بسمة جاهين تكتب: شبح بنت اسمها «مواهب»

تجلس فتاة في السادسة عشر من عمرها على مكتبها الجديد، في بيجامتها الحريرية الوردية التي اشترتها مؤخرا على آخر صيحات الموضة من محل شيكوريل بمحطة مصر. بينما تملأ رائحة دهان المكتب الغرفة. الرائحة التي لم تنجح “سيدة” التي تهتم بشؤون المنزل في التخلص منها حتى بعد دهن المكتب بزيت الليمون، وملء زهريتي الغرفة بورود جديدة. ولكن هذا لم يزعج الفتاة أبدًا، فالمكتب هدية أبيها، تهنئة لها لحصولها على التوجيهية والالتحاق بكلية الهندسة.

تتأمل في سقف الغرفة وهي جالسة على مقعدها الخشبي المطعم بنقوش ذهبية. بينما يهب هواء صيفي لطيف يخفف من رطوبة شهر أغسطس. يخفق قلبها لفكرة كتابة مجموعة قصصية ثانية قبل أن تبدأ الدراسة: سيميزها هذا بكل تأكيد بين زملائها الجدد. كما سيجعل أباها أكثر فخرًا بها. فهي تمتلك القلم والمسطرة. تهمس بسحر: “المهندسة الأديبة”. ثم تخرج بعض الورقات من درج المكتب، وتمسك القلم الحبر الجديد، الهدية الأخرى من أبيها، وتبدأ في كتابة عنوان أول قصة تأتي في بالها: دعاء أم.

مواهب كما قدمتها جريدة الجمهورية
مواهب كما قدمتها جريدة الجمهورية
**

ربما حدث هذا المشهد بتفاصيله المخملية، وربما لم يحدث، ولكن كالمثل الدارج: مافيش دخان من غير نار، نستطيع أن نبني عددًا من التخيلات بناء على ما هو بين أيادينا: ففي عام (1964) أصدرت فتاة في الخامسة عشر تدعى “مواهب صدقي ربيع” أول مجموعة قصصية لها بعنوان “إنه القدر”. مما جعل جريدة الجمهورية تنشر خبرا صغيرا بعنوان: أصغر قصصية بالعالم العربي، وهو الخبر الذي جعل “مواهب” تشعر بالانتشاء، فضمنته فخورة في مقدمة مجموعتها الثانية “دعاء أم” بالسنة التالية.

كيف جاءت “مواهب” إليّ؟ أكتشف “مواهب”- أثناء محاولتي للكتابة عن الكاتبات السكندريات في ستينيات القرن العشرين- مخبأة في كتاب “الكاتبات العربيات”. تأليف عدد من الباحثين. وتحرير رضوى عاشور وفريال غزول وحسناء رضا مكداشي. أجلس ليوم أدقق النظر في الفهرس بالخلفية، لأدون عددا من الأسماء منهن اسم “مواهب”. لا يذكر الفهرس إذا كانت سكندرية أم لا. ولكنه يذكر أن الكتابين اللذين أصدرتهما في بدايتها نُشرا من دور سكندرية. لذلك وضعت نجمة بجوار اسمها، تذكيرا لنفسي أنها ربما تكون بعيدة عن موضوع بحثي.

ألجأ في بداية بحثي عن الأسماء التي استخرجتها إلى الشبكة العنكبوتية، بالرغم من يأسي منها، فمنذ عام مضى عندما كنت أبحث عن بعض الأسماء الشهيرة لكاتبات مصريات، مثل “صوفي عبدالله” غزيرة الإنتاج أو “سعاد زهير” التي هزت مشاعر الوسط الأدبي بروايتها “اعترافات امرأة مسترجلة” عام (1960). خذلتني الشبكة في الوصول إلى أي نماذج من أعمالهن، اللهم إلا قصتين في مقالة عن “صوفي عبدالله” في مدونة ذاكرة القصة القصيرة. أبحث عن كل كاتبة على النت، فأجد معلومات قليلة عن إحداهن، وظلاما تاما حول الأخرى. أتوقف يائسة قبل البحث عن اسم “مواهب”، ولكن حتى لا أشعر بالذنب، أكتب اسمها على محرك البحث. لأجد أن لها كتابا متاحا أونلاين: “دعاء أم”، وكتابا آخر مسجلا على موقع الجودريدز: الزجاجة الفارغة. أتعجب من هذا. من الذي رفع كتابها؟ وأين وجده؟

**

حملت المجموعة على هاتفي، وبدأت بقراءتها. وعلى عكس المعلومات في الفهرس في كتاب “الكاتبات العربيات”، والتي تخبرنا أن مجموعتها “دعاء أم” هي مجموعتها الأولى وصدرت عام (1964). يخبرنا الخبر بجريدة الجمهورية أن “دعاء أم” هي مجموعتها الثانية. كما تخبرنا “مواهب” أيضا في المقدمة بنفس المعلومة. لا يكتفي الخبر بهذا، بل يمدنا بعدد من المعلومات. مثل: إنها في السادسة عشر عام (1965)- يعني هذا أنها مواليد 1948 أو 1949- وأنها طالبة بالسنة الأولى بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية. وأن “جمال توكل”- وهو من أشهر المذيعين بإذاعة الإسكندرية بالستينات- هو من اكتشفها وقدم عددا من قصصها في برنامجه الشهير “نادي المستمعين”. وأن “مواهب” استغلت المال الذي ادخرته لفترة في حصالتها حتى تستطيع أن تطبع المجموعة على حسابها الخاص.

تتكون المجموعة الصادرة من الدار السكندرية “لوران للطباعة والنشر” من عشر قصص: دعاء أم، كلام الناس، أبو العيال، حي الأموات، الحشاش، ليلة ممطرة، الجمجمة، حب بالمراسلة، التوأمان، حب الرمان. تدور القصص عامة حول شخصيات مسالمة تقع دائما في مواقف تتنوع شدتها ما بين الطرافة إلى المأساة. ولكن بتمسكها بقيم الشرف تعبر وتخرج سالمة. تهندس “مواهب” قصصها التي تشبه الاسكتشات الكوميدية بلغة بسيطة، وبخفة ولطف في قص الأحداث. بالإضافة إلى النبرة الوعظية الإرشادية المغلفة بروح طفولية. والتي استخدمتها كشوكة لتمسك القصة ببعضها، وهو ما بررته مواهب من قبل في مقدمة مجموعتها الأولى “إنه القدر”:

“أرجو أن يغفر لي الكبار قلة تجاربي.. نعم إنها تجارب قليلة يمكن أن تمر بفتاة لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها. ولكنها تجارب تمكني من أن أعبر عما أريد.. وتمكن القارئ من أن يفهم ما اكتب.. أن هذه القصص تتناول الكبار.. ولكنها تتناولهم بمفاهيمنا نحن الصغار.”

**

تتنوع الأماكن التي تدور بها القصص، من حي العطارين بالإسكندرية إلى مدينة دمنهور إلى قرية قحافة بطنطا إلى القاهرة. وحتى إلى لبنان، وتدور غالبا حول الطبقة المتوسطة بمختلف تدرجاتها. تتسيد الشخصيات الذكورية المشهد غالبا في القصص، مثل قصة “كلام الناس”: الأب الذي يخاف على أهل بيته من أن يطالهم حديث سوء. فيفعل ما بوسعه حتى يتحاشى ذلك. وقصة “التوأمان”: وهما عن أخين يتشاجران دائما، فيقوم أحدهما بعمل مقلب طريف في الأخر. و”الجمجمة”: عن صديقين في كلية الطب يتشاجران بسبب شرعية امتلاك جمجمة. و”حب الرمان”: وهي عن طفل صغير يبكي لأن الدجاجة أكلت حبات الرمان التي أخبره أبوه أنها تدخل من يأكلها الجنة. ويتساءل الطفل ببراءة: ماذا ستفعل الدجاجة في الجنة إذا دخلتها!

قصتان فقط عن النساء، وربطت فيهما النساء بالحزن والهجر والموت. قصة “دعاء أم”: تدور حول أم مكلومة في ابنها المتوفى، تدعو لابنتها بالذرية الصالحة. ولها بالحج والموت بالقرب من قبر الرسول، ويتحقق كل ما تدعو به. والقصة الأخرى هي “حي الأموات”: عن زوجة تفقد زوجها. فتذهب إلى قبره يوميا، حتى يهجرها أهلها غضبا منها، ثم تقبل الزواج من الحانوتي الذي يحيا بالمقابر.

هناك أيضا قصة عجيبة، وهي قصة “حب بالمراسلة”. عن فتاة تدعي أنها فتى لكي تراسل فتاة. هذه الفتاة التي نكتشف أنها فتى في النهاية، قصة أشبه بالمثل: شباكنا في مطبخ أنور، وشباك أنور في مطبخنا. المهم أن الفتى الذي كان يدعي أنه فتاة عندما عرف أن الذي يراسله ليس فتى ولكن فتاة، قرر أن يقطع العلاقة والجوابات!

**

اكتشف في المجموعة المتاحة أونلاين معلومتين مهمتين، الأولى أن الكتاب مسجل في “مكتبة جامعة برنستون”، الجامعة الأمريكية الشهيرة. أتساءل عن كيفية وصول كتابها إلى المكتبة الشهيرة. وعما إذا كانت معروفة في الخارج ومجهولة لدينا مثل “أليفة رفعت”. ترتفع آمالي بفكرة أنني ربما أجد بحثا ما عنها، فأجرب كتابة اسمها بالإنجليزية. ولكن الآمال المرتفعة تتلاشى، ولا أستطيع إيجاد ذكر لها أيًا كان، فأقرر إرسال إيميل للمكتبة لأسأل عن أي معلومات متاحة عن “مواهب”، وإيميل آخر إلى موقع “نور”- الموقع الذي وجدت عليه الكتاب- لأسأل كيف حصل على الكتاب.

أستلم رسالة من مكتبة برنستون بعد يومين من سيدة تدعى “كارول”، تخبرني أن المكتبة لا معلومات لديها عن مواهب. ولكنها تضيف أن كتبها الثلاثة بالمكتبة. وإذا أردت، يمكنني أن أقرأهم في أقرب مكتبة محلية لي من خلال نظام استعارة مكتبي مشترك بين المكتبات. لا يأتيني رد بالطبع من موقع “نور”. ولكني أجد تحديثًا على صفحة الكتاب يقول إن الكتاب مصدره موقع “المجموعات العربية على الإنترنت”. أذهب إلى الموقع لأجد أن الكتاب متاح أونلاين من خلال مكتبة جامعة برنستون!

**

المعلومة الثانية التي وجدتها في الكتاب هي عنوان مطبعة لوران: 42 شارع صلاح الدين. أعلم جيدا أن فرصة استمرار مطبعة من الستينات في العمل حتى الآن ضئيلة وتكاد تكون معدمة، ولكني أقرر الذهاب لاستكشاف المكان. يخبرني “الجي بي أس” أن شارع صلاح الدين برأس التين، ولكن بعد السؤال أجد الشارع في العطارين. أمشي بالشارع القديم، وأنا أنظر للمباني القديمة، واليفط المعلقة المنسية، فأكتشف مطابع كثيرة بهذا المكان؛ منها رمسيس ورفاعي.

أصل إلى المبنى بعد سؤال، مبنى قديم جدًا، على بوابته وجه منحوت لرجل، سلالمه رخام، وسوره حديد وحوائطه مدهونة باللون الأصفر، وبها كثير من التقشعات والتشققات. بأسفل المبنى يوجد محل للسمكرة، أدخل للسؤال خاصة بعد سماع صوت التلفاز، ولكن لا يوجد أحد بالداخل، فأصعد السلالم، الشقق تبدو مسكونة بعائلات قديمة، حتى أصل للدور الثالث، فأجد شقة مكتوب على بابها “welcome”، أشعر أن هذه الشقة ربما كانت المطبعة قديما. أدخل الشقة وأدق على الباب المفتوح، ولكن لم يكن هناك أحد بالداخل أيضًا، هناك بعض ماكينات الخياطة ومانيكانات وحقائب جلدية تبدو أصلية. أنزل للأسفل وأخرج من المبنى، أسأل بالجوار عن مطبعة لوران، ولكن لا أحد يعرفها، خاصة أن كثيرا من المحيطين شباب صغار بالسن، يقترح البعض أسامي مطابع أخرى، فأذهب للتجول بالشارع القديم.

**

أعود بعد أيام لكي أبحث عن “مواهب” على الإنترنت مجددا، اسمها الغريب يجعلني أتساءل هل لها علاقة “بمحمد أحمد ربيع” صاحب محلات الفول والفلافل الشهير، أم أنه تشابه أسماء. لم يخذلني محرك البحث، فوجدت على نفس الموقع الذي وجدت عليه كتابها “دعاء أم”، كتاب لرجل يدعى “صدقي ربيع” بعنوان “المراكب في مصر القديمة” صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام (1992). تشابه الأسماء جعلني أُحمِّل الكتاب، لأكتشف أنه بالفعل والدها، وقد أهدى لها مقدمة الكتاب.

“إلى كريمتي المهندسة مواهب، التي هجرت الكتابة بعد أن كتبت ثلاثة كتب؛ (إنه القدر)، (دعاء أم)، (الزجاجة الفارغة)، وهي لم تبلغ التاسعة عشر عاما بعد، لتكون ربة بيت بدلا من أن تكون ربة قلم. وفقها الله وأعانها على تربية أولادها، وجعلهم الله من المؤمنين الصالحين السعداء.”

أحاول الوصول لأي معلومات عن الأب “صدقي ربيع”، فأسأل عددا من أساتذتي، ولكنه غير معروف. أعود لقراءة المعلومات البسيطة الموجودة على النت؛ له عدد من الكتب على موقع الهيئة العامة للكتاب، موجودة في قسم الهندسة المائية. ربما كان مهندسًا مائيًا، وربما يبرر هذا السبب وراء دراسة “مواهب” الهندسة. أجد له كتابا في الهيئة بعنوان “السد العالي”، أذهب إلى الهيئة لشرائه، لعله يفيدني بشيء.

غلاف كتاب والدها
غلاف كتاب والدها
**

نُشر كتاب “السد العالي: إحدى معجزات القرن العشرين” “لصدقي ربيع” في الدار القومية للطباعة والنشر. وأعيد نشره مجددا العام الماضي (2021) في الهيئة العامة للكتاب. تثير الدار القومية فضولي منذ مدة، منذ أن وجدت رواية من الستينات بعنوان “أشجان” لكاتبة مجهولة أخرى اسمها “ناهد عيد”. حاولت وقتها أن أبحث عن أي معلومة عن الدار ربما أصل للكاتبة، ولكني لم أجد طريقا لها.

تقف الدار القومية أمامي مرة أخرى. نشر الأب والابنة بها كتبًا لهما. أبحث مجددا عن الدار غير آملة، ولكني وجدت شيء آخر. ففي مقالة بجريدة البلد عن مراحل تشكيل الهيئة العامة للكتاب، أن الهيئة العامة للكتاب تأسست عام (1961). وكانت تسمى “الهيئة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر والتوزيع والطباعة. ثم حدث “اتحاد” لمجموعة دور نشر ومطابع موجودة بالفعل وتطورت “الهيئة المصرية” إلى “المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر”. وفي اعتقادي أن الدار القومية كانت واحدة من الدور والمطابع التي انضمت لهذا الاتحاد، ببساطة لأن رواية “أشجان” التي بين يدي مدون عليها “المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر”.

أذهب إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب في محطة الرمل. لأسأل عما إذ كانت هناك سجلات بأسماء الكتاب الذين يتعاملون مع الهيئة، وكيفية الوصول لها. تجيبني السيدة هناك بأن أجلب لها عنوان الكتاب وليس اسم الكاتب، فأحاول أن أشرح لها أنني أريد الوصول إلى كاتب معين، تعيد عليّ نفس الرد بنفاد صبر، فأضطر إلى الذهاب.

**

أقرر الذهاب لكلية الهندسة وأسأل في الأرشيف: إذا ما تخرجت “مواهب” من الكلية أم لا. أنزل من الميكروباص، وأعبر الطريق، فأقف أمام البوابة الكبيرة المغلقة للكلية. اسأل فتاة مارة تمسك مسطرة وشنطة اسكتشات دائرية، فتخبرني أن أمشي معها. أسألها مجددا إذا ما كان الحرس سيسمحون لي بالدخول، تعطيني مسطرتها وتنصحني أن أبدو متجهمة، ولن يشك أحد بي.

أمر بسهولة إلى الداخل، وأعطيها المسطرة وأشكرها، وأتجه بعد سؤال آخر إلى القاعة الرئيسية، فأجد يافطة إرشادات، أتبعها للأرشيف. تستقبلني سيدتان بوجه متجهم يناسب المكان المنسي، وتخبراني أن الأرشيف هنا خاص بملفات الموظفين فقط، وأنه لو أردت أن أسأل عن الخريجين، فعليّ الذهاب إلى شؤون الطلبة.

أذهب إلى هناك، فيخبرني الموظف أن أذهب إلى شؤون الخريجين، أتجه هناك لاعنة البيروقراطية، فيضحك الموظف الآخر على طلبي، ويخبرني بين الملفات الصفراء الكثيرة المتناثرة وسط المكاتب، أنه لا وجود لملفات تخطت الستين عاما. أخرج من الكلية، وأنا أتفهم تماما لماذا أخبرتني الفتاة منذ قليل أن أبدو متجهمة.

صورة لطلبة كلية الهندسة جامعة الإسكندرية بالستينات من الفيس بوك
صورة لطلبة كلية الهندسة جامعة الإسكندرية بالستينات من الفيس بوك
**

اليوم هو الخميس، وأقرر على عجلة أن أذهب إلى مكتبة البلدية، خطوة أجلتها فترة، لشعوري بعدم جدواها. على بوابة المكتبة أعطي الحارس بطاقتي الشخصية، وأدخل إلى المكتبة. الهدوء يعم المكان، ليس لاحترام الموجودين خصوصية المكان. ولكن لأن لا أحد به، أجد فقط أمينة المكتبة. أسألها عن “مواهب”. فتطلب أن أمدها بعناوين الكتب المطلوبة، أخبرها بالعناوين: “إنه القدر” و”الزجاجة الفارغة”، فتتجه إلى مكتب بعدد من الأدراج، بكل درج كروت ورقية صغيرة بها عناوين الكتب مرتبة ترتيبا إبجديا.

تبحث السيدة بهمة. أقف بجوارها فاقدة الأمل، عندما تخبرني أن أدون هذا الكود عندي: د 26679، كود “الزجاجة الفارغة”، يدق قلبي فجأة: الكتاب موجود بالفعل! تبحث الأمينة عن الكتاب الآخر، ولكنها لا تجده في الدرج المخصص له، ومع ذلك تستمر في البحث، مبررة لي أنه يحدث خلط أحيانا في عناوين الكتب، أحاول أن أخبرها أنه لا مشكلة لدي إن لم تجده، خاصة بعد مرور فترة لا بأس بها، ولكنها تستمر بالبحث على أي حال، ثم تبتسم لي وتطلب مني أن أدون كود آخر: د 28062، كود “إنه القدر”.

تصعد السيدة اللطيفة المكتبة بالأعلى وتحضر الكتابين. أشكرها وأجلس على أحد المكاتب وأبدأ بقراءة “إنه القدر”. تتكون المجموعة الصادرة عام (1964) عن الدار السكندرية “نشر الثقافة” من ست قصص قصيرة: العمدة، العصفور، اليتيم، البخيل، الزمار-القصة التي كتبت “مواهب” تحتها تعليق أنها نُشرت بالخطأ في إحدى المجلات باسم غيرها- والقصة الأخيرة مدرسة التمثيل. لا يختلف أسلوبها أو أفكارها نهائيا عن مجموعة “دعاء الأم”. مجموعة قصص لطيفة خفيفة مغلفة بالقيم والمواعظ. النقطة الوحيدة التي أنتبه لها أنها لثاني مرة تستخدم اسم “حسن يوسف”، ربما كانت معجبة وقتها بأفلام الممثل “حسن يوسف”. آخذ استراحة وأخرج قليلا إلى الخارج.

**

أتذكر عندما سألني أحد أساتذتي ذات يوم عن موقع “مواهب” على خريطة الأدب في هذه الفترة. فجاوبته بطريقة محاولة أن أبدو فيها خفيفة الدم: محدش يعرفها أصلا! ضايقتني إجابتي وأنا عائدة إلى المنزل، وتساءلت لماذا أجبت بهذا الشكل.

يقول “يحيى حقي” في بداية المقدمة التي كتبها للمجموعة القصصية الأولى لنوال السعداوى “تعلمت الحب” عام (1957): “قد لا يرضى عليّ أساتذة النقد حين يرونني وأنا أتناول بترحيب قصة بقلم واحدة من بنات حواء.” ولكن لم يكن أساتذة النقد فقط من لم يمنحوا الرضى، ولكن أصحاب دور النشر والمجلات أيضًا. ففي معركة واضحة وصريحة بين مثقفي الأجيال القديمة المهيمنين على سبل النشر الثقافي كالعقاد وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم، وجيل الستينات الصاعد كنبت شيطاني -منهم على سبيل المثال محمد حافظ رجب وصنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبد الله- وجدت الكاتبات أنفسهن على أطراف المعركة. فعكس أعمال الكُتاب الجدد المتسمة بجرأة الأفكار والابتكار في الأساليب ونضارة التجارب -أسلحتهم في اختراق خراسانات الأجيال القديمة- لم تعكس كتابات المرأة بقلمها غير المشحوذ غير عالمها الصغير الذي حددته السلطات الأبوية.

غلاف المجموعة القصصية
غلاف المجموعة القصصية

فعلى الرغم من القوانين الجديدة التي بدأت تدخل حيز التفعيل في الخمسينات والستينات، والأبواب الكثيرة التي فُتحت بعد حصول السيدات على حقوق في مجالات التعليم والعمل والسياسة. ظلت القوانين الاجتماعية والسلطات الأبوية تربطهن بحبال وتمنعهن من المغادرة، وحتى عندما حاولت قلة من الكاتبات- كأليفة رفعت وسعاد زهير- الخروج عن الحدود المسموحة لهن، كانت أعمالهن تقابَل باستهجان وتشويه للسمعة أيضا. لذلك غرقت كتابات المرأة المسجونة في الذاتية المعذبة أو الرومانسية الساذجة، وتذبذبت بين الرغبة في التحرر من السلطة، والرغبة في الاندماج فيها. ولم تستطع تأسيس أسلوب متفرد أو بناء هياكل فنية مكتملة- إلا عددا قليلا يُعد على أصابع اليد الواحدة. أطلق عليهن “بندول” لهذا التذبذب.

**

عند قراءتي لمواهب، كنت أبحث عما إذا كانت هي الأخرى بندولاً يريد التحرر. في البداية ظننت أن الإجابة “لا”، فأنا لم اقرأ في قصصها ما يدل على هذه الرغبة في التحرر من القيود الذكورية، بل على العكس، وجدت ترحيبا بها؛ أغلب القصص تدور في عوالم ذكورية، وأبطالها من الذكور. ولكن مع التفكير أدركت أنها أيضا بندول. ولكنه بندول خفي: صورتها الموجودة في مجموعتها “دعاء أم”. حيث تظهر فتاة في السادسة عشر، بقصة شعر شائعة وقتها بين ممثلات السينما: شعر مرفوع وغرة مقسومة على جانبي الجبهة. وبنفس الوقت ترتدي بدلة وكرافت، لتبدو بشكل محافظ، تدل على ذلك. فتاة في هذه المرحلة بين البراءة والنضج، بين الطفلة والمرأة. وأيضا بين تشرُّب تقاليد الطبقة الوسطى المحافظة الصارمة، وبين الرغبة في التحرر منها وتكوين صورة خارجة عن المألوف.

أعود إلى المكتبة لأقرأ كتابها الثالث والأخير، الكتاب الذي أضافه على موقع الجودريدز اثنان؛ حساب مريب يضع صورة رجل عجوز، وشاب قيَّم العمل منذ 11 عامًا بنجمتين. حاولتُ في بداية بحثي أن أرسل له رسالة، ولكنه معطل خاصية الرسائل. أرسلت له طلب صداقة، وعلقت له على تقييمه للكتاب: إذا كان بإمكانه مساعدتي بأي معلومة عن الكتاب، ثم زرت حسابه لأكتشف أنه لم يدخل عليه منذ عدة أشهر، وربما لن يرى هذا التعليق لشهور مقبلة، أو لن يراه أبدًا.

**

أفتح صفحات الكتاب، لأكتشف أنه مجموعة قصصية وليست رواية كما هو مدون في فهرس “الكاتبات العربيات”. في مقدمتها رسالة من مكتب رئاسة “عبد الناصر” مرسلة إلى مواهب، يشكرها فيها على جهودها الأدبية.

تتكون المجموعة المنشورة من “الدار القومية للنشر والطباعة” عام (1966) من ست قصص: الزجاجة الفارغة، الكلب الضال، مجنون رغم أنفه، حي الأموات- قصة مكررة من مجموعة دعاء أم- كل شيء للبيع، كاتب رغم أنفه. تبتعد القصص في المجموعة الأخيرة عن الاسكتشات الكوميدية وتخرج من قوقعة الطفولة- وإن لم تتخلص من سذاجتها- وكما هو واضح من اختيار العناوين. هناك نبرة حزن ويأس تتخل القصص. القصة الأخيرة “كاتب رغم أنفه” هي من تلفت انتباهي أكثر، حيث تبدو لي كانعكاس لشعور “مواهب” بموقفها من الكتابة وقتها، خاصة أنها فرضًا آخر ما كتبته.

تدور القصة عن شاب يريد أن يكون كاتبا استثنائيا، يقابل كاتبة مشهورة أوروبية ولكنها متزوجة من رجل عنيف نتيجة لتعرضه لأهوال الحرب، يقعان في الحب. فتقترح عليه أن تنفصل عن زوجها وتتزوجه، ولكنه يرفض أن يأخذها من زوجها المريض الذي يحتاجها، فترجع إلى بلدها. بعدما وعدته أنها ستساعده في نشر كتبه بالخارج، وستنتظر اليوم الذي تتحرر فيه من زوجها وتعود إليه، ولكن المدة تطول. ويقع هو في براثن الفقر والمرض، وعندما تعود هي لتخبره بتحقيقه الشهرة والمال بالخارج، يكون هو على وشك الموت، فيخبرها بيأس: وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر!

غلاف رواية الزجاجة الفارغة استعارتها زميلتي من مكتبة الجامعة الأمريكية
غلاف رواية الزجاجة الفارغة استعارتها زميلتي من مكتبة الجامعة الأمريكية

لا معلومات لدي عن لماذا بدأت مواهب الكتابة ولماذا توقفت فجأة، فقط تكهنات وفرضيات حولها، دون إجابة واضحة. هل شعرت في النهاية بالملل من الكتابة؟ هل توقفت الكتابة عن منحها ما يشبعها داخليا: الشهرة والتفوق والتميز. وتساوت لديها مع الخذلان فتحولت عنها؟ أم أن دورها كزوجة- مثلما قال والدها- غطى على كونها كاتبة؟ ربما وربما لا. ولكن ما هو مؤكد: كمسار رحلتي في البحث عنها. صعدت “مواهب” صغيرة كطلقة من بندقية للأطفال. ثم اختفت تماما. تقف الإخفاقات الكثيرة والأبواب المغلقة أمامي بنفاد صبر وتخبرني أنه علي أن أتوقف، لأنه لا أحد ببساطة يمكنه إصلاح ما أفسده الدهر.

  • ينشر هذا الموضوع بالاتفاق مع مؤسسة بهنا بالإسكندرية في إطار برنامجها الكتابي الذي أشرف على تحريره حسين الحاج وعبدالرحيم يوسف. 
اقرأ أيضا

عرض كتاب تاريخ موجز للزمان لـ”ستيفن هوكينج”

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر