دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

المعماري «وليد عرفة»: نعيش لحظة ضعف.. والعمارة المصرية الآن بـ«عافية»

أن يخلص المعماري لمهنته، ومعتقداته، وأفكاره، فهي عملية معقدة تكاد تكون مستحيلة، إذ عادة ما يتم الترويج لمثل هذه المعتقدات والمُثل داخل قاعات المؤتمرات، والدراسات البحثية، بل والدفاع عنها حتى النهاية داخل الغرف المغلقة. لكن على أرض الواقع، يكون تطبيقها أشبه بعملية انتحارية تتطلب الاشتباك مع البيروقراطية والقوانين المحلية وأصحاب المصلحة، وفي هذه الحالة – غالبًا – ما تصبح الأفكار حبيسة الأدراج ومحض خيال.

أما بالنسبة للمعماري وليد عرفة، فكان الدفاع عن آرائه ومعتقداته تحديًا في حياته المهنية، ويعود ذلك إلى «عِنده» و«صعيديته» التي لا يخفيها أبدًا في تعاملاته اليومية، والتي – ربما – أنقذته من الوقوع في فخ «المجاملات» و«المواءمات» أيضًا.

كانت المرة الأولى التي اقتربت فيها من «وليد» خلال مؤتمر دولي عقد بمدينة «كازان» الروسية مطلع العام الجاري، حين قرر الإفصاح عن بعض أفكاره ومعتقداته قائلًا: «العمل المعماري ليس عملًا إنشائيًا بحتًا، بل هو خدمة لمجموعة من المعاني والقيم تتجسَّد في شكل مادي وفراغي؛ لذلك فالاستدامة هي أن نقوم بالعمل بشكل يحفظ للمنتج المعماري قيمته لأطول مدة ممكنة».

ربما عبر «عرفة» من خلال عباراته عن فلسفته في التعامل مع مهنته، إذ يؤكد دائمًا أن العمارة كائن حي له روح، وأن استدامتها لا تتحقق إلا إذا استمر “البدن” في صحة جيدة.

يقول: «إنني أتكلم بناء على فهم للحضارة المصرية، فالمصريون القدماء تعاملوا وفقًا لفهم حقيقي نابع من فكرة «الحساب الأخروي»، وكانوا يعلمون أنهم سيسألون عما فعلوا في حياتهم، فهذه الفلسفات والأديان التي مرَّت على أرض مصر كانت مبنية على تلك المعاني والقيم. وهذا تمامًا ما أحاول تحقيقه في جميع مشاريعي المعمارية»… هنا نقترب من تجربة وليد عرفة، ونتعرف على معتقداته، وفلسفته، وآرائه، وأيضًا نظرته للوضع المعماري الحالي داخل مصر.

أسرة أكاديمية

ينتمي «عرفة» لأسرة أكاديمية، فوالده هو الدكتور عرفة أحمد حسن، ابن نجع الشيخ بكير، بمركز المنشاة، محافظة سوهاج. تخرج والده في كلية التربية جامعة عين شمس، والتحق بالتدريس في جامعة الأزهر، متخصصًا في طرق التدريس وتصميم المناهج.

كان وليد الثاني بين إخوته، وقد نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية حين كان والده يحضر رسالة الدكتوراه في جامعة ولاية ميشيجان، وظل هناك حتى سن السابعة من عمره، إلى أن قررَّ والده العودة والاستقرار بمصر. التحق وليد بمدرسة عباس العقاد التجريبية للغات بمدينة نصر في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، ثم انتقل مع والده إلى الإمارات، وهناك حصل على شهادة الثانوية العامة، لكنه قرر العودة إلى مصر لتبدأ رحلته مع الهندسة.

التحق «وليد» أولا بقسم الميكانيكا، وبعد عام واحد قرر أن تكون وجهته العمارة لا الميكانيكا.

يقول: «اهتماماتي المعرفية المتعددة جعلت اختياري لكلية معينة أشبه بمن يضحي ببعض أحبابه من أجل البعض الآخر، إلا أن بداية تفهمي للعمارة وارتباطها العضوي الوثيق بدوائر العلوم الإنسانية والطبيعية طمأنني إلى أن هذا المجال لا يتطلب التضحية بمجال من أجل إتقانه، بل العكس تماما. لذلك اخترت العمارة لأنني أحب الفلسفة والعلوم الدينية واللغات والتاريخ والعلوم الإنسانية إلى جانب العلوم الهندسية، فاهتماماتي لا تمثل عائقًا أمام التعمق في العمارة، لأن التنوع المعرفي يقوي المعماري، وليس العكس. العمارة «تلمِس كل هذه الأشياء».

تعقيدات إدارية أجبرت وليد على البقاء في قسم الميكانيكا لعام كامل، ثم تدرب بعدها في مصنع سيارات شركة «سوزوكي» بمدينة السادس من أكتوبر، وهناك لاحظ أن أقرانه من المتدربين يفوقونه شغفا في هذا المجال.

يقول: «وجدتهم يركزون في التدريب، وحتى أوقات الراحة كان لديهم شغف ورغبة في هذا المجال لا أجده في نفسي، رغم اهتمامي كذلك بالهندسة الميكانيكية. أدركت أنني لا يصح أن أهب عمري كله لمجال لست شغوفًا به، لمجرد اضطراري الدراسة فيه لمدة عام كامل. كنت وقتها مفتونًا بالعمارة والمباني والتصميم، وباكتشاف إمكانات تنظيم الفراغات. لهذا أشكر الله الذي وفقني لإدراك أهمية التراجع عن المسار الإجباري، ودفع ثمن العودة إلى المسار الأصلي الذي يوافق تكويني وخصائصي ونهمي، ويساعدني فيما أعتقد أنه رسالتي في الحياة».

وليد عرفة مع شهاب طارق بمدينة كازان الروسية.. الصورة من المحرر
وليد عرفة مع شهاب طارق بمدينة كازان الروسية.. الصورة من المحرر
طوق نجاة

لم ير وليد نفسه تابعا لآراء فلسفية محددة تخص العمارة وأساليب البناء، بل أراد خلال تلك الفترة تعميق معارفه.

يقول: «علقت أحكامي المسبقة، أردت وقتها التعرف على العمارة بجميع مدارسها. نحيت الأحكام المسبقة جانبًا وبدأت ألتهم ما يمكن التهامه من المعرفة. مثلًا سألت نفسي سؤالًا: كيف تفكر كل مدرسة من مدارس العمارة المختلفة؟ أصحاب النهج الحداثي في مقابل غيرهم، على سبيل المثال، معماريو الحقبة المملوكية؟ ولماذا خرجت العمارة القبطية في حقبة ما بهذه الصورة؟ أردت التعرف والتبحر في كيفية تحويل المعاني غير ملموسة إلى فراغ ملموس، بشكل مجرد وبغض النظر عن الانتماء إلى فلسفة أو فكرة بعينها. لذلك لم أشغل نفسي بالانحياز إلى مدرسة فلسفية معينة أو أسلوب معماري بعينه في ذلك الوقت».

ويضيف: «كان عمري عندما تخرجت من الكلية 23 عامًا فقط، وشغلتني دائمًا خطورة أن يرث الإنسان من آبائه توجهًا معينًا بشكل يفتقد النقد. أتذكر أنني في سن العاشرة سألت والدي: الآباء دائمًا يحبون أولادهم، فمثلًا أنت كمسلم ترى أن الإسلام طوق النجاة، ويرى الآباء من غير دينك أن ما تراه أنت باطلًا هو طوق نجاة لهم ولأبنائهم، وهم قطعا مخلصون في ذلك الاعتقاد.فهل محبة كل أب لولده ليست ضامنًا حقيقيًا للنجاة أو لصحة نصحه وإرشاده لولده؟ لأنه لا يعقل أن يلقي أب بأولاده في النار».

وكان رده: «تساؤلك في محله، وهذا هو معنى التكليف في الإسلام، الأمر الذي يلزمك بالبحث الجاد والوصول لمعتقد ما، لا أن ترثه مني أو من غيري». ونصحني بالاطلاع على مكتبته التي كانت تضم نسخًا من العهدين القديم والجديد، ومئات الكتب الأخرى، حتى يتسنى لي البحث والاختيار عما أريده من معتقد. وهنا بدأت رحلة البحث رغبة في الإجابة عن أسئلتي، تلك التي يسميها الفلاسفة الأسئلة العشرة الكبرى. أدركت أن الإنسان لم يأتي للعالم كي يأكل ويشرب ويمارس احتياجاته وشهواته وصولًا للحظة الوفاة، بل كنت مقتنعًا أن اكتشاف الحقيقة هو لب المسألة وحقيقتها.

جوهر الحياة

يكمل: «بدأت النظر في الأديان والفلسفات والأيديولوجيات والعقائد المختلفة، وعددت الإيجابيات والسلبيات لكل حضارة على حدة. مثلًا، لو أن فلسفة ما ازدهرت لصالح 5% فقط من سكان الكوكب ولم تصلح للغالبية العظمى، فهذه فلسفة غير مكتملة. مثال ذلك فلسفة الحداثة التي يروج لها الرجل الأبيض الأوروبي. ومن هنا توصلت إلى موقف معرفي ووجودي معين -ربما يتطور بعد ذلك- وأردت تطبيق ذلك على ممارساتي المعمارية؛ إيمانا بأن التطبيقات العملية البحتة لا يمكن أن تنفك عن الفلسفات المنتجة لها، ولو كان مجال البحث والتطبيق واحدا.

خذ مثلًا فكرة الذرة في الفيزياء، فهي فكرة مجردة لا تعرف الشر أو الخير، فالانشطار أو الاندماج الذري يولد طاقة هائلة يمكن من خلالها إنارة قارة كإفريقيا، أو إبادة مجتمعات كما حدث في هيروشيما ونجازاكي في اليابان. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على العمارة، فالمعماري يجب أن يعي مآلات أفكاره وتطبيقاتها على أرض الواقع، وأن يدرك أن كل مشروع هو فرصة للانحياز الواعي إلى طاقة الإعمار الإيجابية أو طاقة التدمير السلبية».

حاول وليد تطويع هذه الفلسفة في المباني التي أنتجها، إذ عبر عن تلك الأفكار بواسطة العمارة، وتنظيم الفراغ لخدمة المعنى، والجماليات والرمزيات.

يقول: «يجب دراسة مواد البناء، والنظم الإنشائية المحتملة وتأثيراتها البيئية والجمالية في سياق ما، لكي لا تتحول المهنة إلى فرصة للتكسب المادي الضيق بغض النظر عن الالتزام بالمُثل والقيم. وهو ما نرى سلبياته بوضوح، في ضوء حقيقة أن الإنشاء في عصرنا الحاضر هو أحد أكبر الصناعات الملوثة على الكوكب. والعاقل هو من سيبذل قصارى جهده، في حدود قدراته لعدم المشاركة في هذه المهزلة؛ لذلك أريد أن أكون من هؤلاء العقلاء».

اعتقادات سائدة

درس وليد ما قدمه لو كوربوزييه، وفرانك لويد رايت وغيرهما من معماريي الغرب، لكنه في المقابل توسع أيضًا في دراسة ما أنتجه المعماريون داخل البلدان الإسلامية، كقبة الصخرة، ومدرسة السلطان حسن وغيرها من المباني العظيمة.

يقول: «لكي أقدم الجديد، عليّ فهم المعمار القديم الذي أنتجه البشر، خاصة المعمار الذي خرج من محيطنا الجغرافي. هي أمور أساسية وليست بالرفاهية بالنسبة إليَّ، لأن المعماري يجب عليه الاطلاع على تجارب من سبقوه. أرى أن هناك نقصًا في تاريخ التعليم المعماري، الذي لا يتم تدريسه في الجامعات، فمثلًا، تاريخ العمارة والفن الإسلامي أسسه مجموعة من المستشرقين. وهنا أجد الكثير من العيوب حول طريقة فهمهم للمسألة، لأن لديهم إصرارا على الفصل بين المصادر المعرفية الروحية وبين التعبير المعماري عنها، وهو أمر غريب بالنسبة إليَّ.

حين يتحدثون مثلًا عن تطور نمط العمارة أو عناصرها، فهم عادة ما يبررون ويفسرون أنها عملية تقنية بحتة؛ أي أنها منفصلة تمامًا عن الفلسفات والأفكار، والاعتقادات السائدة، وهي أمور أجد أنها غير منطقية، وتكاد تكون مستحيلة. هذا ليس دعوة لعدم الاهتمام بفهم تحليلات المستشرقين وأبحاثهم، ولكنها دعوة لفهم أوجه القصور في هذا المجال الحيوي لتجاوز نقائصه بشكل يسمح له بأداء دوره المطلوب وبشدة».

يركز وليد على التصميم والإنشاء، ورغم دراسته علم الحفاظ على المباني التاريخية، إلا أنه لم يمارس الترميم إلى الآن.

يشرح المسألة قائلا: «الحفاظ على القديم أمر مهم، ولدينا من المتخصصين في هذا المجال في مصر الكثير من الخبراء. لكن يجب أن لا ننسى، إلى جانب الحفاظ على القديم أن ننتج حديثا له قيمة تجعل الأجيال القادمة تراه مستحقا للحفاظ عليه والاحتفاء به حين يصير قديما بمرور الزمن. أحب التصميم والإنشاء، وأحاول جاهدا أن أكون أحد هؤلاء الذين ينتجون عمارة جيدة تخص عصرنا الحالي، لكنني أضع في اعتباري استمرارية منهجية تفكير المعماريين الذين سبقونا، سواء كانوا ينتمون للحقبة الأيوبية، أو الفاطمية، أو المملوكية، أو غيرها من الحقب.

هؤلاء مثلًا لم يحافظوا فقط على المباني القديمة، بل أنتجوا مباني جديدة. وهذا يحيلنا لفكرة استمرارية إسهاماتهم بتصميمات جديدة ومباني تخص عصرهم؛ لذلك أميل لفكرة التصميم وإنشاء الجديد، مع مراعاة أننا كمصريين وقاهريين نعمل بالقرب من أو أحيانا داخل سياق تاريخي متفق ونادر وهام جدًا».

وليد عرفة وناييري هامبيكيان خلال مرحلة الإعداد لمشروع درب اللبانة.. الصورة من المعماري
وليد عرفة وناييري هامبيكيان خلال مرحلة الإعداد لمشروع درب اللبانة.. الصورة من المعماري
فهم علاقة المباني

يضيف: «عندما كُلفنا بوضع تصميمات المبنى الواقع بالقرب من درب اللبانة، تعاملنا بشكل مختلف وراعينا السياق التاريخي للمنطقة. أردت أولًا الالتزام بالقوانين والخطوط العامة للتعامل مع نوعية هذه المشاريع داخل القاهرة. فواحدة من أهم خصائص القاهرة التاريخية هو النسيح العمراني المكون لها، وهذه المنطقة تضم مباني من كافة العصور والحقب التاريخية، وكان لا بد أن أتعامل مع الفراغ العام الموجود بعناية شديدة؛ مستعينا بالقوانين والتشريعات الفنية الحاكمة للقاهرة التاريخية، ومنها احترام خطوط الشوارع القديمة، والإيقاع العمراني، والارتفاعات، والأنشطة، مع إمكانية تمييز المبنى الجديد عن المباني التي أنتجتها العصور السابقة، مع ضرورة أن يعبر المبنى الجديد عنَّا اليوم».

وتابع: «هناك مبدأ مهم في عالم الحفاظ يتركز على فكرة تمييز المباني القديمة حسب عصرها، لكن مع ضرورة ألا يخرج العمل بصورة فجة، دورنا كمعماريين مراعاة التجربة الشعورية والبصرية الموجودة والمحيطة بالموقع، وهذا الأمر يتطلب الالتزام بالارتفاعات وفهم علاقة المبنى بالمباني التاريخية المجاورة، لكن ما يجب فهمه هو ضرورة أن يعبر المبنى الجديد عن القرن الـ21».

وعن الانتقاد الذي وجه للمشروع من البعض، يرى وليد أنه لم يكن في محله، بسبب عدم مطابقة غالبية الانتقادات للواقع أصلا. فقد اتهمه البعض مثلًا بالتعدي على خطوط التنظيم داخل المنطقة.

يقول: «قرأت كل ما تم كتابته على فيسبوك حول المشروع، ومن هذه الاقتراحات ما طرحه البعض حول ضرورة توسعة الشارع بهدف تحسين المرور داخل المنطقة! وهو أمر عجيب، لا يقوله عارف بالمنطقة التي تنتهي دروبها بشكل مسدود في النهاية، مثل درب اللبانة الذي له نهايتان، إحداهما عند سور بيمارستان المؤيد شيخ، والأخرى عند المنطقة المرتفعة التي تطل على مسجد الرفاعي وجوهر اللا. فهل هذا «النقد»؟ الذي لا يمكن لمن تفوه به أن يكون قد زار المكان ولو لمرة واحدة في عمره. فكيف يمكن أصلًا التعامل معه، وهل يمكن وضعه في خانة النقد؟»

ويضيف: «هذه الاقتراحات تعني عدم فهم لطبيعة المنطقة. ثم وجدنا المهندس طارق المري وقد استنفرته بعض هذه الآراء للنزول للمنطقة والتأكد من أننا لم نتعدَ على خط التنظيم، وكتب موضحًا الحقائق بشكل مهني ومحترف، ورغم هذا لم يعتذر معظم المنتقدين. الخلاصة أن غالبية الآراء استندت على معلومات مغلوطة بالكامل، ورغم أن المشروع يقع في قلب القاهرة، إلا أن أغلب من تحدثوا لم يهتموا بفهم الخرائط القديمة للمنطقة، وكذلك اشتراطات العمل داخلها. كان من ضمن الآراء مثلًا تحويل الموقع لحديقة، وهو أمر لا يمكن تطبيقه داخل المنطقة.

وبالمناسبة، أنا متفهم أسباب تخوف الناس وتعاملهم بشكل متشكك مع المشروع، وهذا أمر يرجع لتكرار التعامل مع المباني التاريخية داخل القاهرة بصورة خاطئة، فهناك مواقف سحبت ثقة الإنسان المصري عمومًا والإنسان المصري المتخصص خصوصًا، وهذه الأمور خلقت نوعًا من الارتياب لدى الكثيرين؛ لكن خلط الأوراق والتسرع وعدم التحقق من طبيعة المشروع لا يصب في صالح الارتقاء بجودة الأعمال في القاهرة التاريخية، بل ينفر المهنيين من قبول المشروعات وهذا وضع غير إيجابي. في النهاية ، أعتبر التجربة مفيدة بالنسبة لي، ومن فوائدها أهمية إتاحة فرص عرض الأفكار والأعمال على المجتمع الأوسع، وليس فقط أهل المنطقة لعرض الحقائق قبل البدء في المشروعات المماثلة، إعلانا لقيم الشفافية والمشاركة المجتمعية، بشرط وجود معايير واضحة للنقاش العلمي الرصين».

غياب التأثير

يكمل: «أعتبر أن ممارستي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياق المحيط بها، فلا أرتبط بشكل معين أو أسلوب، بل أرتبط بفكرة احترام السياق العام للأماكن التي أعمل بها والاستنباط منها. وإجمالًا، أحب خدمة العمارة المصرية، لأنها مصر هي منبع العمارة كما يفهمها ويعيها ويمارسها العالم إلى يومنا هذا، لكنها تعيش حاليًا لحظة ضعف؛ لذلك أتمنى أن نستعيد دورنا في هذا العلم، لأن العمارة المصرية الآن بـ«عافية».

ويستطرد: «العمارة في العموم هي انعكاس ومرآة للثقافة والحضارة. نحن لدينا فكر وهذا الفكر نشاهده في شكل العمارة، بينما في المقابل عندما يعيش المجتمع انحطاطًا على المستوى الثقافي فهذا ينعكس أيضًا على الواقع. نحن لدينا مثقفين، لكن لم يعودوا بنفس التأثير الذي تركه مثقفونا منذ مائة عام مضت. فعلى سبيل المثال، نجد أن ضريح الزعيم مصطفى كامل كان يحمل فكر وتوجه معين. وقد جرى تشييده من خلال التركيز على العمارة الإسلامية الحديثة. بينما ضريح سعد زغلول تم استلهامه من الحضارة المصرية القديمة، وهذا أمر يعبر عن الفكر القطري الذي كان يعبر عن رؤية أخرى في نفس المجتمع في هذه الفترة. وهي أمور أيضًا تعبر عن سؤال الهوية الذي طرحه المجتمع في تلك المرحلة، وهو ما انعكس على اللغة المعمارية الناتج عن الثراء المعرفي الذي خفت وجوده اليوم. بينما الآن فنحن كمصريين لم نعد نعرف من نحن».

العمارة الحالية والمكاسب

يقول وليد: «نحن لدينا الآن نوع من التشتت، بينما الواقع يقول إنه من الممكن استلهام الماضي مثلما حدث مثلًا مع جامع الرفاعي، وجمعية الشبان المسلمين، ونقابة الأطباء، والبيوت والعمارة التي نراها في منطقة عابدين مثلا، فهذه الاتجاهات انعكست على العمارة وأنتجت عمارة جيدة في آن واحد. فالعمارة حاليًا لم تعد تحركها الثقافة بل ما يحركها هو المكاسب المادية البحتة، لذلك أتمنى في السنوات المقبلة، إنشاء مدرسة معمارية وإتباع منهج مختلف أملًا في بناء مدارك معرفية مختلفة.

كما أن التعليم المعماري المصري حاليًا يواجه مشكلة خطيرة نظرًا لتقليصه من خمس سنوات لأربع سنوات فقط، وهو أمر لن يخدم الممارسة المعمارية، لأن الطالب في فترة الخمس سنوات يلتقط فقط أجزاء بسيطة من المهنة. «في هذه المدة نتعلم فقط الأجزاء الخاصة بالهندسة، ولا نتعلم العمارة، نحن لدينا نقص شديد في تدريس العلوم الإنسانية، وهذا ما نحتاجه، في العمارة وليس العمارة من ناحية مثلاً إن إحنا عندنا نقص حد في تدريس العلوم الإنسانية والتاريخية وهي نقطة مهمة للبناء عليها، وهذا سبب من أسباب عدم تفكيري في العمل الأكاديمي بشكله الحالي».

على الجانب الآخر يرى وليد أن العمارة ليس من المفترض أن تتطور وفقًا لطلبات الشركات بشكل حصري، والتي لا تهتم أساسا بالعمارة بقدر ما يهمها الكسب المادي فقط.

يقول: «ما يهم الشركات هو رأس المال، بينما من المفترض أن يقوم الممارس بإقناع الرأسمالي، أن من مصلحته على المدى الطويل الالتزام أخلاقيًا وبيئيًا وبشكل متوازن مع الكسب الاقتصادي المشروع والمتزن».

تحقيق الخصوصية

في عام 2000، وصل مشروع وليد المسمى بـ«دار عرفة» للقائمة الطويلة من جائزة الآغا خان للعمارة. إذ أراد والده أن ينفذ وليد بيتًا للعائلة.

يقول عنه: «كل ما أردته وقتها خدمة الهدف الأساسي والفكرة. فوالدي قرر تكليفي ببناء منزل للعائلة من تحويشة عمره، وهنا راعيت المواصفات والمحددات الاقتصادية، والقانونية المتعلقة بقوانين البناء، لتحقيق ما يتمناه الوالد بأقل تكلفة مالية ممكنة. وبدأت أترجم البديهيات التي تعلمتها في مجال العمارة ملموس فعلي على الأرض.

ركزت مثلًا على الأداء البيئي الممتاز للمنزل، وكذلك الترجمة الفلسفية لمعيشة والدي وأسرتي في شكل مرئي. لم أرد مثلًا أن يكون المنزل عبارة عن تشكيل فقط، بل أردت أن يؤدي لجوهر المعنى، من خلال الكفاءة البيئية والوظيفية والبصرية. وضعت في ذهني مثلًا أن صاحب المنزل له ارتباط وثيق بالقيم الإسلامية والصعيدية؛ كالخصوصية والترحاب وتناغم الداخل مع الخارج واتساق كل ذلك مع المزروعات».

مسجد باصونة في سوهاح.. أرشيف باب مصر
مسجد باصونة في سوهاح.. أرشيف باب مصر

في عام 2018، أتم وليد عرفة تصميم وإنشاء مسجد باصونة بسوهاج، وهو المشروع الذي لاقى استحسانًا كبيرًا على المستوى العالمي، إذ تلقى دعوة وقتها من الشيخ أسامة الأزهري، وزير الأوقاف المصري الحالي، لتصميم المسجد. أراد وليد الاجتهاد في إخراج لغة معمارية معاصرة. وفي سبيل ذلك، قام باستخدام مواد مستدامة مثل الحجر الرملي الجيري والطوب العازل. نال المسجد جائزة «ستون أووردز»، وفاز بجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد، وتم ترشيحه كذلك لجائزة الآغا خان للعمارة، حتى وصل عدد الجوائز والتكريمات التي حصل عليها المسجد إلى حوالي 20جائزة من كل أنحاء العالم.

يقول وليد: «كلفني أخي وصديقي وأستاذي أسامة الأزهري، في عام 2015، قبل أن يصبح وزيرًا للأوقاف المصرية، بهذا المشروع الذي تكفل بتوفير تمويله من مصادره الخاصة. نحن نتشارك سويًا الكثير من القيم، فهو شيخي وتعلمت الكثير على يديه، ونتفق أيضًا في طريقة فهمنا للعالم، التي يدعمني في تطبيقها من خلال العمارة. وقد منحني مطلق الحرية في تصميم وتنفيذ المسجد، وأرى أن دعمه الهائل هو أهم أسباب تمكني من إنشاء المسجد بشكل مطابق للرؤية التصميمية بنسبة لم أبلغها في أي مشروع آخر حتى الآن».

تحديات

خلال عمله على المسجد، واجه وليد العديد من التحديات، منها مثلًا مساحة المسجد الصغيرة، وهو ما دفعه لتحقيق العشرات من القيم داخل المبنى.

يقول: «فكرة المسجد معقدة جدًا وفي نفس الوقت بسيطة جدًا. فقد مرَّ علينا 14 قرنًا وقد أنتج العالم ملايين من المحاولات لبناء المساجد من الصين شرقًا إلى إسبانيا غربًا، ومن روسيا شمالًا إلى جنوب إفريقيا جنوبًا؛ مما يجعل مسألة التجديد في هذا النوع من المباني تحديا كبيرا ومهما وضروريا. وكان المدخل هو محاولة فهم كل التراكم التاريخي لمبنى المسجد، وكذلك التراكم التاريخي للعمارة في سوهاج، لاستخلاص القيم المطلقة. ولا ننسى أن سوهاج تعد من أوائل التجمعات العمرانية داخل مصر والعالم، وبالتالي فالبحث عن الاستمرارية على هذا المدى التاريخي الطويل يعد مدخلا تصميميا مهما ومثيرا».

وعن علاقة مسجد باصونة بمشروعه التالي في باريس، يقول:

«لا يجب أن يكون مسجد باصونة مثل “بيت مصر في باريس” لأن كليهما تم تنفيذه في مناخ وسياق مختلف عن الآخر». وتابع: «السياق والبيئة في باريس تختلف كثيرا، حيث جرى تنفيذ المشروع في منطقة المدينة الجامعية الدولية، وهذا يعني أن كل دولة لا بد أن تعبر عن رسالتها الخاصة.

هذا البيت كان مخصصًا له أن يكون على ارتفاع 9 طوابق بميزانية تعددت الـ20 مليون يورو، بينما مسجد باصونة أقيم على أرض لا تتعدى الـ450 مترًا. لذلك لم يكن من المنطقي تكرار النمط البنائي في المشروعين. لهذا أؤمن دائمًا أن المعماري عليه ألا يكرر حلوله المباشرة، لكن قد يحافظ على منهجية التفكير، ووضع الاعتبارات اللازمة للسياق الذي يعمل فيه، هذا السياق ليس جغرافيًا فقط، بل سياق تاريخي، وثقافي، وعقائدي، وبيئي، واقتصادي».

غياب النقد المعماري

يرى وليد أن مايتم طرحه باعتباره نقدا للعمارة في مصر غير جدير بهذا الوصف. قائلا: «هذا أمر سلبي، لأن النقد الموضوعي أمر حيوي ومطلوب جدا. ببساطة، لا يوجد عمل بشري يمكن أن يصل للكمال. الغرض من النقد لا بد أن يكون إيجابيًا، من خلال الإشارة الواضحة إلى المعايير المتفق عليها لتقويم عمل ما، ثم نقد العمل وفقا لهذه المعايير بعد دراسته جيدًا ومعرفة ظروف كل مشروع بشكل يحقق معرفة سليمة بالعمل. ثم إتباع أفضل أساليب توصيل وجهة النظر في العمل لكي نساعد المخطئ على إدراك خطأه ونبرز للمقصر أوجه قصوره وبالتالي كيفية تداركها مع التجرد والتنزه عن الأغراض والمصالح الشخصية.

لهذا أرى أن النقاد حاليًا لا يهتمون بالموضوعية أو المخرجات الإيجابية لكلامهم، بل يتحول همهم إلى التفنن في الحط من شغل الآخرين ولو استدعى هذا الحط الحاجة إلى تزييف الحقائق أو اجتزائها. وفي ظل غياب النقد الحقيقي، يضطر الممارس إلى تقويم أعماله ذاتيًا، وهذا أمر أصعب ولكنه واجب وله أدواته من مثل دراسات ما بعد الاستعمال. فقد ذهبت منذ فترة إلى باريس لتقويم مشروع «بيت مصر في باريس»- وهو مشروع يستهدف بناء مبنى للطلبة الجامعيين- وبعد قرابة الثمانية أشهر من تواجد الطلبة داخله، جلست معهم لمدة أسبوع كامل وسألتهم عن المشروع، واستعمالاته بالنسبة إليه، حتى نتأكد من أن مجموعة الافتراضات التي عملنا عليها خلال وضع التصميم، كانت على درجة من النجاح، وفهم لاستخدامات المستعمل».

ويضيف: «وجدنا مثلًا أغلب الانطباعات جيدة لكنهم اشتكوا من ارتفاع درجة الحرارة في بعض الغرف العلوية المطلة على صحن المبنى خصوصًا في فصل الصيف، نتيجة عدم فتح بعض النوافذ التي صممت لهذا الغرض، وذلك لأمور متعلقة بلوائح تشغيل المبنى حسب قوانين البناء الفرنسية، وقد أوصينا إدارة المبنى بمحاولة تغيير هذا الأمر الإداري. وفي المستقبل سنقوم بجولة أخرى للوقوف على آراء الطلبة ممن استعملوا المنزل».

عبء ثقيل

رغم نجاح المشاريع التي قدمها «عرفة» والاحتفاء بها على نطاق واسع، إلا أنها خلقت بمرور الوقت عبء ثقيلًا عليه.

يقول: «أصبحت أتفهم فكرة العبء والمسؤولية، لأن الناس والمجتمع المهني أصبحوا ينظرون إليك كموضع مسؤولية أو باعتبارك نموذج «ناجح». لكن من ناحية ثانية أرى أن مثل هذه الأعباء تجعلنا محملين بمسؤولية العمل الجاد المستمر في أي من المشاريع المستقبلية. وهذا الاعتقاد يأتي من فكرة التوكل على الله، وهذا هو لب وجوهر الفن والعمارة الإسلامية، فهذا النور الذي ينسبه البعض لأي معماري، نسبته الحقيقية -إن صح- نور الله ونور المعرفة، ونور الفهم الذي يجب الحفاظ عليه من خلال الالتزام بالمعايير الأخلاقية للمهنة».

وخلال الفترة الحالية، يعمل وليد على تصميم وإنشاء مبنى إداري وتعليمي في مدينة أسوان لصالح منظمة عالمية – لم يفصح عن اسمها –  يركز فيه على الأداء البيئي والاقتصادي والجمالي. أخيرًا سألناه: كثيرون يطلقون عليك لقب «المعماري النجم».. هل يزعجك اللقب؟ ورد: “لا يضايقني، وإذا كانوا يقولونها مدحًا فأنا أعتبرها محبة، وإن كنت لا أعتقد بالنجومية لأي إنسان، وإنما هو توفيق الله يجعله في ركاب من يشاء”.

اقرأ أيضا:

المهندس وليد عرفة: مسجد «باصونة» مجرد بداية.. و«أمحوتب» من أساتذتي

الآثار ترفض «شطب» قصر عبد المجيد باشا بملوي.. ماذا حدث؟

قصر عبدالمجيد باشا.. من سكن البشوات إلى مخزن سجاد

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.