علاء خالد يحاور داود عبدالسيد: الحياةُ في النهاية رحلةٌ، بشكلٍ ما، حزينة

«أعتبر نفسي نموذجًا جيدًا لابن الطبقة المتوسطة»

يصدر قريبا للشاعر والروائي علاء خالد كتابه الجديد «داود عبدالسيد: سينما الهموم الشخصية» (دار المرايا). في الكتاب يقدم صاحب «ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان لآخر» قراءة شخصية في مشروع داود السينمائي. يكتب علاء: «اعتقد أنني كنت قارئًا محايدًا لهذا النص السينمائي، الذي يمثله داود، والبحث عن طرق حضوره داخل الثقافة الشخصية والثقافة العامة. احتفظت في قراءتي، بالعلاقة التحليلية، ولكن دون إغفال هذه الوحدة المقدسة بين القارئ والنص، واستبطان معانيه ودلالاته، وسمحت لنفسي برصد كل الذبذبات المنتجة منها بدون البحث عن تأويل أو تنظير من خارجها، لذا أسميها “قراءة شخصية”.

يتضمن الكتاب حوارا مطولا بين علاء وداود، حرره الكاتب من حوارات عديدة جرت بينهما على مدى عشرين عاما. تحمل الحوارات وجهة نظر عبدالسيد في أعماله، كما حرص الكاتب على عمل حوار مع فريق العمل الذي أصبح جزءًا من تجربة داود في السينما، والمكوَّن من مهندس المناظر أنسي أبوسيف، زميل دراسة داود في معهد السينما، والموسيقار راجح داود، حول تجربتهما مع سينما داود، ورأيهما في أعماله. ننشر هنا مقاطع من الحوار الهام حول تجربة صاحب «الكيت كات».

حدثني عن نشأتك؟

نشأت وسط أسرة عادية من الطبقة المتوسطة. الأب كان يعمل موظفًا في أحد البنوك، والأم تعمل بالتدريس. لم تكن لديَّ أي مخاوف في طفولتي لأني كنت مؤمَّنًا بشكل دائم. كنت أعيش في وسط اجتماعي أقرب إلى الوفرة، لذا لم تكن لي حاجات مؤجلة لظروف مادية. حتى الهوايات كانت الأسرة تؤمنها، وهي هوايات مكلفة، مثل القراءة والسينما والتصوير الفوتوغرافي.

ولكني بدأت أشعر بالقلق بشكل حقيقي بعد وفاة أبي. عندها لم أكن قادرًا على العيش بدخلي من الوظيفة. لم تكن لديَّ مصاريف ضخمة، لذا لم أشعر أبدًا بالاحتياج. لا أقصد أنني كنت مدللًا، لأنىي طوال عمري كنت رافضًا لفكرة التدليل. كنت أملك قدرًا من التقشف لا أعرف مصدره. مثلًا لم أكن أهتم بأناقة ملابسي. واحتياجاتي اليومية كانت بسيطة جدًّا، يكفي أن أؤمن مصاريف الشاي والقهوة والسجائر.

كنت طفلًا منطويًا، ليس لي إخوة أو أي علاقات اجتماعية بالأصدقاء، إلا في حدود المدرسة والعائلة. لم يتوفر لي حينها الاحتكاك بالطبقات الشعبية أو الأرستقراطية. لذا أعتبر نفسي نموذجًا جيدًا لابن الطبقة المتوسطة، والذي من المفترض أن تكون تجربته محدودة في الحياة، ولكني الآن بالتأكيد غير هذا الافتراض.

ولكن متى بدأ الوعي يخرج من قوقعة البيت وينشئ عالمه الخاص؟

التشكيل الحقيقي لوعيي تم بعد دخولي معهد السينما، مع الأصدقاء وشقاوة الشباب في الحب والعلاقات. قبلها لم يكن عندي أي علاقات. أيضًا بعد التخرج من المعهد بدأت العمل في السينما التسجيلية. وقتها كنت شابًّا عنده عطش وجوعٌا للمجتمع الذي حوله. كان عندي فضول ورغبة في الانفتاح على العالم المحيط. كنت أحس دائمًا بأني قادر على الكتابة والتعبير عن الطبقات الشعبية. إحساس لا أعرف مصدره، ربما يكون قائمًا على الملاحظة المستمرة لحياتهم.

ربما توجد حقيقة وراء هذا الإحساس؛ وهو أنك في النهاية عندما تتعرف على الإنسان الذي أمامك بشكل حقيقي، عندها ستكون قادرًا على الكتابة عنه. وأن معرفتك الحقيقية للبشر يمكنك أن تخضعها لبيئات ولطبقات مختلفة، ويمكن أن تكون صادقًا إلى حد ما في درجة التعبير عنها. أجد من الصعوبة على أي كاتب، خصوصًا لو كان إنتاجه غزيرًا وجيدًا؛ أن يكون قد قابل كل النماذج التي يحكي عنها، ولكن من خلال خبرات قليلة، ولكن حقيقية، يكون باستطاعته تشكيل عوالم أكثر اتساعًا.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
والدعوة إلى التحرر المنتشرة في أفلامك هل مصدرها كونك ابن طبقة متوسطة؟

بدايةً، فكرة التحرر ترجع إلى فكرة التمرد الطبيعي لأي شاب. عندما يتمرد على كل شيء، ويناقش كل شيء يبدو بديهيًّا في العالم والقيم المحيطة. بدأ معي التحرر هكذا: الفرق بين العيب والحلال والحرام والصح والخطأ. في النهاية على مستواي الشخصي، لا أدين بالأخلاق، ولكني مؤمن بأهميتها. أقيد نفسي بمجموعة من القيم الأخلاقية، ولكن في الكتابات التي أقرؤها لا أتخذها معيارًا، ربما أكون ضد الأخلاق بمعنى immoral وليس unmoral أنا مع هذا النوع من الأخلاق الذي يتجاوز مجرد الأوامر والنواهي. أخلاق إنسانية تقوم على مبدأ عند ممارستها “هل أنت تفيد أم تضر”. أخلاق تتعاطف مع كل إنسان، ومع كل نفس بشرية. أن تكون عونًا للبشر بدلًا من أن تدينهم وتحكم عليهم.

أنا ضد المفهوم الضيق للأخلاق، مثلًا أي قيمة دينية مثل “المغفرة” معناها أن الله يغفر لنا وبالتالي علينا أن نغفر للآخرين. عندما نطبق هذا المبدأ فمعناه أنك ستحاول أن تفهم الآخرين لكي تستطيع أن تجد لهم العذر وتغفر لهم. ولو بدأت في فهم الآخرين، فهذا معناه أنك بدأت تكون إنسانًا كما أتصور لمفهوم الإنسان. وعندها ستكون قادرًا على أن تغفر لهم نتيجة لهذا الفهم، وليس نتيجة لأمر ديني. أنا ضد الأخلاق السلطوية التي تتحول إلى سوط أو وسيلة لتعذيب البشر والحكم عليهم.

هل هناك تداخل، في توصيفك، بين الأخلاق الدينية وأخلاق الطبقة المتوسطة؟

أنا لم أُعِد النظر في الأخلاق الدينية التي نشأت معي، وإنما في أخلاقيات الطبقة المتوسطة لأنها أقسى الأخلاقيات، كونها طبقة محافظة تحب الوضوح بين الصواب والخطأ، وتحب أن تكون دائمًا على صواب وتخشى من الخطأ. لحسن الحظ كان بيتنا خاليًا من أي تعصب، أو تزمت ديني. لقد تعلمت على يد عمي وكان شخصًا مستنيرًا له قدرة على تحليل كل الأشياء. أنا لست ثائرًا على قيم متزمتة لأني لم أعشها في طفولتي، ولكن التمرد صاحبني كمرحلة من مراحل العمر، وهى مرحلة الشباب، ولكنه استمر معي، ويبدو أنه كان لعبة محببة لي أكثر مما يجب.

لذا حلمك في أفلامك هو الحلم الرومانسي لمقهوري وضحايا الطبقة المتوسطة؟

أنا كده. أنا ابن طبقة متوسطة، هذا تكويني، لا أقدر أن انتمي إلى أي طبقة أخرى، ولست محتاجًا إلى استعارة هموم طبقة أخرى. بالتأكيد الطبقات الأخرى تهمني، ولكنى لا أملك القدرة على التعبير عنها. أختلف معك، ليست القضية في أفلامي هي حلم هذه الطبقة، ربما فيلم “البحث عن سيد مرزوق” ما ينطبق عليه هذا الحلم. ولكني أعبر عن هموم شخصية. ليس دائمًا الهم الشخصي هو هَم الطبقة المتوسطة. مثلًا فيلما “أرض الخوف” و”مواطن ومخبر وحرامي” ليس لهما مدخل طبقي. في فيلم “سارق الفرح” تكلمت عن المهمشين، ولكن التناول كان من وجهة نظر الطبقة المتوسطة. بمعنى أني أتكلم عن جانب من تجربة آخرين، الجانب الإنساني الذي يتشارك فيه الجميع. ولكن من وجهة نظري الطبقية. هناك أهمية للخروج من حدود طبقتك. وإن لم يحدث هذا فسيكون أفقك ضيقًا. حتى عندما تتكلم عن طبقتك لابد وأن تتجاوزها وتخرج منها.

يعني أن يكون لك مكان خارجها بالرغم من انتمائك إليها؟

بالضبط، سواء بالنقد أو الدفاع، يجب أن تكون خارجها، ولكن هناك حقيقة مهمة: أن كل الذين صنعوا تغييرًا في المجتمع كانوا من أبناء الطبقة الوسطى. هذه حقيقة الطبقة: القلق والحركة والحلم.

لهذا السبب، البطل عندك محمَّل بحلم يتجاوز طبقته، ربما ماعدا فيلم “الصعاليك”؟

نعم حلم ينوء به. ربما لأن فيلم “الصعاليك” أقل أفلامي ذاتية.

كأن الحلم يقترب من حدود إيديولوجيا متعصبة إلى حد ما، ولكنه في النهاية حلم مفرح؟

أنا لا أتامل أعمالي، ولا أحب تقديسها، ولكن ما تقوله ليس غريبًا على أذني. أنا وأنت محمَّلانِ بأحلام ثقيلة علينا، لأنك مثلي لست محمَّلًا بحلم الثراء والسيارة، ولكنك تحلم حلمًا جماعيًّا للناس كلها: أهلك وبلدك وأسرتك وعالمك، وربما يمتد حلمك إلى عدوك ليصبح حلمًا إنسانيًّا.

ولكن الاستغراق في هذا الحلم الفردي المستحيل ربما يحجب فكرة البحث والسعي لتمثيل “الآخر”، كونه هدفًا لكل حلم إنساني..

أنا في النهاية أعبر عن نفسي، كل ما يهمني هو التعبير عن نفسي. وشيء آخر وهو صعب في السينما، وهو كيف توصِّل هذا الحلم إلى جمهور عادي وليس جمهور صفوة.

علاء خالد مع داود عبدالسيد
علاء خالد مع داود عبدالسيد
شحنة الأمل
برغم تحفظك وحزنك البادي في نوعية أسئلتك التي تطرحها في أفلامك، فإن مساحة الأمل أيضًا قوية جدًّا. هناك انتصار ما في النهاية، انتصار للوجود الداخلي والتغلب على أي مصاعب أو ضعف مهما كانت التكلفة.

أنا لست متشائمًا، ربما أصرِّح دائمًا بأن الأوضاع سيئة، ولكن هذا لا يعني أني متشائم. ربما الحزن الذي لاحظته لأن الحياة بها دائمًا ما يدعو إلى الحزن، سواء بشكل شخصي أو بشكل عام. الحياة في النهاية رحلة، بشكل ما، حزينة، لأنها تنتهي بالموت. الحزن جزء من تكويني، بمعنى أني لا أفكر في أن أكون حزينًا.

فمن أين تأتي مساحة وشحنة الأمل في أفلامك؟

من التفاؤل. ليس تفاؤلًا على المستوى الشخصي، ولكن على المستوى الاجتماعي، مستوى الحياة بشكل عام، المستوى السياسي، المستوى الوطني. أنا متفائل باستمرار. عندى ما يسمونه بالتفاؤل التاريخي. الذي لا تتحقق نتائجه بعد يوم أو سنة.

“تفاؤل تاريخي” بأي معنى؟

بمعنى أن التاريخ له دور فعال و”بيشتغل”. النوستالجيا البادية الآن لأفلام الأبيض والأسود في الأربعينيات والخمسينيات، والتي يطلقون عليها الآن “الأيام الحلوة”، أو “أفلام الزمن الجميل”؛ في رأيي أن هذه التسمية كلام فارغ. بالفعل هي أفلام مريحة وظريفة، تجلب لمشاهدها الاسترخاء وتشعره بأن الحياة خالية من الهموم. في أغلبها تشعر بأن الناس “رايقة وظريفة”، ولكن هل يعني هذا أن هذه الفترة التاريخية التي تؤرخ لها الأفلام لها نفس المواصفات من روقان وظرف كما يظهر في أفلامها؟ أم أن السينما كانت متجاهلة جوانب أخرى في الحياة والمجتمع لا تريد أن تتوجه إليها أو تثيرها كونها تتوجه إلى جمهور لا يشعر بها. أو يعاني منها.

ربما كان جمهور الطبقة المتوسطة، في ذلك الوقت، مستريحًا لا يعاني من مشاكل ضخمة، فمن الممكن أن يقابلك أحدهم في الشارع، كما نرى في هذه الأفلام، ويقول لك: “نهارك سعيد يا أستاذ” فترد عليه: “نهارك سعيد يا إكسلانس”، مثلًا. ولكن هذا لا يعني أن هذا هو نمط الحياة، أو أنها كانت تسير على هذه الوتيرة الهانئة. ربما كان الفقر مقيدًا أو محجَّمًا بحاضنات اجتماعية، ولكني أتذكر وأنا صغير أنني كنت أرى الناس تسير حافية في الشوارع. ربما كذلك لم تكن هناك صراعات سياسية كبيرة، لأن المجتمع بكامله كان مرهونًا بكليته تجاه قضية التحرر الوطني. رغم هذا لا نقدر أن نسميها “الأيام الحلوة”، والتي أظهرتها سينما هذه الفترة.

تقصد أن هذه النوعية من الأفلام كانت تفتقد القراءة الحقيقية لمجتمع ذلك الوقت؟ كيف تفسر إعجاب الناس بها، هل فقط نتيجة لغفلة وتناسٍ، أم استجابة لوظيفة الخيال كما يتصورونها؟

إعجاب الناس كان مبنيًّا على الرغبة في الاسترخاء، ووضوح الرؤية: أن الإنسان الشرير سوف ينال جزاءه والطيب سوف ينتصر في النهاية، وأن الناس ستتحاب، وأن الباشوات أناس محترمون، والفقراء أناس عندهم أخلاق، وبعض الأغنياء فقط هم من يفتقدون هذا الوازع الأخلاقي، لذا يتعلمونه من الفقراء. كل هذا يجعلك مسترخيًا أثناء الفرجة. ولكن مدى صحة هذا من عدمه، هذا موضوع آخر.

ماذا كنت تتوقع من أفلام هذه الفترة، شيئًا أكثر واقعية مثلًا؟ أم أن السينما دائمًا تصنع نماذج متخيلة، كنموذج الأمل في أفلامك على سبيل المثال؟

ماذا تقصد بـ”ماذا كنت تتوقع”؟

أقصد أنك كنت تتوقع من أفلام الأربعينيات أن يكون لها صورة وأخلاق مختلفة أكثر واقعية…

لأ.. أنا لم أتوقع شيئًا.. لا ينفع أن أتوقع الآن، هذا جزء من الماضي.

ولكن انتقادك للصورة النمطية التي كانت عليها السينما في هذه الفترة يشير ضمنيًّا إلى أن لك تصورًا مختلفًا…

لأ.. لأ.. أنا لا أرفض هذا النوع من الأفلام. أنا أرفض تسمية هذه الفترة بالأيام الحلوة والجميلة وأن ما نعيشه الآن هو الأيام السيئة المليئة بالصراعات. في هذه “الأيام الحلوة” بجانب الحفاء كانت مصر تعتبر دولة العميان، نسبة إلى ارتفاع نسبة العمى فيها. لكل عصر مشاكله، ونتمنى أن نجتاز هذه المشاكل، ونصل إلى حالة من الرفاهية، ولكن دون أن نمجِّد عصرًا على حساب عصر آخر.

تقصد أنه يجب على كل عصر أن ينتج تمثيلًا دقيقًا عنه؟      

ما أخاف منه كونك تحاول أن تضعني في مواجهة مع هذا العصر القديم، أنا لن أربِّي العصر السابق، ولن أعيد إنتاجه.

ولكنك ستعيد إنتاجه داخل الثقافة عبر أفلامك، عندما تعدل مساره وتضيف “الدقة” أو “الموضوعية” المفتقدة؟ 

نعم يجب أن نكون واعين، ولكن لا أعرف، على سبيل المثال لا أقوم بنقد كيف أظهرت السينما هذه الفترة…

الأجيال القديمة تشكلت بتضحيات وطيبة نجيب الريحاني وأخلاقيات يوسف وهبي. هذه الأجيال بالرغم من وجود قيم إيجابية عندها فإنه تم حجب جوانب أخرى أكثر إنسانية من الحزن والتضحية بسبب تأثرها بنماذج عصرها السائدة في الحزن والتضحية.

أنت ابن ثقافتك وعصرك، أنت ابن المشكلة اللي عليك أن تحلها.

صحيح، أحيانًا هناك “عصر”، يدخلك في صورة معينة لممارسة المشاعر، وأحيانًا تطغى الصورة على دورك الشخصي. النموذج الماركسي في جيل الستينيات قدم نموذج الارتطام مع المستحيل، والذي كان إحدى صوره أو عواقبه هو الانتحار في الأجيال التي تلتها، أو الانسحاب من المجتمع. ثقافةُ عصرٍ ما تضعك في تناقض جوهري مع احتياجاتك الحقيقية، وغالبًا هي التي تكسب؟

عندما يسود فكر إيديولوجي في فترة ما، ويكون هدفه العمل لصالح آخرين غيرك، هذا يفترض أن هناك تضحية لابد منها. المجتمع الأمريكي بالرغم من عدم إيمانه بالفكر الماركسي، ولكن هناك مبادرات للخدمة العامة لها نفس مواصفات التضحية. في مصر ليس هناك نظام يستخدم هذه التضحيات، لا في المدرسة، ولا في الحي. التضحية ليس شكلها الوحيد هو الانتحار. اعتقد أن الانتحار ليس سببه إيمان المثقفين بالماركسية، ولكن سببه الدولة التي تواجه أي اتجاه سياسي مخالف لها بالعنف وبالقمع وبالسجن، والتعذيب. لذا فلأنك مؤمن بهذا الاتجاه لابد وأن تضحي بأن تسجن وتعذب. لا يمكن أن ألوم ثقافة أو اتجاهًا أو إيديولوجية ما تطالبك بأن تضحي بمصالحك الصغيرة من أجل الآخرين، فالناس تضحي في الحروب من أجل أوطانها. المشكلة في رأيي، في قوى القمع التي تدفع التضحيات تجاه هذا النوع المأساوي أو المجاني، كالانتحار أو الهذيان وكل أشكال الانفصال عن الجماعة.

برغم هزيمة 67 تحقَّق لكل أفراد جيل الثمانينيات من المخرجين مشروع فكري سينمائي مستمر حتى الآن. يدور غالبًا عن أزمة إنسان معاصر، غالبًا ما ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ربما تكونون آخر جيل يمتلك مصطلح “مشروع”. لماذا حدث هذا في رأيك، هل الهزيمة هي التي منحت المشروع الفكري والتماسك النظري لهذا الجيل؟

من المؤكد أن هزيمة 67 لم تكن فقط هزيمة حربية، وإنما هزيمة حضارية وأيضًا هزيمة مشروع. كان رد الفعل لهذه الصدمة هو التقوقع والعزلة، اللذان فرضهما النظام السياسي آنذاك. كلنا كنا مؤمنين بإيديولوجية الثورة مهما كنا مضادين للسلطة. عام 65 دخلت منظمة الشباب، بعدها بأسبوعين تم رفدي لأني حاولت أن أناقشهم. كلنا كنا نعشق عبدالناصر، ويتملكنا إحساس بأننا نبني تطورًا وطنيًّا. مشكلة عبدالناصر أنه عطَّل نمو المجتمع المدني والنقابات، أخذ دور الأب.

الجيل الذي عاش الهزيمة والواعي لأبعادها أو الأكثر وعيًا وحساسية منهم، هذا الجيل شاركت الهزيمة في تحولاتهم الحياتية وصياغة أفكارهم. جعلتني متشككًا في أي شيء قادم من الإعلام المصري، الذي كان ولا يزال بوقًا للسلطة. لا أصدق شيئًا إلا بعد تمحيص. طبعًا الهزيمة حفرت جروحًا في نفسية الجيل. ولكن موضوع المقارنة بأجيال أخرى، لا أعرف كيف تفكر هذه الأجيال الأخرى. ولكن دائمًا أفترض أن هناك قضية أو سببًا يجعل كل جيل يقدم ما عنده من إضافة وتميز وفكر، وهو مايسمى بـ”المشروع”. لا أريد أن أنتقد الأجيال الجديدة، ولكن أريد أن أوجه نقدي إلى النظام السياسي وأسأله ماذا فعل في هذه الأجيال، في التعليم والوعي، والوعي بالحق، والمطالبة به.

داود.. تصوير: نبيل بطرس
داود.. تصوير: نبيل بطرس
التحرر من الأب
معنى هذا أن مقاومتك للفكرة الأبوية الموروثة مع نظام عبدالناصر، مع هزيمة 67، منحتك “المشروع”، ودفعتك إلى أن تدافع عن فردانية كل أبطالك باختلاف طبقاتهم الاجتماعية. لتحررهم من هذا “الأب”…

مبدئيًّا أنا ليبرالي، بالمعنى الإنساني وليس السياسي. لا أقدر على إلغاء ذات الفرد من أجل الكل، لأن هذه الذات لا تتكرر، لا ينفع أن أقول “ما يموت ده لأن فيه آخرين مثله”. البشر ليسوا نسخًا متشابهة، تجليات الحياة لا تتكرر، وبالتالي يجب النظر إلى كل إنسان على حدة بحب واحترام وفهم لدوافعه. ربما هذه “حتة مسيحية شوية”. المسيح قال: “أحبوا أعداءكم، وباركوا لأعدائكم”. كيف أحب عدوي، وهو الذي من الطبيعي أن أكرهه وأقاومه وربما أقتله أو يقتلني؟ الطريقة الوحيدة في رأيي لحب العدو هي محاولة فهمه وفهم دوافعه. ربما لسان حاله يقول: “أريد أن أقتلك فقط خوفًا منك”. طوال حياتي لم أكن أنزل أسعى في الأسواق أو أجمع الحطب كي أعيش وأحصل على الرزق، فتكوَّن لي ترف أن أعيش مراقِبًا للناس، وهو ما وفر لي الوصول إلى هذه الأفكار التي تخص الفرد.

