«المنيا».. بين نقيضين

تنوع المنيا مبهر إلى حد معقد ومتشابك. فهناك تاريخ مشترك يجمع الأولياء بالقديسين بشكل يبدو وكأنه مترابط؛ بني على نسيج شعبي واحد. وهناك تاريخ آخر متنافر بشكل تنافسي يعزز من قيم كلا الطرفين بشكل منفصل. بداية من القرى التي أنشئت في الأساس بجوار الأديرة المنعزلة عن التجمعات السكنية والتي ساعدت بشكل رئيسي على نسج روايات القديسين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل المسيحية ومبادئها، وليس انتهاءً بالقرى والمدن الأخرى التي أحيت ماضي الفتوحات والأولياء الذين ضحوا بدمائهم في سبيل الله.

بين أبو حنس والشيخ عبادة

في منتصف الطريق بين قرية دير أبو حنس وقرية الشيخ عبادة، يوجد بئر ماء. تبدو حالته وكأنه لا قيمة له، إذ يظهر بين المقابر والصحراء وبعض المباني شبه المندثرة في الطريق. إلا أن هذا البئر يجسد لحالة من حالات المنيا المتفردة. فهناك خلاف في اسم هذا البئر بين اسم بئر السحابة الذي يعتقد فيه المسيحيون البركة لأن السيدة مريم وابنها المسيح عليه السلام شربوا منه أثناء مرورهم على تلك المنطقة في الرحلة المقدسة التي مرت كذلك بدير جبل الطير الواقع بالقرب منه. أما المسلمون فيطلقون عليه اسم بئر الصحابة، لاعتقادهم كذلك أن الصحابة الذين كانوا في طريقهم لفتح مدينة البهنسا مروا هنا وشربوا منه. وكلٌ على مذهبه؛ إذ يتعامل معه كلا الطرفين على أنه موقع مقدس بقدسية ما، فيفضلون المجيء إليه دوما بل والطواف حوله هادفين نيل البركة.

ولكلا القصتين امتداد في تاريخ المنيا، تمثله بعض المشاهد والبقايا الأثرية في المنطقة، فبالقرب من هذا الموقع توجد بقايا مدينة تاريخية سماها المصريون القدماء باسم الإله بس. ثم باسم أنطيونوبوليس، وهي مدينة أسسها الإمبراطور هادريان في القرن الثاني الميلادي، تخليدا لذكرى صديقه أنطينوس. صديقه الذي غرق في النيل في نفس موقع المدينة تقريبًا.

ملامح خافتة

تبدو المدينة الآن وكأن الزمان قد جرى عليها بقسوة، فلا ملامح تذكر سوى بعض شقف الفخار المفروشة على الأرض. فضلا عن بعض الأعمدة الملقاة يمنة ويسرة بتيجانها شبه المدمرة، إلا أنها لا زالت حتى الآن تحيى بشكل عجيب كل عام في شهر نوفمبر. حيث يقام احتفال سنوي بمولد أمير الشهداء ماري جرجس. وفيه يقوم أهالي قرية دير أبو حنس وقرى البرشا المجاورة بمولده. ويأخذون أضحياتهم على صخرة قائمة في تلك المدينة المندثرة ظنا منهم أنها الصخرة التي استشهد عليها ماري جرجس.

أما قرية الشيخ عبادة، فلقد أطلق عليها هذا الاسم تحديدا نسبة إلى الشيخ عبادة بن الصامت وهو الصحابي الذي زار المدينة بحثا عن بيت السيدة مارية القبطية زوجة النبي وأم ولده. فالاعتقاد أنها من تلك القرية تحديدا سائر بين الناس كأنه حقيقة واقعية لا شك فيها. وجد عبادة بن الصامت منزلها بعد رحلة بحثه وأقام عليه مسجدا تقام فيه الصلاة حتى الآن، له قبة ضخمة تظهر بوضوح وسط عدد ضخم من المنازل المتراصة بجانب بعضها البعض في تلك القرية العريقة. يمتد تاريخ تلك القرية إلى العصر الروماني وربما لتاريخ أقدم من هذا. وليس هناك دليل على عراقة تلك القرية أكثر من بقايا المنشآت الرومانية التي يلعب عليها الأطفال في الذهاب والإياب.

الطريق للبهنسا محفوف بالروايات

لا يختلف الأمر كثيرا في البهنسا، المدينة المثيرة التي بدأت قصتها في المخيلة الشعبية تُحكم فصول روايتها منذ القرن الهجري الأول. حين قرر عمرو بن العاص أن يرسل جيشا لفتح المدينة التي تقع على طريق الصعيد، كانت المدينة مستعصية على العرب بأسوارها العالية، حتى أنها استغرقت وقتا أطول من أي مدينة أخرى. وهو ما خلَّف شهداء كُثر في الجيش العربي، إلا أن المدينة فُتحت في النهاية ودخلها العرب، ودفن فيها عدد كبير من المسلمين الذين شهدوا الفتح واستشهدوا فيه. ومنذ تلك اللحظة ومع مرور الزمان أكثر وأكثر بدأت حكايات البهنسا تُكتب بأحرف شعبية وروايات دينية.

والناظر إلى البهنسا في يومنا هذا لا يرى فيها إلا انعكاس لتلك الروايات الكثيرة عن المدينة. فهي أحد أكثر المدن في الصعيد التي اكتسبت صبغة مقدسة في الإسلام. من خلال روايات مختلفة ومتعددة عن فتوحاتها وأوليائها الذين وفدوا إليها بعد الفتح العربي وأثناءه.

يوم الجمعة يوم مشهود في تلك المدينة حيث تكثر فيها ممارسة الطقوس المختلفة والتي يمتد أصل حكايتها إلى تلك الروايات التي كتبت عنها. أغرب طقس تتم ممارسته فيها ما يسمى “طقس الكحرتة”. حيث تقوم مجموعة من السيدات -وأحيانا بعض الرجال- بالنوم فوق تلة من الرمال بالقرب من ضريح يطلق عليه السبع بنات. ثم يدحرجون أنفسهم إلى آخر التلة. يأملون من خلال هذا الطقس الشفاء من الأمراض التي تمنعهم من الإنجاب أو الزواج. وهو ما يجعل الإقبال عليها من قبل الفتيات الصغار حديثي الزواج كبير جدا.

روايات وطقوس

مهدت روايات الناس عن البهنسا إلى تلك الطقوس. فيذكر مثلا كتاب فتوح الصعيد والبهنسا أن الناس يحددون بشكل معين أماكن استجابة الدعوة في المدينة “منها مجرى الحصى وعند مجرى السيل” لما فيها كثير من الشهداء. تلك الحادثة تحديدا لها أصول في رواية لأبو علي النووي.حيث إنه كان إذا وصل إليها ينزع ثيابه ويتمرغ في تربتها. ويقول: يا لك من بقعة طالما طار غبارك في سبيل الله. تلك الروايات كأنها مقدمة لترسيخ بعض الطقوس التي تتعلق بنيل البركة من رمال مدينة البهنسا.

مدينة البهنسا، مدينة ضاربة في التاريخ القديم بطبقاته المتفرقة، هناك بقايا لمعبد قديم يرجع تاريخه إلى العصر الروماني، وعلى أحد أبراجه بنيت مئذنة عثمانية لمسجد قديم نسب إلى أحد الأولياء المعروفين في البهنسا. يقال له عبد الله الغني ابن سمرة، يأتي الناس إليه دوما خاصة في أيام الجمعة. تلك هي صورة حية من صور المدينة التي يقف فيها الحاضر بقوة فوق صفحات الماضي التليد.

يبدو المشهد الرئيسي في المدينة بشكل لافت للانتباه، هو القباب الطينية والضريحية. يحفظ بعض الناس في المدينة موقع كل ضريح فيها يأخذونك إليه ويتبركون به، لمن هو وتاريخ حياته والروايات التي نسجت حوله. وللحقيقة فإن أغلب تلك الأضرحة يرجع إلى تاريخ حديث لا علاقة له بالأسماء التي نقشت عليه. لكن الاعتقاد السائد أن تلك المنطقة حوت خمسة آلاف من الصحابة وأفراد الجيش العربي الذي فتح المدينة.

بطبيعة الحال ليس هذه القباب ليست وحدها معلم المدينة الرئيسي. فأحد أهم المنشآت فيها مسجد الحسن بن صالح الذي أقيم هو الآخر على أعمدة رومانية قديمة. يعود تاريخه إلى القرن العاشر الميلادي. ويأخذ نمطا معماريا شبيها بالجامع الأزهر في القاهرة.

حكايات المنيا لا تنضب

لا يمكن بأي حال من الأحوال اختصار تاريخ المنيا وعلاقته بالأولياء والقديسين من خلال تلك القصاصات فقط. إذ إن لكل مدينة وقرية في المنيا جوانب كثيرة من الحكايات والأساطير. التي ارتبطت بأولياء وقديسين تناغم تاريخهم مع أهالي المنيا بشكل يجعل الانفصال عنها أمرا مستحيلا. يمكن تفسير تلك القصص بأكثر من وجه. إلا أن التفسير الأكثر واقعية هو أن تلك القصص تعزز من علاقتهم بالأرض وامتزاجهم معها.

اقرأ أيضا:

«المنيا».. الطريق نحو تل العمارنة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر