التطوير.. كلمة سيئة السمعة في قاموس القاهرة

إذا سألت أي من المهتمين بتاريخ مدينة القاهرة وتراثها المعماري عن الكلمة الأكثر إثارة للرعب عنده سيقول لك بلا تردد: كلمة «تطوير». فالحديث عن تطوير في القاهرة دائما ما يفجر مخاوف المهتمين بتاريخ المدينة متعددة الطبقات التاريخية، الحاوية لتراث حضاري ينتمي لعصور متعاقبة تغطي أكثر من 1400 عام. يعود ذلك التخوف المبرر إلى أن استخدام كلمة تطوير أصبح مجرد لافتة تخفي مشروعات للتعدي على النسيج العمراني للمدينة؛ الذي يعد أهم ما يميز المدينة ويكسبها خصوصيتها التاريخية، والتي يفشل المسؤولون دوما في محاولة فهمها واستثمارها. فتأتي الضربات عشوائية تمزق هذه الخصوصية الفريدة للمدينة.

المخاوف من “التطوير” لها ما يبررها فنحن في اللحظة الراهنة، أمام واحدة من أكبر التدخلات الرسمية في نسيج المدينة العمراني في العصر الحديث كله بلا مبالغة. وذلك تحت لافتة “تطوير القاهرة التاريخية”، لكن ما يحدث تحت هذه اللافتة العريضة يفقد كلمة تطوير معناها. وندخل تحت مفهوم التعدي على تراث المدينة، فنحن أمام عمليات تطوير عقاري بامتياز. تستغل قيمة الأرض الموجودة في قلب القاهرة القديمة لبناء أحياء سكنية بمفهوم “الكمبوند” ما يهدد النسيج العمراني للمدينة وكل طبقاتها التاريخية. في ظل غياب الحوار المجتمعي أو أي رغبة في الاستماع لأصوات المدافعين عن تراث المدينة. أو حتى الالتفات لأي مشروعات بديلة تراعي احتياجات سكان المدينة حاليا دون تفريط أو مساس بتراثها. فلا أحد يعلم يقينا ما هي خطط التطوير التي ستلحق بمناطق بعراقة محيط جامع الحاكم بأمر الله، والمنطقة الملاصقة لباب زويلة، والمنطقة المحيطة بجامع الحسين!

***

الأنكى أن عمليات الاستغلال العقاري تتم دون إجراء حفريات في تلك المناطق التاريخية تساعد على تسجيل أو الكشف عن التطور الذي مرت به المدينة. فهل أجريت حفريات قبل أعمال البناء الجارية في محيط جامع عمرو بن العاص حيث مركز مدينة الفسطاط، أو المنطقة الملاصقة لسور مجرى العيون، أو منطقة مثلث ماسبيرو الواقعة في قلب حي بولاق الشهير والمشغول سكانيا منذ العصر المملوكي، أو المنطقة التي تم إزالتها في مواجهة جامع الحاكم بأمر الله في داخل القاهرة المسورة، أو جبانات القاهرة التي يتم تقطيعها حاليا إلى شرائح. رغم أنها تضم طبقات تاريخية تحتاج إلى حفائر مكثفة للكشف عنها!

سأكتفي بنموذج الجبانات هنا لبيان كيف كان التطوير لعنة مستمرة ضربت مدينة القاهرة في مقتل. إذ استمرت التعديات على الجبانات خلال العقود الختامية في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين مع تحول القاهرة إلى مدينة مكدسة بملايين البشر وتعاني من مشاكل كثيرة. ففي عصر الرئيس جمال عبدالناصر (حكم 1954- 1970)، تم شق طريق صلاح سالم يصل ضاحية مصر الجديدة بمنطقة القلعة. وأزيلت العديد من المقابر لشق هذا الطريق، وهو ما تكرر عند شق طريق الأتوستراد بداية ثمانينيات القرن العشرين. ومن حسن الحظ أن الروائي خيري شلبي قد ترك لنا روايته كشاهد عيان لهذا الحدث في عمله الفذ (بطن البقرة).

ولم تقتصر التعديات على السلطة بل شارك الأهالي الذين حولوا الجبانات لمدينة سكن. عبر إعادة استخدام الأحواش كمنازل في ظاهرة ترسخت بقوة منذ سبعينيات القرن العشرين. وهنا نجد أن الحكومات المتعاقبة فشلت في توفير البديل للأهالي بعيدا عن سكنى المقابر. بحسب ما رصد الدكتور محمود محمد جاد، في كتابه “سكنى المقابر في عاصمة مصر- نظرة عبر العصور”.

***

لكن التعدي الأكبر جاء من الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة في ظل فلسفة تعادي جبانات القاهرة بشكل واضح. ولا ترى فيها إلا فراغات يمكن استغلالها لإنشاء شبكة طرق ستؤدي إلى انتهاك النسيج العمراني للجبانات. وتقسيمها إلى شرائح عمرانية غير مرتبطة ومقسمة بفعل شبكة من الطرق والكباري. ففي يوليو 2020، تم البدء في هدم خط المقابر الملاصقة لطريق صلاح سالم بحجة توسيع كوبري الفردوس. كما تم الكشف عن مخطط حكومي في 2022 لمجموعة من المحاور المرورية تنطلق من منطقة المقطم وتمر بالجبانات في طريقها إلى النيل. وهو ما يطرح سؤال مقبض حول مصير هذه الجبانات بكل ما تحمله من تاريخ وتراث. خصوصا مع بدء تحرك الحكومة لإزالة العديد من المقابر في منطقة السيدة نفيسة وسيدي جلال. ولخص سوداوية النظرة التعامل المستهتر مع مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، التي يمر من فوقها كوبري بعدما أصبحت وحيدة عقب إزالة المقابر من حولها.

منطق التطوير الذي يرى في المقابر وتراث المدينة مجرد عوائق يجب أن يتوقف الآن. وأن ينتصر منطق الحفاظ على جبانات القاهرة في إطار احترام الحرم الخاص بها، وعدم انتهاك الجبانات بوضعها الحالي. والحفاظ عليها وعدم وضع أي مشاريع لطرق أو مواصلات تخترق حرمة الجبانات التي تضم بين جنباتها الكثير من تفاصيل التاريخ الملقى على الأرض. والبحث عن مخططات تراعي أصالة هذه المناطق التراثية بما يحافظ على نسيجها العمراني.

***

فخطط إقامة طرق وكباري تقطع مناطق القرافة إلى شرائح تفقد علاقتها بنسيجها العمراني. سيؤدي إلى زوال الكثير من نقاط الاستدلال على مواقع تاريخية مهمة. فالجبانات تضم الكثير من التفاصيل التاريخية التي لا تقدر بثمن، خصوصا إذا بدأنا في حفريات لنكتشف ما تحت طبقة السطح من مقابر أعيد استخدامها. وسنجد باطن الأرض أغنى كثيرا من ظاهره في الكثير من الأحيان. إذ تمتلك القرافات الممتدة حول القاهرة القديمة طبقات تاريخية أقدم من مدينة القاهرة ذاتها. فالقرافة الكبرى تعود إلى عصر الغزو العربي الإسلامي وتتزامن مع تأسيس الفسطاط. أي قبل تأسيس القاهرة ذاتها بما يزيد عن ثلاثة قرون، وتشكل كل منطقة مقابر طبقة تعبر عن ازدهار المدينة وتطور تاريخها العمراني. ناهيك عن الطرز المعمارية المختلفة التي تحتويها مقابر القاهرة. ما يجعل وضعها على مسارات السياحة أمرا سهلا لو توفرت العقلية المناسبة التي تقدر قيمة ما تملكه القاهرة من تراث غير مسبوق، علينا الآن أن ننتصر لمنطق جبانات القاهرة ونحترم خصوصيتها وتفردها.

لا أحد ضد التطوير. لكن أن يستغل سيف التطوير للهدم فهنا المشكلة وتمزيق أوصال المدينة. فالأزمة تقع في فهم المسؤولين الناقص للتطوير، والذي يعني هدم أي بناء قديم طالما لم يسجل رسميا في عداد الآثار. وهو أمر يفتح الباب لتدمير النسيج العمراني للمدينة ككل واستبدالها بمدينة أخرى مبانيها حديثة لكن بلا روح ولا تعكس أي قيمة تاريخية أو فنية. إلا تصورات متخيلة عن المدينة متحفية على غرار مدن ديزني لاند. حيث المباني نظيفة لافتة لكنها مزيفة وبلا روح ولا تعكس أي تاريخ. فقط محاولة بائسة لإرضاء السياح دون تفهم لكيفية تكون المدينة ولا ظروف تكون طبقاتها التاريخية.

اقرا أيضا:

جبانات مصر التاريخية هي «مزار الخالدين»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر