إسنا.. كبسولة زمنية حية

أسماء محمد هرماس

على بعد 55 كم جنوب الأقصر على الضفة الغربية لنهر النيل، تقع مدينة إسنا وسط الطبيعة، والتي كان يطلق عليها عدة أسماء في القدم مثل “سنيت” في الحضارة المصرية القديمة، و”لاتوبوليس” في العصر البطلمي، و”ECNH” في العصور القبطية و”إسنا” في العصور الإسلامية. حتى صارت كما قيل عنها “كبسولة زمنية حية “.

التجول بإسنا يشعرك بأنك تستمع لأحاديث كتاب تاريخ مفتوح يحدثك عن أخبار العصور الحجرية وما قبل الأسرات. مرورًا بالحضارة المصرية القديمة، العصور اليونانية الرومانية، العصور القبطية، ثم العصور الإسلامية.

**

فإذا أخذك المسير على الطريق الموازي لنهر النيل حتما سيبهرك ماضي المدينة النابض بالحياة. فعلى ارتفاع شاهق تطل علينا مئذنة مسجد العمري الأثرية. وتحكي لنا عن المسجد العمري العتيق الذي كان قائمًا منذ الفتح الإسلامي لمدينة إسنا، وهي تحفة معمارية آسرة من أقدم المآذن التاريخية في مصر الإسلامية. وهي المتبقية من المسجد الذي يعود تاريخ بنائه إلى الدولة الفاطمية أو ربما قبل ذلك منذ الفتح الإسلامي لمصر في عهد الصحابي عمرو بن العاص. وتوجد في الركن الشمالي من الناحية الغربية للجامع.

وقد ظلت المئذنة صامدة رغم مرور ما يقرب من ألف عام منذ إنشائها رغم حوادث الدهر كالزلازل وغيرها مما يدل على إتقان البناء وقوة الهندسة ويقظة الضمير. وتشبه مئذنة الجامع العتيق بأصفون، كما أنشأت على غرارها مآذن الوجه القبلي. على قاعدتها مزولة استخدمت لتحديد مواقيت الصلاة من عمل خليل أفندي إبراهيم مهندس الخريطة الفلكية 1287ه‍. ولقد سُمي المسجد أيضا بأزهر الصعيد. ويحدثنا بن كثير في كتابه البداية والنهاية إن مسجد إسنا العمري العتيق كان يجلس بداخله العلماء وحفظة القرآن وملتقى العلوم الدينية. وإن من كان يحفظ القرآن داخله ويتلقى علوم الدين يتم إرساله إلى بلاد دول إفريقيا لتعليم أهلها القرآن وعلوم الدين.

مئذنة مسجد العمري
مئذنة مسجد العمري 
**

وعلى مقربة من مئذنة المسجد العمري تتألق تحفة معمارية أخرى ازدادت بهاءً وجمالًا بعد ترميمها وإعادتها إلى سابق عهدها فهي وكالة الجداوي الأثرية. وهي من العصر العثماني وتنسب لحسن بك الجداوي المملوكي الذي كان من المماليك الفارين من الوجه البحري إلى الصعيد. هو كان مملوكًا لعلي بك وهو أحد أفراد حاشية محمد بك أبوالذهب.

ونجد تاريخ إنشائها بالحفر الغائر على العتب الخشبي الذي يعلو البوابة: “بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليم كثير. نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا محمد قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. هو الأول والأخر سبحانه أحد صمد يا سيد… سعد السعود يلوح في أركانها دار مبارك على سكانها. دار السرور دار الخير والنعم حقا ورونقها في غاية العظم والسعد ربها والبشر لازمها طوبي لساكنها ناج من الغمم. الله يحرسها من كيد حاسدها بجاه طه التهامي معدن الكرم عليه أذكى صلاة الله خالقنا مع السلام على من جاء بالحكم. رب يسر ولا تعسر رب تمم بالخير وأنت إله واحد غني، تحرير في 12 شهر ربيع 1107ه‍”.

وهناك اختلاف بين التاريخ المتداول لإنشاء الوكالة، فقد أشارت العديد من المراجع والوثائق أن تاريخ إنشاؤها هو 1207ه‍. فهي تحدثنا عن مدينة إسنا التجارية وكانت الوكالة محطة القوافل التجارية السودانية، والتبادل التجاري بإسنا بين مصر والسودان. وذلك لاتصالها بدرب الأربعين الذي يصل من دارفور وأسيوط. حيث كانت مصر تستورد من السودان أعشابا طبية، وجمال وخيول وحمير، وسن الفيل. وهي واحدة من أجمل لآلئ طرق التجارة القديمة التي تشهد على مهارة بنائها. فقد استخدم البناؤون أساليب بناء خاصة بصعيد مصر تم استخدام الطوب اللبن والآجر وجذوع النخل وجريده للأسقف والدعائم الخشبية في الأعمدة وإطارات النوافذ والأبواب وكذلك للزخرفة. بينما استخدمت مونة من طمي وتبن كمادة لاصقة بين القوالب والمداميك.

**

وقد أثبتت هذه الأساليب فاعليتها، وتأخذ الوكالة شكل المربع ترتفع واجهتها إلى ثمانية أمتار يزينها زخارف إسلامية.  ويتوسطها المدخل الذي يؤدي إلى الفناء الداخلي المحاط من الجوانب الأربعة بالمحال التجارية. وهي حجرات مستطيلة الشكل لكل منها باب مستطيل الشكل يعلوه نافذة مستطيلة صغيرة للتهوية وإدخال الضوء. وداخل كل حجرة دخلة مصمتة مستطيلة لوضع الملابس أو وسائل الإنارة وسقف هذه الحجرات من جذوع النخل وجريده.

لقد كانت هذه المحال منذ زمن تعرض السلال، والمصنوعات الخفيفة المصنوعة من سعف النخيل المصبوغ بألوان متعددة، الأقمشة القطنية الخام الناعمة والشيلان المعروفة باسم الحلاية. أركان المكان مازالت محتفظة بروائح الأعشاب الطبية والبخور. أيضًا أصوات الموظفين على اختلافهم من قنصل وهو النائب عن دولته الذي كان يرعى مصالح وحقوق وتجارة رعية دولته، سماسرة ودلالون، بواب، مترجم، حمالون، مثمن. والقباني وهو المسؤول عن الموازين ويعتبر طرفًا محايدًا بين البائع والمشتري والذي كان يضرب به المثل “القباني بآخره”.

ويحيط بالفناء ثمانية أعمدة دائرية مبنية من الآجر الذي تتخلله ميدات خشبية صغيرة. وتحمل هذه الأعمدة سقف الممر الذي يتقدم المحال التجارية من الجهات الأربعة والأعمدة يزخرفها من أعلى إفريز من الآجر بشكل يشبه أسنان المنشار. وهذه الأعمدة موزعة بحيث يكون كل ثلاثة منها في جانب من الجوانب الأربعة. ونصعد إلى الدور العلوي عن طريق سلم بالزاوية الشمالية الغربية وسلم آخر بالزاوية الشمالية الشرقية. وكل سلم يتكون من درجات واسعة وتؤدي السلالم إلى رواقًا  مشابهًا يؤدي إلى مساكن التجار والمسافرين.

بوابة وكالة الجداوي
بوابة وكالة الجداوي
**

أصبح هذا الرواق الآن كمعرض تراثي يعرض مجموعة من الصور التي تقص علينا أخبار من تراث المدينة الأثرية، فتحدثك إحدى الصور عن الزى التراثي للمرأة الإسناوية، وبحجرات الناحية الجنوبية للرواق العلوي نوافذ تطل على القيسارية[1] التجارية وتمتد من معبد إسنا حتى مسجد الزاوية البيضاء. وهي تشتهر بأقدميتها حيث ترجع للعصر العثماني، ومن أهم مكوناتها الحوانيت بجوانبها كل حانوت يعرض بضاعة مختلفة. والحانوت هو عبارة عن غرف مستطيلة تفتح على الشارع ليتم عرض وبيع البضائع وتجارات مخصصة بمدينة إسنا. أما الآن بعد إعادة إحياءها إلى سابق عهدها يباع فيها العطارة، الأقمشة والمنسوجات، أدوات منزلية وغيرها من صناعات إسناوية كالتنجيد. ومن أهم العادات والتقاليد التي كانت تتسم بها القيسارية التجارية عند تجهيز العروس بلوازم عرسها أو ما يطلق علية مصطلح “الشوار” أن تبدأ جولة الشراء من أمام جامع الزاوية البيضاء وما قبله من حوانيت حتى ساحة جامع الشيخ الضوي. حيث تكون العربة منتظرة لنقل تجهيزات العروس.

زودياك معبد إسنا بسقف صالة الأعمدة من الناحية الجنوبية
زودياك معبد إسنا بسقف صالة الأعمدة من الناحية الجنوبية

وبالصعود لسطح الوكالة يمكنك أن تشاهد المنازل الحديثة لمدينة إسنا بتشققها وتمايلها الذي ينم عن أنها لم تبن على الطبقة الأصلية للتربة. تبدو وكأنها تل أثري يحمل صفحات أخرى من تاريخ المدينة. تتجلى بوضوح الطبقة الأصلية للتربة بمعبد خنوم المقابل للوكالة الذي نصل إليه بسلم هابط لعدة أمتار. حيث يقع المعبد على عمق تسعة أمتار تحت مستوى أرضية المدينة الحالية، وهو الذي يرجع للعصر البطلمي والروماني وربما تعود أصوله لتاريخ أقدم من ذلك، والذي لم يتبق منه سوى الصالة ذات الأربعة وعشرين عمودًا الذي يرتفع كل منهم في بهاء أخَّاذ بطول إحدى عشر مترًا، تحمل السقف الحجري الذي طول الحجر منه يقرب من ثمانية أمتار وعرضه متران، وزين كل عمود بنقوش بارزة وتيجان نباتية متنوعة تحمل سقفًا منقوش برسومات سماوية وفلكية أهمها زودياك كاملًا فريد من نوعه يخبرنا عن حذاقة ومهارة الأيدي العاملة في مصر القديمة.

[1] قيسارية: تعني سوقًا صغيرة.

الهوامش
  • أبو مفضل محمد الأصفوني، إسنا بين الماضي والحاضر، 1994م.
  • أحمد خلف الله سفينة، مناظر ونصوص الحائط الشمالي والجنوبي والغربي بمعبد إسنا من الداخل في العصر الروماني، رسالة دكتوراه، جامعة الفيوم.
  • رضوان عبدالراضي سيد، الواجهة الرومانية لمعبد إسنا، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة.
  • محمد محي الدين سلام، مدينة إسنا حضارات لا تنسى في الجنوب.
  • Serge Sauneron, Le Temple D’Esna.
 اقرأ أيضا:

أماكن منسية في مصر: وكالة «الأنصاري» ملتقى التجار منذ 200 عام

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر