما بالنسبة لحي مصر الجديدة، فكنت أشعر دائمًا بأنه غير مستغل رغم ما يتمتع به من إمكانات هائلة في مجال التراث الثقافي. فالتركيز السياحي ينصب عادة على الآثار الكبرى، مثل الأهرامات أو المواقع الأثرية القديمة عمومًا، وحتى الآثار الإسلامية. بينما يهمل تراث العصر الحديث في مصر. وقد كنت أقارن ذلك بما شاهدته في رحلاتي إلى باريس أو ألمانيا. حيث يحظى تراث العصر الحديث هناك بزخم واسع. ويتم إعادة توظيف الكثير من المباني والقصور لخدمة السياحة. هذا التفاوت هو ما دفعني إلى البحث في موضوع التراث غير المستغل.
-
ما رؤيتك حول استغلال التراث الثقافي في مصر؟
أكثر ما يميز مصر هو أنها تمتلك آثارا فريدة، وعلْم المصريات الذي يخصها وحدها، وهذا بطبيعة الحال يجب أن يكون محورًا رئيسيًا نوجه إليه السياحة. لكن في الوقت نفسه، لا ينبغي أن نغفل وجود كنوز تراثية أخرى، خاصة التراث الحديث، الذي عقدت من أجله مؤتمرات ومعاهدات. كان الهدف منها استغلاله وترويجه ووضعه على الخريطة السياحية.
ومن هنا جاءت رؤيتي وقت إعداد رسالة الماجستير بضرورة التركيز على المدن التراثية مثل مصر الجديدة ووسط البلد والمعادي والزمالك. حيث سجل الكثير من مبانيها في قوائم جهاز التنسيق الحضاري (المباني التراثية ذات الطراز المميز).
ومصر الجديدة تمتلك ما نطلق عليه التراث الحضري. وهو نوع من التراث الذي يمتلك خصوصية تجذب سياحة مختلفة، نظرًا لما تحمله هذه المناطق من نظم معمارية وحضارية متفردة. ومن ثم نحن بحاجة إلى توجيه السياحة، الداخلية والخارجية، نحو هذه المناطق. للتأكيد أن مصر لا تقتصر فقط على الآثار القديمة أو اليونانية والرومانية أو الإسلامية. بل لديها أيضًا تراث العصر الحديث، الغني بالزخم الثقافي والمعماري.
***
لقد شهد القرنان التاسع عشر والعشرون طفرة معمارية كبرى. حيث بدأ التطور المعماري العالمي يأخذ مسارات جديدة، مثل أسلوبي “الآرت ديكو” و”الآرت نوفو”. وكان لمصر نصيب وافر منها. فقد جاء كثير من المعماريين المصريين والأجانب – من الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم – ليتركوا بصمتهم. ما جعل مصر غنية بالطرز المعمارية المتنوعة.
ومن المهم أيضًا أن نسلط الضوء على هذه المرحلة، وأن نبرز كيف أن مصر في فترة من الفترات فتحت أبوابها للعالم. تستقبل معماريين من شتى الجنسيات ليطبعوا عمرانها بروح بلادهم. وتُعد مصر الجديدة نموذجًا فريدًا لمدينة كوزموبوليتانية متعددة الثقافات. ومن أندر الأحياء التراثية في مصر التي تحمل هذه الصبغة العالمية المتميزة.

-
هل غياب الأثريين عن دوائر صنع القرار يُعد من أسباب قلة استغلال التراث الثقافي في مصر؟
على العكس تمامًا، نحن كأثريين لسنا غائبين عن دوائر صنع القرار إطلاقًا. بل نسعى دائمًا لأن نكون حاضرين وفاعلين، ولسنا وحدنا في ذلك.
وهذه النقطة يركز عليها الكتاب بالأساس، إذ يتناول دور أصحاب المصلحة في مسألة عدم الاستغلال. الفكرة أن وجودنا كان قائمًا، لكن كل جهة كانت تعمل بشكل منفرد. هذا ما لاحظته أثناء إعداد الرسالة، أما الآن فقد تغير الوضع للأفضل. حيث بدأت تتشكل رؤية أوضح تقوم على اجتماع جميع أصحاب المصلحة من مختلف الجهات. بهدف الخروج بمشروع متكامل يأخذ في الاعتبار كل وجهات النظر. حتى لا يحدث خلاف أو إقصاء لجهة معينة. وهذا ما يجري في مصر حاليًا بشكل ملحوظ.
لكن، عندما كنت أكتب الرسالة، كان هناك نقص واضح في التنسيق بين الجهات. إذ لم يكن هناك تكاتف حقيقي لإطلاق المشاريع بشكل جماعي على طاولة التنفيذ. أما الآن فالأمر مختلف، ونحن كأثريين وصناع قرار موجودون على مستوى مختلف القطاعات. ونعد من أهم العناصر في صناعة القرار.
وأقرب مثال على ذلك أنه في فترة إعداد الرسالة لم يكن قد جرى ترميم قصر البارون أو قصر السلطانة ملك. بينما حاليًا تمت أعمال الترميم بنجاح. وكل فريق عمل أدى دوره بما يضمن الحفاظ على السمات التراثية والثقافية والمعمارية الفريدة لتلك المباني.
-
هل ما زالت هليوبوليس محتفظة بهويتها التراثية، أم أن هناك تغييرات أثرت عليها؟
شهدت مدينة هليوبوليس تغيرات كبيرة بالفعل، وهو ما تم تناوله في الكتاب. فقد حدثت أعمال هدم لعدد من المباني التراثية، كما جرت توسعة بعض الشوارع. وتم هدم ميادين وتخلت عن وظيفتها الأصلية كميدان لتصبح شوارع. بالإضافة إلى بناء عدد كبير من الكباري. كل هذه التغيرات رصدتها وأضفتها أثناء ترجمة الكتاب، لأنها لم تكن قائمة وقت إعداد الرسالة.
ومن أبرز الاختلافات أيضًا إزالة خط المترو من مصر الجديدة، وهو ما أثر بشكل واضح على ملامح الحي. ورغم هذه التغيرات المتتابعة، فإن مصر الجديدة ما زالت تحتفظ بقدر كبير من أصالتها، وبطرازها العمراني ونسيجها الحضاري المميز، الذي يجعلها مختلفة ومتفردة عن غيرها من الأحياء.
-
هل يمكن دمج الطرز المعمارية المختلفة في مصر الجديدة لإبراز هويتها التراثية؟
بالفعل، هذا ما فعله البارون إمبان عند تأسيسه لمصر الجديدة؛ حين أراد أن تكون ذات طابع عربي مميز يدمج بين الطراز الأوروبي والهوية العربية. وقد تحقق هذا الدمج بتناغم فريد نتج عنه ما نعرفه اليوم بطراز هليوبوليس، وهو طراز منفرد بحد ذاته. يدرس حاليًا كطراز معماري خاص. يتميز بدمج مفردات الحضارة الإسلامية مع العناصر الأوروبية. إلى جانب بعض الوظائف المعمارية مثل البواكي الموجودة في الكوربة، وكل ذلك جاء لخدمة المجتمع آنذاك وجذب السكان والزائرين للمدينة.
ما يميز هليوبوليس أنها تمتلك هوية بصرية متفردة، وهو أمر نادر الحدوث. إذ إن كثيرًا من المدن في العالم لا يكون لها هوية بصرية، بل تنشأ لها لوضعها على خريطة السياحة. بينما في مصر الجديدة هذه الهوية قائمة بالفعل.
ما ينقصها فقط هو تكاتف أصحاب المصلحة لإدراجها ضمن الخريطة السياحية وفتح بعض الأماكن المغلقة أمام الجمهور. مثل كنيسة البازيليك التي تعد من أهم المباني الأثرية في مصر الجديدة. خاصة وأن البارون إمبان نفسه مدفون فيها.
***
كذلك تتميز مصر الجديدة بوجود مبانٍ معمارية فريدة مثل المعبد اليهودي، وهو ما يفتح الباب أمام إنشاء مزارات سياحية متنوعة، منها المزار الديني. خاصة مع وجود جوامع قديمة مثل جامع السلطان حسين كامل وجامع حفيظة الألفي، اللذين يعكسان عودة المعماريين في تلك الحقبة إلى إحياء الطراز المملوكي. جامع السلطان حسين وحده يضم ثراءً معماريًا يستحق أن يتحول إلى مزار سياحي ديني. على غرار ما هو قائم في مجمع الأديان.
كما يمكن استغلال السياحة الحضرية في هليوبوليس، من خلال التجول في شوارع الكوربة وغرناطة والنزهات والمطاعم. وهي عناصر فريدة وذات هوية خاصة ينبغي الحفاظ عليها وتوجيهها نحو سياحة التراث الثقافي. سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. ويمكن أيضًا ربط هليوبوليس بعمقها التاريخي الممتد من عين شمس وشجرة مريم. وكذلك بامتدادها التاريخي الحديث.
-
برأيك، ما الذي يميز معمار مصر الجديدة وكيف يمكن توجيه السياحة إليها؟
تتميز مصر الجديدة بتنوع معماري غير مسبوق، لم يدرَس أو يبرز بالشكل الكافي إلا من قِبل المتخصصين في العمارة. ومن المهم أن نوجه السياحة إلى هذا التراث. خاصة وأن السياح الذين زاروا مصر الجديدة أثناء فترة إعدادي للرسالة أعربوا عن انبهارهم بجمالها، وأبدوا رغبتهم في رؤية أماكن كهذه في مصر. إلى جانب الأهرامات وبقية الآثار المعروفة.
لقد أبدى هؤلاء الزوار اهتمامًا بالغًا بالتراث الحديث للقرن التاسع عشر، بالبيوت والشوارع، والنهضة العمرانية والتخطيط المعماري الذي يميز الحي. وهذا يؤكد أن مصر الجديدة ليست مجرد حي سكني، بل متحف مفتوح يعكس مرحلة مهمة من تاريخ العمارة والتطور الحضري في مصر.
-
ما الفارق بين التوثيق الأثري والتوظيف الثقافي للتراث؟
التوثيق هو مرحلة أولى أساسية، بينما التوظيف يأتي كخطوة لاحقة. مثلًا، عندما بدأنا التفكير في ترميم قصر البارون. كان المبنى مهجورًا ومتدهورًا بشكل كبير. ولم يكن من الممكن الشروع في الترميم مباشرة دون عملية توثيق. فالتوثيق يشمل أشكالًا متعددة، منها التوثيق الفوتوغرافي والمعماري. إلى جانب استخدام تقنيات حديثة مثل تقنية (Laser Scanning). كما يتضمن التوثيق الأثري جمع كل المعلومات المتاحة حول الأثر، والتي قد لا تكون خضعت لدراسة سابقة. بحيث تساهم هذه البيانات في دعم عملية الترميم لاحقًا.
أما التوظيف، فهو مرحلة تالية غاية في الأهمية، خاصة للمباني غير المستغلة. إذ يفضل دائمًا أن يتم ترميم المبنى ثم إعادة توظيفه مباشرة، وفقًا للمعايير الدولية المتعارف عليها. وذلك لضمان الحفاظ عليه واستدامته. وتكون الوظيفة الجديدة للمبنى أقرب ما يمكن إلى هويته الأصلية. على سبيل المثال: إذا كان المبنى في الأصل وكالة إسلامية بنيت لتكون بمثابة فندق للتجار، فإن إعادة توظيفه اليوم كفندق يعد استمرارًا لهويته التاريخية.
وبالقياس على ذلك، فإن قصر البارون إمبان، حتى نحافظ على هويته وخصوصيته، فإن أنسب توظيف له أن يكون متحفًا يروي تاريخ مصر الجديدة، ويشرح طبيعة هذا الحي وشكله ونشأته. وهذا ما كانت مصر الجديدة في حاجة إليه بالفعل.
-
ما الرسالة التي أردت توجيهها من الكتاب وانعكست على رؤيتك؟
حين نتخرج في كلية الآثار يطلق علينا جنود الآثار أو المحافظون على الأثر. وبحكم أنني من دفعة قديمة نسبيًا، لم يكن في وقتنا ما يعرف بتخصص إدارة التراث. الذي أصبح اليوم فرعًا أساسيًا يدرَّس في كليات الآثار بكافة الجامعات. كنا نتخرج ونحن ندرك قيمة الأثر. لكن ينقصنا الجانب المتعلق بكيفية إدارته أو إعادة توظيفه.
مع خوضي تجربة الماجستير، والتي أثمرت هذا الكتاب، أحدثت فارقًا كبيرًا في طريقة رؤيتي للأثر وكيفية التعامل معه. فعلى سبيل المثال، عندما كنت مفتشة في قصر البارون إمبان قبل الماجستير. كان كل تفكيري ينصب على كيفية ترميم الأثر والحفاظ عليه وفتحه للجمهور. أما بعد الماجستير، فقد أصبحت أنظر إلى الأمر بمنظور مختلف. يعتمد على إعادة توظيف المبنى لضمان استدامته والحفاظ عليه على المدى البعيد.
***
هذه هي الرؤية التي سعيت إلى إبرازها في الكتاب. إذ إن الأهم ليس فقط الحفاظ على الأثر، بل ضمان استدامته لنا وللأجيال المقبلة. والاستدامة لها عدة آليات. من بينها أن يكون الترميم صديقًا للبيئة. وأن يحافظ على النشاط الاجتماعي والنفسي المرتبط بالمكان. وهي رؤية لا تقتصر على هليوبوليس وحدها، بل يمكن تطبيقها على مصر كلها.
بعد إنهاء الرسالة، قلت إنه إذا جرى تنفيذ هذه الرؤية بالفعل. فإنها تصلح لأن تكون استراتيجية عامة تطبّق على جميع الأحياء التراثية في مصر. وبذلك نخلق شبكة متكاملة من الأحياء التراثية المدرجة على خريطة السياحة.
اقرأ أيضا:
بطل قومي وجندي يعاني.. «الفلاح المصري» في لوحات الفن التشكيلي وكتب الأدب
الروحانيات على الشاشة.. كيف جسدت السينما المصرية الموالد والطقوس الدينية؟