بمعنى أن عدم السعي في الأسواق، بمعناها المجازي طبعًا، وفرت عليك الاحتكاك وآلامه، وأيضًا الوقت وأصبح عندك وفرة فيهما لتمارس هواية مراقبة الناس؟

يهمني كمراقب أني لست طرفًا في صراع، أو في معركة، مع أحد من أجل قتله أو قتلي. لو هناك معركة أمامي، كل الذي سوف أفعله أن أحاول فهم أسبابها لتجنب مشاكلها.

وضعك الاجتماعي والفكري والديني جعلك دائمًا غير متورط في النزاع…

ليس وضعي الديني، ولكن وضعي الاجتماعي المتيسر، إلى حد ما، وظرفي المعيشي. لحسن حظي طوال عمري لم أكن على شفا الجوع. وأيضًا لم أكن غنيًّا كما قلت لك في بداية حديثنا.

وهذه “البينية” إحدى صفات المراقِب؟

المراقب ينفصل بنفسه قليلًا عن الآخرين وأيضًا يمتلك صفة الصبر. مثل الصياد الذي يتأمل بنظارته ما حوله كي يفهم..

المراقب أيضًا يمكنه أن يخسر أشياء كثيرة وينفصل تمامًا عن نهر الحياة؟

آه طبعًا. هذا هو التوازن الذي عليك أن تحافظ عليه.

 هل تقبل نتيجة وخسارة الانفصال؟

هذه ليست خسارة كاملة. في رأيي أن يوسف إدريس عبقري، لماذا؟ ليس بسبب صفاته الشخصية وذكائه إلى آخر هذه الأشياء والصفات المعروفة عنه، ولكن لكونه ابن ريف، وأيضًا مارس السياسة، وكان طبيبًا وكان شيوعيًّا، كل هذا منحه كمية خبرات، بالإضافة إلى موهبته، فكانت عبقريته تجسيدًا لكل هذا. لماذا أذكر يوسف إدريس هنا، لأني أنا أيضًا أتمنى أن تكون لي تجاربه: ابن ريف وابن طبقة عاملة وابن طبقة أرستقراطية، وابن كلب، وابن أي حاجة، وأمتلك هذه الثروة والمعرفة والخبرة الحياتية. ولكن لا يمكن أن تكون كل شيء وتشغل كل هذه المواقع والأدوار، ولكن يوسف إدريس نجح، بالإضافة إلى موهبته، فرفعته في رأيي إلى مصاف العبقرية. أنا أرد هنا على فكرة الاحتياج الدائم إلى التجربة، لن أشبع أبدًا من التجارب.

هل أحسست بالشبع من قبل، بمعنى أنك دخلت عالمًا أو تجربة ولم تخرج منها، مثل بطلك “يوسف كمال” في “البحث عن سيد مرزوق”، إلا بعد أن تستنفد تحولاتها، هل عندك توق إلى ممارسة تجربة؟

أحاول دائمًا أن يدخل كل أبطالي تجارب من هذا النوع. ليس فقط “يوسف كمال” في “البحث عن سيد مرزوق”، أو “المواطن” في “مواطن ومخبر وحرامي”، أو “نرجس” في “أرض الأحلام”. ولكني هنا أريد أن أرد على جزئية سؤالك حول أن هذا النوع من التربص بالرقابة والمراقبة ومحاولة الفهم قد يتعارض مع ممارسة الحياة نفسها. استنتاجك صحيح، أريد أن أملك كل شيء، ولكن هذا لن يحدث.

اقرا أيضا:

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر