ع السمسمية.. أسمع يا سيدي

في رحلة البحث عن آلة السمسمية انتقلت عبر آلة الزمن إلى ثلاثينات القرن العشرين. وجدتني جالسا على باب من أبواب مقهى الحصون السبعة بمدينة بورسعيد لصاحبها “الريس حسن متولي” أستمع إلى تلك الآلة الساحرة التي عرفت هناك على ذلك المقهى لأول مرة في بورسعيد.

وبمجرد الاستماع إليها خطفتني لعالمها السحري.. زي حورية البحر!!

ذلك العالم الفريد القائم بذاته حالة ذهنية وعاطفية هائلة تشعر فيها بخليط من مشاعر السعادة والفرح والإثارة والانتشاء في آن واحد. على رنينها الحاد الباعث على النشوة والابتهاج، يرقص القلب فرحا. وعلى ألحانها “تخدك النداهة”، لتأثر القلوب والآذان لكل من يستمع إليها، ويصبح من مُريدوها وأتباعها.. على أنغامها يتحرر الإنسان من مخاوفه وأحزانه، يتحدى كل شيء ولا يريد إلا الغناء والاندماج.

إنها السمسمية التي تركت حيزا كبيرا من التأثير في وجدان الشخصية البورسعيدية، والتي استمدت دلالتها من امتزاج الثقافات المختلفة في تلك المدينة الوليدة.

**

السمسمية التي ولدت من رحم آلة “الطنبورة” واختلفت المصادر في سبب هذه التسمية. فذهب البعض بأنها سميت “سمسمية” لصغر حجمها؛ فهي “مسمسمة” مقارنة بحجم الطنبورة. ويعتقد البعض، إن سبب التسمية رقة صوتها بالنسبة إلى الطنبورة.

احتضنت بورسعيد التي ارتبطت نشأتها بحفر قناة السويس هذا الفن لكونها مدينة جديدة قادرة على استيعاب تراث البحارة والعمال الذين توافدوا عليها من كل البقاع. وهذا ما يفسر تواجد أدوار شامية في أغاني السمسمية “يا رايحين لحلب.. حبّي معاكم راح/ يا محملين العنب تحت العنب تفاح”.

وكان يصاحب الأغنيات حركات راقصة مستوحاة من بيئة العمل في الميناء والصيد في البحر. وإن لم يمتلك أحد حقيقة قاطعة حول بداية فن السمسمية بمدن القناة. إلا أن من الثابت تاريخيا والمعروف يقينا، وقد اتفقت عليه جميع الروايات أن هذا الفن تبلور واكتسب زخمه في مدن القناة الثلاث على يد أول من عزف السمسمية. وغناها في ثلاثينات القرن الماضي في منطقة القناة الفنان النوبي”عبد الله كبربر”.

وآلة السمسمية.. لها فلسفتها الخاصة، وهي بطلة العروض الفنية على الإطلاق. فلا يوجد النجم الأوحد في الفرقة (الصولو) كما في باقي الفرق الموسيقية، وإنما يوجد (الصحبجية) حفظة التراث فالجميع يؤدى نفس الأغنية. ويتبادلون الأدوار فيما بينهم ما بين الغناء والعزف والترديد (الكورال). حيث عندما يفرغ المغنى من أداء الدور يرجع إلى الخلف ليتقدم زميله ويردد وراءه وهكذا.. كعادة الفنون التراثية.

**

ارتبطت السمسمية بكل صور الحياة في بورسعيد، ونقلت لنا بصدق كل صور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ولطالما كانت إيقاعاتها محفزة للمشاعر والأحاسيس الإيجابية. فليس غريبا أن تغنى السمسمية لرصاص البندقية، بعد أن تبدلت روح المرح والسهر إلى روح المقاومة والصمود في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر. والتي استبسلت بورسعيد في الدفاع عن ترابها عام 1956.

وكأنه نداء صادر من أوتارها لاستنفار الروح الوطنية المتأصلة في الشخصية البورسعيدية. لذلك لا يمكن الحديث عن المقاومة في بورسعيد دون الحديث عن السمسمية التي تحولت إلى أداه للتعبير عن حب الوطن. فالسمسمية لم تكن مجرد آلة موسيقية فحسب. بقدر ما صنعت تاريخا وجدانيا عند عشاقها ومريديها الذين هاموا عشقا في حب هذا الوطن، وتفانوا في الدفاع عنه.

وجاءت هزيمة 5 يونيو 1967 وكانت نكسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد أطاحت بكل شيء، تحولت الثقة إلى إحباط والأمل إلى ضياع، ووسط ظلام وكآبة الهزيمة كان لابد أن يظهر النور. فكانت شعلة الأمل من فناني السمسمية في مدن القناة، فظهرت الروح المصرية التي لا تموت الروح. تلك الروح التي لا تعرف الهزيمة، روح المقاومة والصمود على طول خط المواجهة.
فقد أصبحت مدن القناة هي الخط الدفاع الأول لحماية مصر كلها وتحمل أبناء مدن القناة المسؤولية بوعي كامل. كما تطوع فنانو السمسمية في المقاومة الشعبية للدفاع عن مدن القناة.

**

ظهر دور فرق السمسمية جليا في هذا المجال بوعي كامل وإيمان عميق في بث روح الأمل ووقف التباكي على الهزيمة والعمل على تحرير الأرض.

قامت السمسمية بدور التوجيه المعنوي. فألهبت الحس الوطني لبث الأمل في قدرة القوات المسلحة على تحرير الأرض ودحر العدوان. وكانت بكلماتها وأغانيها لا تقل أهمية عن السلاح. كما كانت بمثابة الظهير الشعبي للجبهة الداخلية واستخدمها أهل مدن القناة في تأجيج المشاعر الوطنية لشحذ الهمم وبث الثقة في النفوس. فكانت أصدق مؤرخ لتلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر الحديث.

ومازالت فرق السمسمية بمدن القناة تؤدى دورها على أكمل وجه للحفاظ على ذلك التراث الفني الفريد، والعمل على نشره وتطويره.

اقرأ أيضا:

«الروزانا» من الشام إلى بورسعيد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر