أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

عندما يشاهد المرء التحركات الحكومية المعلنة لإزالة مناطق كاملة من جبانات القاهرة، بلا أي قابلية للاستماع لأصوات المتخصصين والمحبين. يأخذه العجب من حالة التعدي المتعمدة على الجبانات متعددة الطبقات التاريخية. والغنية بتراث وآثار تحكي تاريخ القاهرة على مدار 14 قرنًا. منبع العجب أن الجبانات كانت محل عناية في فترات تاريخية سابقة لم يكن فيها الاهتمام بالتراث محل اعتبار كما هو حادث في العصر الحديث. ووصل الأمر إلى تأليف الكتب التي تخلد ذكرى ما في الجبانات من مزارات. ومن المفارقة التي نرصدها هنا، أن التعدي على الجبانات الآن يتواكب مع عملية نشر الكتب التراثية المعنية بكتب مزارات الجبانات. لتعمق الصورة المؤسفة بين تخليد الأجداد لذكرى مقابر القاهرة وتبديد الأحفاد لها؛ شهادات تاريخية قادمة من عصور قديمة توثق ما تعمل الحكومة المصرية على محوه الآن.

***

أهتم القدماء بالجبانات بشكل واضح لما فيها من مزارات دينية يستحب الدعاء عندها. فجاءت كتب المزارات متتالية الحلقات مخلفة تراث مكتوب لم تحظ به أي مدينة عربية أو إسلامية على مدار التاريخ. وتقوم كتب المزارات على ما يشبه المرشد السياحي المكتوب. عبر رصد مسار لزيارة مقابر الشخصيات الدينية ذات الأهمية الروحية عند المصريين. فيأخذ مؤلف الكتاب بوضع مسار يبدأ من مشهد أو قبة ضريحية يحددها لتكون بداية شرحه لمسار الزيارة في الجبانات المختلفة في القاهرة والفسطاط. فكان المرء يستخدم مثل هذه الكتب في تحديد معالم الجبانة في عصره. ويتجول فيها بكل سلاسة ليصل إلى الأماكن ذات البعد الروحي والتي تعود عادة إلى آل البيت وكبار العلماء وشيوخ الصوفية ممن يستحب الدعاء عندهم. لذا تقدم هذه النوعية من الكتب فضلًا عن معلوماتها التاريخية الفريدة. فصلًا من تجربة تدين المصريين بعيدا عن تصورات المتشددين وتشنجاتهم.

ورصد الباحث يوسف راغب في بحث منشور بدورية حوليات إسلامية سنة 1973، كتب المزارات فوجد أنها بلغت 21 مؤلفا فقد القسم الأكبر منها. أما النصوص التي وصلتنا فيعود أقدم نص لكتب المزارات منها إلى العصر الأيوبي، وهو كتاب “الدر المنظم في زيارة الجبل المنظم” لموفق الدين بن عثمان الشارعي المتوفى سنة 615هـ/ 1218م. ثم “مصباح الدياجي وغوث الراجي وكهف اللاجي مما جمع للجناب التاجي” لمجد الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله ابن عين الفضلاء، المتوفى بعد سنة 696هـ/1297م. وجزء من كتاب “مهذب الطالبين إلى قبور الصالحين” لابن الجباس المتوفى بعد سنة 736هـ/1336م.

و”الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة” لشمس الدين محمد بن الزيات المتوفى سنة 814هـ/1441م. و”تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات” لنور الدين علي بن أحمد السخاوي الحنفي، المتوفى سنة 887هـ/ 1482م، و “زهر البساتين في المدفونين بقرافتي مصر وترب القاهرة من المحدثين” لمحمد بن شعيب الشعيبي المتوفى بعد سنة 1030هـ/ 1621م. و”الكوكب السيار إلى قبور الأبرار” لعلي بن جوهر السكري المتوفى سنة 1200هـ/ 1786م.

غلاف كتاب "الدر المنظم في زيارة الجبل المنظم"
غلاف كتاب “الدر المنظم في زيارة الجبل المنظم”
***

المدهش أنه مع تنفيذ الحكومة أكبر عملية اعتداء على جبانات القاهرة حاليًا. يصدر المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، مطلع العام الجاري أولى خطوات مشروعه لنشر النصوص المتعلقة بكتب زيارات جبانات العاصمة المصرية. وهو المشروع الذي يقوم عليه الدكتور أحمد جمعة، الباحث المشارك بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة. مشروع طموح لا يتوقف عند نشر كل كتب الزيارات التي وصلتنا وإتاحتها أمام جميع الباحثين المتهمين، بل يعمل على إنتاج خرائط ودراسات متعلقة بالجبانات وما ورد في الكتب الخاصة بالزيارات. أي الاهتمام بكل ما جاء عن الجبانات من ذكر للترب والأضرحة والمساجد والزوايا والربط والجواسق. فهذه الكتب تقدم مادة تصلح لبناء دراسات تاريخية وأثرية عليها. فضلا عن أنها تقدم مسارات لتخطيط وتطوير المدينة التاريخية، وتوضح أماكن بعينها يمكن إجراء عمليات تنقيب أثري فيها.

لكن ما يجري على الأرض لا يعكس أي وعي بهذا التراث الفريد الذي لا تتمتع به مدينة أخرى غير القاهرة. فعملية الهدم الممنهج للجبانات الجارية بحماس منقطع النظير. عبر تقسيمها وتقطيعها إلى شرائح معزولة عن بعضها البعض باستخدام مجموعة من الكباري والطرق. ستؤدي في النهاية لتلاشي الجبانات بكل ما تحمله من تراث ونسيج عمراني يحكي قصة تمتد على مدار 1400 عام. فالعمليات الجارية ستؤدي إلى إزالة جميع النقاط الاستدلالية التي يمكن من خلالها تحديد الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية في الجبانات على مدار تاريخها الطويل. وسيفقد كتب المزارات أي قدرة على النطق والإرشاد لنا لكي نتوصل من خلالها إلى مناطق أثرية يمكن إجراء عمليات تنقيب أثري فيها. وهي خسارة لن تعوض في تاريخ القاهرة ومصر. فضلا عن ضياع تراث معماري فريد يحكي كل طبقات القاهرة التاريخية ويمكن استغلاله استثماريًا لو توفرت الإرادة.

***

لذا لم يكن غريبا أن تكون هناك حالة رفض للعبث بالجبانات، ما عبر عنها محقق كتب المزارات الدكتور أحمد جمعة، قائلا لـ”باب مصر”: “دعنا نكون متفقين أن هذا ليس تطويرًا أبدًا. ولا يجوز أن نُطْلق عليه تطويرًا؛ لأن التطوير يكون بالمحافظة عليه وترميمه وإطالة عمره وتشجيره وحراسته وتأمينه واستنقاذه من المياه الجوفية والصرف الصحي. وتحويلها إلى مزارات تاريخية وسياحية تجلبُ دخلًا للدولة. هذا هو مفهوم التطوير من منظورنا نحن. أما هدمه ونقل عظمائِه لأماكن أخرى فهذا له مصطلحاته المعروفة، لكن لا يكون تطويرًا أبدا كما أشرتُ. ونتمنى أن تُصْغي الحكومة المصرية للأصوات العالية التي تنادي بالتراجع أو البحث عن بدائل أخرى غير ما يحدث أو ما سيحدث في المدينة التاريخية”.

غلاف كتاب "مصباح الدياجي"
غلاف كتاب “مصباح الدياجي”

وطالب جمعة بالمحافظة على تراث جبانات القاهرة: “هناك الكثير من البدائل لمشاريع الطرق والمحاور المزمع إنشاؤها. وتفادي هدم المقابر الأثرية وهدم مدينة تاريخية. ولكن لم تلق أي استجابة أو آذانٍ صاغية”. وطالب بالعمل على توثيق كل ما في الجبانات والعمل على استكمال ما جاء في كتب الجبانات. “فقد تبدَّلت الأحوال كثيرًا في القرافة على مدار تاريخها، وحلَّت آثارٌ وخِططٌ جديدة مكان آثارٍ وخِططٍ قديمة صحابية وفاطمية وأيوبية ومملوكية. لذا يجب علينا استكمال الزِّيارات وتسجيل كل الخِطط والآثارِ الجديدة التي أُنْشئت في العصر العثماني أو عصر الأسرة العلَوية الحاكمة، والتي وصلت فيها القرافة لأوَجِّ عظمتِها من الإبداع. سواءٌ كانت في الشخصيات التي دُفِنت فيها أو في النقوش والتراكيب الرخاميَّة التي تُعتَبر فنًّا قائمًا بذاته. لذا لابد من تضافر الجهود وتكاتفها في تسجيل كل هذه الآثار المتمثلة في المنشآت والأسبلة والترب بتُحفِها وتراكيبها”.

***

وبموازاة النشر الأكاديمي بدأ عدد من محبي الجبانات المصرية وتراثها خلال السنوات القليلة الماضية في عمليات تسجيل الكثير من التحف المعمارية والآثار المنسية في الجبانات.التي تمتد من البساتين جنوبًا حتى مقابر الدراسة والمجاورين شمالا (كما تفعل صفحة جبانات مصر على فيسبوك). وهي خطوات تعوض بعض الشيء التجاهل الرسمي لعمليات التوثيق التي لا يعرف أحد إذا ما كانت تتم على أرض الواقع أم لا. لكن المشهد الأصلي يظل كما هو محاولات أكاديمية وشعبية للحفاظ على تراث مدينة بحجم القاهرة. في مواجهة استهتار الحكومة المصرية بهذا التراث والعمل على محوه وطمسه. لذا ستظل كتب مزارات الجبانات شهادة حية حارة من زمن فات تدين أي محاولة للعبث بتراث الجبانات.

اقرا أيضا:

منهم أم كلثوم وأحمد شوقي وسعد زغلول: هل تنجو هذه المقابر من الهدم بعد تسجيلها مؤخرا؟

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر