بالفسيخ والبصل وأشياء أخرى.. هكذا احتفل المصريون القدماء بشم النسيم
اختلف المؤرخون حول تاريخ بدء الاحتفال بعيد شم النسيم في مصر، يقول عصام ستاتي في كتابه (شم النسيم عادات وأساطير) إن بريستد وكثيرون يرجعون ذلك إلى عصر ما قبل الأسرات (3100 ق.م)، بينما يعتقد المؤرخ اليوناني الشهير بلوتارخ أن العيد يعود إلى حوالي (4000 ق.م)، واتفق أغلب الباحثون على أن الاحتفال الرسمي بدأ سنة (2700 ق.م).
شمو
ويعتقد ستاتي أن شم النسيم هو عيد قومي مصري، لافتًا أن العيد لم يكن دينيًا بقدر ما كان احتفالًا بالطبيعة.
وبحسب ستاتي اختار القدماء المصريين توقيت الاعتدال الربيعي ليكون هو يوم العيد، وفي ذلك إشارة إلى ارتباط العيد بإشراق الشمس وتفتح الزهور فهو يمثل بداية حياة جديدة، ملمحًا أن التسمية الفرعونية للعيد (شمو) تعني الحصاد، لوقوع العيد في أول فصل الحصاد حين تتساوى ساعات الليل بساعات النهار، مشيرًا إلى أن الاسم حرف في العصر القبطي وأصبح شم، ولاحقًا أضيفت إليه كلمة النسيم ليصبح (شم النسيم).
استطلاع الرؤية
ويوضح ستاتي أن القدماء ربطوا بين احتفالاتهم والظواهر الفلكية، لذلك فقد اعتبر الاعتدال الربيعي والذي يوافق 25 من أبريل هو بداية السنة المدنية الجديدة، واعتاد المصريون القدماء أن يستطلعوا قرص الشمس في غروبه الأخير، ليلة العيد، معبرين عن ذلك يقولهم: “حين يجلس الإله على عرشه فوق قمة الهرم”، موضحًا أن الناس كانوا يجتمعون عند الواجهة الشمالية للهرم الأكبر للاحتفال بظهور الإله رع كقرص شمس كامل ومستدير معلنًا بداية سنة جديدة مثمرة.
احتفالات
ويلمح ستاتي أنه في صبيحة يوم العيد كان القدماء المصريون يرتدون أفضل ثيابهم ويتطيبون بالعطور ويقصدون الحدائق والبحيرات، وكانت صفحة النيل تمتلئ بالزوارق والمراكب التي تزينها زهور اللوتس وفروع الأشجار، وكانوا يتبادلون التهاني فيما بينهم متمنين لأنفسهم سنة سعيدة، وبجانب ذلك كانت تعزف الموسيقى وتغنى الأناشيد المعبرة عن العيد ، وكان من الشائع أن ينشد المنشد هذه الأبيات:
احتفل بهذا اليوم السعيد
واستنشق روائح العطور والزيوت
وضع أكاليل من زهور اللوتس على ساق أختك وصدرها
تلك المقيمة بجوارك والساكنة في قلبك
أوزوريس وحتحور
ويورد ستاتي أن الاحتفالات الشعبية في الحدائق والميادين والبحيرات كان يجري بالتوازي معها احتفالات دينية تتخذ شكل قرابين وتقديمات لآلهة بعينهم مرتبطين بفلسفة الاحتفال القائمة على الخضرة والخصب والنماء، لذلك اعتبر الإله أوزوريس الإله الأكثر حظًا في تلك الاحتفالات لكونه يمثل البعث بعد الموت طبقًا لأحداث أسطورته المعروفة، وكان المغني يخاطبه بهذه الأبيات:
أيها الشاب الميل عد إلى بيتك
من زمن طويل لم نرك
عد إلى بيتك.. لقد هجرتنا
يا من تعيش فينا قد هجرتنا
وحتحور رمز الخصوبة كانت يحتفل بها بسكب النبيذ في الطرقات لاسترضائها، فحسب الأسطورة حين غضب الإله رع على البشر وسلط عليهم حتحور الغاضبة لتسفك دمائهم، تمادت حتحور في القتل، ولما أراد الإله الصفح عن بني البشر لم يستطع أن يوقف جموح وجنون حتحور إلا حينما خلط جعة النبيذ مع الحجر الطفلي الأحمر وملئ به البحيرات، فشربت حتحور ظنا منها أنها تشرب من دماء البشر فثملت وأعيدت مكبلة إلى رع.
الخماسية المقدسة
يلفت ستاتي إلى أن مائدة المصريين في يوم شم النسيم كانت تقوم على 5 أصناف لكل منها رمزيته وارتباطه بتوقيت العيد، موضحا أن هذه الخماسية كانت تسمى المائدة المقدسة، وكانت تحتوي على “البيض والفسيخ والبصل الأخضر والخس والحمص”.
البيض
وبحسب ستاتي فإن البيضة كانت ترمز إلى الحياة حسب أسطورة الخلق التي اعتبرت أن بيضة كونية انفجرت وشكلت الحياة على الأرض، كما أن تركيب البيضة من الداخل يشبه الشمس المشرقة، ملمحًا أن فكرة الكتابة على البيض مرتبطة باعتقادات القدماء بأنهم إذا مما دونوا أمانيهم على البيضة في أول أيام العيد سوف تتحق، ويورد ستاتي أن عملية سلق البيض والكتابة عليه كانت تتم في ليلة العيد فإذا ما أشرق الصباح تسابق المصريون باللهو في كسر البيض وتناوله.
ويوضح ستاتي أن تلوين البيض بدأ في عهد الملك بيبيرس (1260 – 1277 م) حين هزم جيش الصليبين في معركة المنصورة (1249م)، وكان ذلك في وقت شم النسيم، ولما نكس علمهم ذو الألوان المختلفة احتفل أهالي المنصورة بتلوين البيض بلون العلم المهزوم فكان كسر البيضة وأكلها يرمز إلى كسر العدو وهزيمته.
الفسيخ
يشير ستاتي أن السمك كطعام كان شائعًا جدًا بين المصريين بحكم وفرته في مياه النيل وتدل نقوش المقابر والمعابد على شيوع تناوله في البيوت والقصور المصرية.
ويضيف ستاتي أن المصريين حرصوا على تجفيف وتمليح الأسماك في فصلي الربيع والصيف لأنهم أدركوا أن تكاثر السمك ينخفض في الشتاء، فكانوا يتوقفون عن الصيد حفاظًا على الثروة ويلجئون إلى تناول السمك المملح.
وفي شم النسيم كان السمك المملح أو الفسيخ من الأطعمة الرئيسية لرمزيته في أنه من نتاج الماء الذي هو حسب الأساطير المصدر الأول للحياة، ويورد ستاتي رأي هيرودوت الذي ذكر أن القدماء اعتادوا تناول السمك المملح في عيد شم النسيم لاعتقادهم بأنه مفيد صحيًا لاحتوائه على نسبة كبيرة من الأملاح التي تقي من ضربات الشمس، لافتًا أن بردية ايبرس الطبية ذكرت أن تناول السمك المملح يوصف لعلاج بعض حالات الحمى الربيعية وضربات الشمس.
البصل
ولم يقل تناول البصل الأخضر أهمية عن السمك المملح لفوائده الصحية بحسب ستاتي، فطبقًا للأسطورة فإن ملكًا مرض ابنه وأخبره الكهنة أنه يعاني من سحر وأمروا بأن يوضع تحت رأسه في الليل ثمرة بصل ناضجة بعد قراءة بعض التعاويذ عليها، وفي الصباح شقها الكاهن نصفين وقربها من أنف الصبي فشفي على الفور، ويورد ستاتي أن البرديات الطبية ذكرت وصفات متعددة حوت البصل كمادة مقوية لجهاز المناعة ومحاربة للبكتيريا والفطريات.
الخس
ويلمح ستاتي إلى الوعي الصحي لدى المصري القديم إذ جعل الخس من ضمن مائدة شم النسيم لاحتوائه على الألياف الطبيعية المقوية لجدار المعدة والذي يقي من أمراض القرحة والقولون، فمع تناول البيض والفسيخ والبصل تحتاج المعدة إلى المادة الخضراء الليفية المنشطة لعملية الهضم والإخراج.
الحمص
عرف الحمص منذ عصر الدولة القديمة (2780-2263 ق.م)، ويوجد نماذج محفوظة من ثمار الحمص الأخضر في المتحف الزراعي طبقًا لستاتي، موردًا أن القدماء لاحظوا تشابها بين شكل الثمرة ورأس الإله حورس لذلك سموه (حور-بيك) أي رأس حورس، كما لاحظوا أن ثمار الحمص في أول فصل الربيع عندما يهزها الهواء تصطك محدثة صوتا كقرع الطبول فاعتبروا أنها تحتفل بقدوم العيد، ويلمح ستاتي أنه طبقًا لبرديات طبية فإن الحمص يعالج النزلات الربيعية عند الأطفال كما يعالج أمراض المثانة والكلى.
أشياء أخرى
ويلمح ستاتي أنه بجانب الخماسية المقدسة كانت هناك أطعمة أخرى يقبل عليها المصريون مثل البط والأوز المشوي، كما كان من عادات شم النسيم التقلد بعقود الياسمين ووضع الكحل في العينين للوقاية من الرمد الربيعي.
++++++++++++++++++
هوامش:
شم النسيم أساطير وتاريخ وعادات وطقوس (بي دي إف) – عصام ستاتي – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006