حكايات سكندرية

ج. هوفل جاردينيان وولده

في عام 1900 أسس “جاردينيان” معملا لعمل الألعاب النارية وصار المحتكر والمتعهد الوحيد لتوريد تلك الألعاب للحكومة المصرية برخصة من نظارة الداخلية المصرية. فأنشأ مكتبا بشارع سيزوستريس نمرة 14 ومخزنا بطابية الملاحة بالورديان (المكس).

ويعلن “جاردينيان” صاحب معمل الألعاب النارية الشهير أنه قد أحيا هذا الفن البديع منذ 38 سنة بالقطر المصري الوطني. وامتدت شهرته إلى جميع جهات السودان والأقطار الحبشية أيضا وفلسطين والشام. حيث قام بعدة ألعاب فنية جميلة أبهرت الأنظار على أشكال بديعة جدا تظهر على ارتفاع شاهق بأنوار ساطعة مدهشة.

***

هذه الألعاب قام بها في الاحتفالات العسكرية المصرية والبريطانية. وفي أعياد صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم نالت استحسان جلالته وإعجاب الجميع. وأكبر دليل على ذلك الشهادات العديدة التي بيده من جملة مصالح ومجالس بلدية مصرية وبريطانية وغيرها، وآخر شهادة حصل عليها من مجلس بلدي المنصورة بتاريخ 5 يوليو 1933 كالآتي:

(يقرر مجلس بلدي المنصورة بأن الخواجة “ج. هوفل جاردينيان” صاحب احتكار معمل الألعاب النارية بالقطر المصري. قد قام بعمل الألعاب النارية في المولد النبوي الشريف على أحسن وجه. وقد أُعجِب به الحاضرون؛ لذا نوصي كل من يريد أن يقيم مثل هذه الألعاب أن يعهد بإقامتها إلى المذكور لما ناله من النجاح في ذلك. وتشجيعا للصناعة المصرية بتقديم برنامج يحتوي على ألعاب مدهشة على آخر طراز أوجده هذا الفن الجميل بأثمان لا تقبل المزاحمة. ويمكنكم الحكم على ذلك على من يشتغلون في هذا الفن ولتروا ما يطلبونه منكم عندما يتضح لكم صدق قولنا. ولرغبة الخواجة “جاردينيان” الشديدة في تخليد هذا الفن البديع في القطر المصري قد أشرك معه ولده الحائز على شهادات الدراسة العليا. وخصصه في هذا الفن وله وطيد الأمل أن تشجعوه وتشرفوه بطلباتكم عند الحاجة للاحتفالات والمواسم والأعياد التي تقيمونها. وهو مستعد لإرضاء خاطركم والقيام بما يطلب منه أحسن قيام).

وفي 9 يونيو 1940 يكاتب “جاردينيان” الحاكم العسكري لمدينة الإسكندرية يفيده بنقل المفرقعات والسوانج الكائنة بطابية الملاحة بالورديان – حسب الأمر الصادر – إلى مكان مجاور للطابية مؤقتا. وذلك بعد معاينة وموافقة جناب مأمور قسم مينا البصل لحين صدور أوامر أخرى.

سيلاس وجورجيت

اتسمت ضاحية الإبراهيمية بالإسكندرية بالشوارع والأزقة الضيقة الناصعة. ذات الفيلات الأنيقة والبيوت المسكونة بالهدوء والوداعة والتي تحوطها حدائق وبساتين الأشجار الباسقة. والزهور والورود اليانعة، تكسو جدران تلك البنايات نبات اللبلاب. ويفشى الأركان والزوايا هدوء وسكون غامر تتردد من الكنائس التي تتناثر في الأرجاء والنواحي قرع الأجراس والترانيم والتراتيل. حيث تبعث الطمأنينة والأمان في صباحات أيام الآحاد.

تميزت الضاحية بشارع بيلور والذي عُرِفَ بشارع لاجيتيه الكائن به سينما لاجيتيه لصاحبها “جان فاروتسي”. والتي كانت تعرض الأفلام الإفرنجية يجاور مسرح لونابارك، طريق بيلور ممتد موسوم بالأسفلت الأملس اللامع. تترامى بضفافه محلات البقالة التي تتصدرها ماكينة البسطرمة، وزجاجات الخمر الرديئة وآنية المخلل. وأكواخ الزهور والورود، المخابز التي تصنع الخبر الإفرنجي، ومنافذ الحلوى والجاتوه، خاموس وجاربيس.

يفضي الطريق الطويل إلى شوارع جانبية وخلفية، شارع كانوب، الأدرياتيك، شارع ممفيس. حيث تسكن الجمعية اليونانية لآسيا الصغرى في بناية ذات طابقين، تطوقها حديقة هائلة، حافلة بالأشجار الكثيفة. يتصدرها باب حديدي، وباب خلفي لأهالي يقطنون بالمنزل. يشغل الطابق الأرضي (والذي يسمى آنذاك بالنادي اليوناني) صالة طويلة وفسيحة تصطف بها موائد صغيرة ذات مقاعد خشبية، بحوائطه مرايا عريضة ذات نقوش وزخارف مذهبة.

***

في الجوانب غُرَف رحبة وضخمة، دائما تفيض بهجة ومسرة، حجرة الخواجة “سيلاس” مدير إدارة الجمعية. الذي يأتي دوما بصخبه وحيويته وفتوته رغم كهولته وبدانته. وبصحبته دوما الآنسة “جورجيت” أو “جوجو” عضوة الجالية اليونانية. ذات وجه مائل للجمال قليلا، وأنوثة غائبة ودون دلال، ترهل البدن والهيئة. تصَدر مشاعر متنافرة، الرحمة والنفور تسكن بمفردها مع شقيقتها وزوجها. ومع قسوة الحياة في ظلمها، حيث يسلبون نقودها الشحيحة. قليلا ما تفارق الجمعية التي صارت مأوى لها. آنذاك، شاعت الجمعيات الخيرية في أوساط الجالية اليونانية وتدعى تلك المؤسسات “فيلبتوكوس” أي أصدقاء الفقراء.

وحينما يحل الليل، يشهد النادي اليوناني ازدحاما من كافة الفئات الاجتماعية دون تمييز. رجال، فتية وفتيات، يحتلون المقاعد والموائد المتراصة. حيث كان النادي يقدم أشهى الأطعمة العديدة خاصة البساريا. ويقدم البيرة ومشروبات روحية أخرى، بعض الصحاب الذين يلعبون الورق. وكان النادي يسهر حتى بعد منتصف الليل. اعتادت صحبة من النساء العجائز، أن تهبط الجمعية في الظهيرة، في أناقة مسرفة، تجوب الصالة الرحبة مرارا في صمت ودون ثرثرة. تدخن السجائر في نهم، وتحتسي عصير الليمون، تأتي فرادى وتمضي فرادى، بصحبة الدهشة الشرود.

مات الخواجة “سيلاس” في اليونان، وتعرف الجالية اليونانية وصيته. فقد أوصى بكل ممتلكاته لـ”جورجيت”، وفي حلقات الجالية ثار العجب، وسرى الهمس. وعاشت “جورجيت” وحيدة في نعمة ورغد.

أوتيل ماجستيك

في أحد أركان ميدان المنشية، أطلت البناية العريقة والتي صارت علامة من علامات شموخ المدينة على الحدائق الفرنسية (سابقا). حيث كانت تتوسط الميدان وحيث تميزت بالعمارة الشامخة. احتلت ركني القمة، قبتين، زينتا البناية وأكسبتاها روعة وفتنة، تدنو من تمثال محمد علي يمتطي حصانا. وتمثال الخديوي إسماعيل، والجمعية الوطنية الفرنسية، وسراي الحقانية.

يعد الفندق أحد أوقاف “يعقوب دهان” والذي صار فيما بعد أوتيل ماجستيك. حيث صممه العماري “هنري غُرة بك” معماري من سادة العمارة في الإسكندرية. إذ درس العمارة بالمدرسة المركزية بباريس. واشتهر بتصميمه لبنك دي روما بشارع طوسون، ومدرسة فيكتوريا الإنجليزية. وامتلك العمارة التي تشغل الفندق “محمد حسن الشامي باشا” ووفد الروائي الإنجليزي “فورستر”.استأجر حجرة في عام 1915 بعد أن سجل اسمه في فرقة للصليب الأحمر بالإسكندرية كباحث عن المفقودين من الجنود والمحاربين، وكتب كتابه (الإسكندرية.. تاريخ ودليل).

في بدايات تأسيس الفندق، امتلكته “مدام أنا جولدمان” مصرية الجنسية “ماجستيك أوتيل” و”ماجستيك بالاس أوتيل” الكائن بالإسكندرية بميدان إسماعيل. بموجب عقد شراء من “عايدة بابادوبلو” وشركاها، ومسجل بمحكمة الإسكندرية المختلطة في عام 1921.

***

وفي عام 1948 آل الأوتيل بموجب عقد شراء أيضا لليوناني “جورج كالوميرس” بفندق ناسيونال 30 شارع سليمان باشا بالقاهرة. ومن اللافت للنظر أن “جورج كالوميرس” يبعث بخطاب إلى سعادة محافظ الإسكندرية مفاده أن لوكاندة ماجستيك بالاس تشتمل على 31 غرفة نوم تحتوي على 48 سرير فقط. وأن عدد النزلاء يتراوح من 20 غلى 25 لا أكثر في أغلب الأوقات. ونتعهد على كل حال ألا يسكن الفندق أكثر من 28 شخص. ويخاطب قلم اللوائح والرُخَص بمحافظة الإسكندرية راغبا في اعتماد رخصة باسمه تخص لوكاندة ماجستيك التي آلت إليه من السيدة “أنا جولدمان”.

جرت مياه كثيرة، وحدثت تحولات عديدة، ولم يبق من بناية ماجستيك سوى مكاتب تجارية، وشركات لرجال الأعمال. واحتل الباعة الجائلين الرصيف العريض الذي صار سوقا للسلع والبضاعة وسادت الفوضى الشاملة كافة أرجاء الميدان دون لافتة تذكر “هنا كان فندق ماجستيك” أو “هنا عاش فورستر”.

اقرأ أيضا:

وصف الإسكندرية بالإجريجي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر