تمهيدا للهدم: حذف عقارات «بدير باشا» في الإسكندرية لصالح «عمر أفندي»

نشرت جريدة «الوقائع المصرية» قرارًا رسميًا بحذف عقارين من قائمة المنشآت ذات الطراز المعماري المتميز في الإسكندرية. العقاران، اللذان يعودان إلى «بدير باشا» في محطة الرمل، يشكلان جزءًا من التراث العمراني للإسكندرية منذ أكثر من قرن، وقد لعبا دورًا بارزًا في تشكيل المشهد الحضري للمدينة. وأحيط المبنيان بعد إصدار القرار بسقالات خشبية، مما أثار تساؤلات عديدة حول مصيرهما.

صراع قضائي

تضمن القرار المنشور بتاريخ 8 سبتمبر 2024، قرار وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية رقم 508 لسنة 2024، بحذف العقارين رقم (48، 50 سعد زغلول) – ويحمل المبنى كود 1360. وهما عقاران من أربعة عقارات كانت تابعة لـ “محمد بدير باشا”، والعقارات الأربعة الشهيرة تظهر في خلفية تمثال سعد زغلول.

بحسب الموقع الرسمي لجهاز التنسيق الحضاري، فإن عمارة بدير باشا عبارة عن أربعة عقارات تحمل أرقام (44 – 46 – 48 – 50) وتقع في شارع سعد زغلول، والعقارات الأربعة تابعة لشركة محلات عمر أفندي التابعة للمؤسسة المصرية الاستهلاكية العامة.

لكن الجدل حول العقارات الأربعة ومطالب حذفها تمهيدا للهدم أمر ليس جديدا، حيث لجأت شركة “عمر أفندي” لرفع دعوى قضائية في وقت سابق لخروج العقارات الأربعة من سجلات الحصر، لكن تم رفض الدعوى مع تأييد قرار لجنة الحصر والإبقاء على العقار في سجلات الحصر، ورفض التظلم المقدم بشأنه. وفسرت اللجنة القرار بأن المبنى ذو طراز معماري متميز، وتم إنشاؤه وفق مفاهيم وأسس مدرسة معمارية، ويعكس سمات حقبة تاريخية.

تهديد تاريخ المدينة

يحمل العقاران تاريخي ( 1880 و1919)، والمبنيان يمثلان جزءًا من تاريخ الإسكندرية الذي يمتد لعقود طويلة. وكانت هذه المنطقة واحدة من أكثر الأماكن التي تم تصويرها في الإسكندرية.

بحسب الباحث محمد رحمي شهدت عقارات بدير باشا مناسبات هامة، مثل نصب تمثال سعد زغلول بالحديقة التي تحمل اسمه، وبناء فندق “إيوريُو بالاس” – الذي أصبح “متروبول” اليوم – وكان الشارع يُسمى “بوليفارد الرمل” قبل أن يتغير إلى “بوليفارد سعد زغلول”، ليصبح اليوم “شارع سعد زغلول”.

وعلق الباحث قائلا: “هذه المباني، رغم قدمها، تعد جزءًا من تاريخ الإسكندرية الحديث. اسم بدير يرتبط بالكثير من معالم المدينة التي شكلت جزءًا أساسيًا من ذاكرتها المعمارية طوال القرن الماضي. لذا فإن هدم هذه المباني سيكون خسارة كبيرة، ليس فقط من الناحية المعمارية. بل أيضًا من ناحية التراث الثقافي الذي تمثله”.

وتابع: “في السنوات الأخيرة، تعرضت الإسكندرية لعدد من الاعتداءات على تراثها المعماري. وبالأخص في وسط المدينة، ولكن هذا الدمار ظل محصورًا في مناطق معينة. أما إذا تم هدم هذه المباني أو إزالة أي منها من قائمة التراث، فإن ذلك سيشكل ضربة قاسية للمدينة ولفصل مهم من تاريخها الحديث”.

مباني بدير باشا بحسب الموقع الرسمي لجهاز التنسيق الحضاري
مباني بدير باشا بحسب الموقع الرسمي لجهاز التنسيق الحضاري
مصير المباني المحذوفة

في حديثه حول قرار حذف بعض المباني من قائمة التراث في الإسكندرية، أوضح المهندس المعماري د. محمد عادل دسوقي أن القرار عن العقارين (48 – 50) من أربعة عقارات متلاصقة  تم رفعها من القائمة، وهذه المباني كانت مسجلة تحت كود واحد في قائمة التراث، وهو أمر غير شائع.

وأضاف في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: عادةً ما يتم منح كل مبنى كودًا منفردًا. لكن السبب وراء ذلك هو أن مالك هذه المباني في الماضي كان شخصًا واحدًا يُدعى بدير باشا. وبالتالي تم تسجيلها تحت كود واحد، بينما المبنيان (44 – 46) اللذان تم الإبقاء عليهما في القائمة، يحملان اسم «ديليبس» و«منشأة المعارف». واستكمل: “المباني التي تم رفعها من القائمة تعود ملكيتها إلى شركة خاصة، التي ربما تكون قد اشتراها من خلال صندوق سيادي بهدف تحويل هذه العقارات إلى ملكية تابعة للقطاع العام،. رغم عدم وجود تفاصيل دقيقة حول هذا الموضوع”.

استنكر المعماري المهتم بالتراث السكندري، وضع “السقالات” الخشبية على المبنيين (48 – 50) بعد إصدار قرار حذفهما من القائمة، متسائلا: “لا أعلم هل الهدف منها بدأ الهدم أم الترميم، ولماذا يتم الترميم طالما صدر قرار بحذفهم من القائمة؟”.

أزمات بسبب استمرار الهدم

عن ظاهرة هدم المباني التراثية، علق المعماري: “إذا كنا سنخسر شيئًا من التراث، ويُستبدل ذلك بمبنى أجمل، يمكننا قبول التغيير. ولكن المشكلة تكمن عندما يُستبدل التراث بمبنى يعكس سوءًا واضحًا من الناحية العمرانية والفنية”.

وتطرق إلى أزمة أخرى تعيشها مدينة الإسكندرية بسبب هدم المباني التراثية واستبدالها بأبراج سكنية تضم عشرات الأشخاص. موضحا: “هناك أيضًا أزمة تتمثل في الكثافات السكانية الكبيرة التي تشهدها المدن. فبعيدًا عن مسألة حذف المباني من قائمة التراث — تلك القائمة التي وضعتها الدولة نفسها لحماية تراثها — فإن الحديث عن كثافة السكان يتجاوز مجرد فكرة رومانسية”.

واستكمل: “نواجه مشكلة مرورية كبيرة، ولا يمكننا السيطرة على تدفق الحركة. طالما أن الاتجاه الحالي هو بناء المزيد من المباني دون مراعاة للبنية التحتية. فعندما نزيل مبنى كان يسكنه أفراد قليلون، وبدلاً منه نبني عمارات ضخمة لشخصيات وأسر عديدة مع سياراتهم ونظام صرف صحي غير مناسب. فإن النتيجة تكون مدينة غير صالحة للعيش”.

ويرى أن هذه التحولات تخلق “مدينة مرعبة” على حد وصفه، ولا يمكن التعامل مع مشاكل المرور فيها. مشيرا إلى أن حلول الكباري لا تجدي نفعًا، بل تزيد الوضع سوءًا. ويقول: “الكباري نفسها تتحول إلى أماكن مهجورة وقاتمة، مليئة بالفراغات، مما يجعلها بيئات غير صحية وغير آمنة. وفي النهاية، نفقد مدينة عظيمة كانت ذات قيمة كبيرة في وجدان المصريين والعرب والعالم. خاصة وأنها كانت مركزًا معماريًا شارك فيه مهندسون من جميع أنحاء العالم”.

مقترحات علمية

واستطرد دسوقي: “نسمح للبناء، ولكن أين هو التوازن؟ أصبحت الأمور خارج السيطرة، رغم أن هناك مقترحات علمية مدعومة بالأرقام، وليست مجرد آراء عابرة. هذه الأرقام تتجاوز الحديث عن التراث والتاريخ والذاكرة الجماعية، لتقدم حقائق علمية تؤكد أننا وصلنا إلى مستويات مرعبة من الكثافة السكانية والمرورية. والواقع الآن أن الإسكندرية أصبحت مدينة غير قابلة للعيش، فالطرق أصبحت مغلقة لساعات، ما يعرقل حركة سيارات الإسعاف والإطفاء. حيث تجد ثلاث سيارات تحاول الوصول إلى نفس المكان في وقت واحد، دون وجود مسار خاص بها”.

واختتم حديثه مسترجعا تاريخ الإسكندرية، يقول: “في الفترة بين الحربين العالميتين، كانت الإسكندرية مدينة لا مثيل لها. أفضل من العديد من المدن الأوروبية، بل كانت مزيجًا فريدًا لا يتكرر. أما اليوم، فالإسكندرية تُدار بواسطة أشخاص لا يقدرون قيمتها، ولا يخشون على تراثها، مما يهدد بتدمير تلك المدينة العريقة التي كانت من أبرز مدن الشرق”.

شارع سعد زغلول بالإسكندرية – قديما
شارع سعد زغلول بالإسكندرية – قديما
شارع سعد زغلول ومنافسة ضواحي لندن

الشارع الذي يضم عقارات بدير باشا قديما نجح في منافسة باريس. وكانت محطة الرمل في الإسكندرية، و”بوليفارد الرمل” الذي أصبح اليوم شارع سعد زغلول ويربط بين منطقة المنشية ومحطة الرمل. تم تصميمه على غرار أشهر شوارع لندن التجارية، مثل شارع ريجنت (Regent Street) الذي يمتد من أكسفورد إلى بيكاديللي.

وجاء اهتمام محمد بدير باشا بالعمارة، باعتباره أحد أكبر الأثرياء حينها، وكان أيضا من كبار ملاك العقارات في مصر. وعكس الشارع جمال المدينة قديما، مما دفع بدير باشا قبل أكثر من 100 عام لإنشاء العقارات الأربعة على نفس الطراز، والتي تمثل الآن بقايا الإسكندرية الخديوية وتم بناؤها في عام 1875. وفي الشارع نفسه، كان يوجد ترامًا يسير في منتصف الشارع وصولا إلى شارع المسلة (الذي يُعرف الآن بشارع صفية زغلول). إضافة إلى الترام الذي كان يسير في الشارع الموازي له، شارع محمد سعيد باشا (المعروف حاليًا بمقر الغرفة التجارية).

ولم يقتصر اهتمامه بالعمارة على الإسكندرية فقط. إذ دشن عقارا يحمل اسمه أيضا بشارع طلعت حرب بمنطقة وسط البلد في القاهرة. واتسم بتصميمه الفريد للمعماري الفرنسي جورج بارك عام 1925، الذي يجمع بين طابع “نيو باروك” و”آرت ديكو”، وهو الآن ملك شركة سيجما للاستثمارات العقارية.

اقرأ أيضا:

نزار الصياد: القاهرة تعيش مأساة (1-2)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر