«أرشيف بيكيا»: «قافلة الثقافة».. سلم واستلم

دائما ما ارتبط مفهوم «القافلة» بالسفر، سواءً كان بغرض التجارة أو بغرض الحج. ولكنه سفر يحتاج إلى سبيل آمن لعبور الوديان والصحاري، ويحتاج إلى النفوس المغامرة للانطلاق في الرحلة.

تحول هذا المفهوم القديم للقافلة على أيدي دولة يوليو، تحديدا عند إنشاء مشروع «قوافل الاستعلامات» تحت قيادة محمد عبدالقادر حاتم في مصلحة الاستعلامات عام 1955، والتي كانت تنشر دعاية الدولة في قرى ونجوع مصر انطلاقا من العاصمة. كانت تتكوّن قافلة الاستعلامات من عدة عربات للنقل الثقيل، تحمل وحدة إذاعية ومسرح وشاشة عرض متنقلة. وكان يعمل بالقوافل هؤلاء المغامرون المؤمنون برسالة حكومة الثورة، والذين اعتبروا الأرياف مجاهل مفتوحة للتبشير بهذه رسالة.

***

كانت تجوب مثل هذه الوحدات المتنقلة في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية في بدايات القرن العشرين. وكان الغرض منها نشر دعاية الحكومة الاستعمارية عن ضرورة الصحة العامة وعظمة الأشغال العمومية التي كانت في صدد إنشائها. أعادت مصلحة الاستعلامات توظيف تلك الوحدات – والتي كانت في بعض الأحيان نفس العربات الموروثة من الاستعمار – في سبيل الدعاية الرسمية لإنجازات ثورة يوليو. ثم أعاد ثروت عكاشة توظيف تلك العربات لاحقا لصالح مشروعه الثقافي بعد توليه وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1958. حيث خطط لانطلاق 10 “قوافل للثقافة” في جميع أنحاء البلاد ضمن الخطة الخمسية الأولى (1960-1965).

تجسد قافلة الثقافة تناقضا جذريا في سياسات العهد الناصري، وهو تناقض بين الرغبة والعمل. فهناك من ناحية رغبة مثالية لتوزيع المنتجات الثقافية المصنوعة في العاصمة – من كتب ومسرحيات وأفلام مثلا – في المدن الريفية والقرى والنجوع. وهناك من ناحية أخرى الوسيلة العملية التي تستخدمها أجهزة الدولة لإنجاز هذا المشروع، وهي عربات النقل التي تحمل تلك المنتجات وتوزعها في الأرياف. تظهر الفجوة بين الرغبة والعمل في العواقب اللوجستية والفنية والبيروقراطية التي وقعت أمام تحقيق المشروع.

الوثيقة
الوثيقة

فقد واجه التصور المثالي عن إتاحة الثقافة في الأرياف ضعفا واضحا في عدد القوافل الصالحة للعمل وكثرة العطلات الميكانيكية. وتعثُر الجهاز الإداري في توزيع السيارات بين مختلف المحافظات.

يتجلى هذا التناقض بين الرغبة والعمل الثقافي في مذكرة اليوم، التي أرسلها حسين حافظ “مستشار القوافل” بالإدارة العامة للثقافة الجماهيرية إلى سعد كامل مدير المؤسسة في 29 يوليو 1967. يوفي حافظ بتفاصيل نقل قافلة مديرية التحرير إلى الثقافة الجماهيرية. كانت مديرية التحرير مشروعا زراعيا كبيرا دعمته الدولة لتوسيع رقعة الأراضي الخصبة في الصحراء بين القاهرة والاسكندرية. نظرا لعدم وجود مركز أو قصر للثقافة بمديرية التحرير. اقترح حسين حافظ تخصيص القافلة لمركز آخر. رغم اللغة التقريرية الجافة والبنود المُرقمة في المذكرة. إلا أنها تحكي وتكشف الصعوبات المباشرة التي واجهت الإدارة أثناء أداء عملها.

***

يشير حافظ أولا إلى حادث سيارة حطم القافلة الخاصة بقصر ثقافة بني سويف. فطالب مدير الثقافة بالحصول على قافلة جديدة تجوب القرى في محافظته بدلا من القافلة القديمة. توجه مستشار القوافل بهذا الطلب إلى مصلحة الاستعلامات، التي كانت لا زالت تمتلك عددا كبيرا من القوافل بعد دمجها مع الثقافة الجماهيرية في عام 1963 كما ورد في مقال «أرشيف بيكيا» السابق. عقب الطلب، تكرمت مصلحة الاستعلامات بتخصيص قافلتين إضافيتين للثقافة الجماهيرية، إحداهم في الفيوم والأخرى في البحر الأحمر.

ولكن عند استلام قافلة الفيوم، اتضح أنها غير صالحة للعمل بسبب عطل ميكانيكي. وعند استلام قافلة البحر الأحمر، رفض المحافظ تسليم العربات اللازمة دون إبداء السبب أساسا! وفي ظل هذا الوضع، عرضت مصلحة الاستعلامات على الثقافة الجماهيرية قافلة أخرى من طنطا. ونصح حسين حافظ مديره بتخصيص قافلة طنطا الجديدة للمأموريات الخاصة بالقاهرة والجيزة. ثم بتخصيص قافلة مديرية التحرير لقصر ثقافة بني سويف، على أن تنتهي الإصلاحات على قافلة العريش حتى تُخصص لقصر طنطا. وبعد هذا الدور في لعبة الكراسي الموسيقية. لا نعلم إذا سافرت قافلة مديرية التحرير إلى بني سويف بالفعل، وماذا آلت إليه قوافل الفيوم والعريش العاطلة…

***

يستوقفني في هذه الوثيقة التعبير الإداري الذي استخدمه حسين حافظ للإشارة إلى اللحظة الحاسمة التي عبرت فيها قافلة مديرية التحرير إلى أيدي الإدارة العامة للثقافة الجماهيرية، فقد “قامت الإدارة باستلام” القافلة. في التعبير السوقي الشائع – سلّم واستِلم – يُعتبر الاستلام ميسورا طالما توفرت الموارد اللازمة لإتمام المعاملة التجارية. حيث تكمن الصعوبة في تحضير وتسليم المبلغ اللازم وليس في الاستلام نفسه. بهذا المنطق، ليس هناك صعوبة واضحة في استلام قافلة مديرية التحرير إذا استطاعت الدولة أن توفر الموارد اللازمة لإدارتي الاستعلامات والثقافة الجماهيرية. ولكن يتحدث حسين حافظ عن الاستلام كعملية تستدعي الوقوف عندها. فالإدارة “تقوم” بالاستلام، مثلما تنهض بأعباء العمل المؤسسي عموما وتحمل المسؤولية الخاصة بالقافلة على عاتقها، وتدل هذه الكلمة العابرة على الصعوبة الكامنة في عملية الاستلام.

على عكس المعاملات التجارية، التي تعتبر الاستلام ردا على فعل التسليم، يقوم الاستلام بذاته في إطار العمل الحكومي، فهو يتضمن نقل المسؤولية بين إدارة والأخرى، ولذلك يتميز بنفس صعوبة التسليم. في حالة قافلة مديرية التحرير مثلاً، يتضمن الاستلام تقليص العهدة الخاصة بالمديرية وتوسيع العهدة الخاصة بالثقافة الجماهيرية. ولذلك يبذل مدير القوافل خالص الجهد في التأكد من حالة العهدة عند استلامها. ثم في معالجة الأوراق الخاصة بها، ثم في توزيع القوافل بما يرضي مديري قصور الثقافة بالمحافظات. لا يقتصر الاستلام على اقتناء الشيء المادي فقط – أي إرسال أحد سائقي الثقافة الجماهيرية في مأمورية نقل العربات اللازمة من جراج الاستعلامات إلى جراج الثقافة – ولكنه يتضمن أيضا إعادة توزيع المسؤولية داخل الدولة. وبالتالي للاستلام أبعاد معنوية وأخلاقية تؤنب ضمير الموظف، مما يجعل حسين حافظ يتأكد من سلامة قافلة الفيوم ويكتشف فيها عيوب ميكانيكية مثلا.

***

رغم المشروع المثالي التي كانت تمثله «قافلة الثقافة»، إلا أن الوسيلة العملية التي استخدمتها الدولة لنشر منتجاتها الثقافية في الأرياف لم تكن فعّالة، نظرا لبعض العوامل الفنية مثل الأعطال والحوادث التي أصابت عربات القوافل، والكثير من العوامل الإدارية. ولكن بعد انتشار التلفزيون في السبعينيات والثمانينيات، واستخدامه في أجهزة الثقافة والإعلام الرسمية كمنبع للتثقيف الجماهيري عن بُعد، تراجع دور قوافل الثقافة في نشر الكتب والمسارح والأفلام في الأرياف. واكتفت الدولة بإرسال المواد الثقافية عبر الأمواج. إذا كانت للقوافل دورا أساسيا في سفر أجيال من التجار والحجاج عبر التاريخ. لم تنجح دولة يوليو في توظيفها لصالح مشاريعها الدعائية والثقافية، رغم انتهازها للخيال الأزلي المرتبط بسفر القوافل. وربما كان استغلال هذا الخيال أنجح من تجربة القوافل الفعلية.

اقرا أيضا:

«أرشيف بيكيا»: فصل العُهد

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر