محمود درويش إلى شقيقه من السجن: أحبكم.. لكن هذا اعتراف لا لزوم له

هذه رسالة كتبها محمود درويش فى يوليو 1965 إلى شقيقه أحمد من سجن “معسياهو”، بعد نقله من سجن عكا فسجن “الجلمة”. الرسالة شخصية في المعنى الأول، ولكنّها في معنى المعنى رسالة “الشخصيّة” شخصيّة محمود درويش “المبدع”،  إذ تكتب أسوأ الظروف بأحسن الكلام؛ نثر مغلف بروح الشعر، قد يغرى بالمقارنة بين البدايات والنهايات، وتغتنى بالكبرياء فتغالب دواعى الحزن بالسخرية، وتقرأ كل شىء بوعى جدلى ويقظة حاضرة، وتفضح تناقض دعاوى الآخر “المتحضر” الذى يتساوى لديه القاتل والشاعر فيقيدهما بسلسلة واحدة. وتنأى “حتى فى هذا النصّ العائلى” عن العادى والكتابة عند درجة الصفر، فإذا قال: أحبكم أكبر حب، استدرك بأن ذلك “اعتراف” لا لزوم له، وتقرن العادى بالدعابة لتكسر عاديته، فإذا أشار إلى ديْنٍ شخصى مستحق قرنه بذكر “الفائدة” تظرُّفا، وتحمل نبرته الخاصة الاستدراكية “بالمناسبة”، وتنبئ عن ولعه بالرواية خاصّة وأنه يفتقد القراءة كما يفتقد أشياءه الشخصية اليومية، وتفيض بروح حميمية خاصة نحو الأسرة والجيران وروح جماعية والتزام ثابت نحو الأصدقاء والزملاء. إنها رسالة من البدايات التي تملك مفتاح تفسير كثير من النهايات. الرسالة من أرشيف الناقد الأردني محمد شاهين.

عزيزى أحمد:

لا أدرى إذا كان أحد يعرف أنى مسجون فى سجن “معسياهو” منذ يوم الخميس، فالاتصال مقطوع، بالطبع، بينى وبين العالم خارج الأسلاك والجدران. ومنذ خمسة أيام لم أسمع أخبارا ولم اقرأ صحفا، ولا يصلنى شىء من أخبار العالم. نمت ليلة واحدة في سجن عكا لعلّها من أسوأ ليالى عمرى. وقد منعنى منظر الطعام الذي قدموه لي من الاقتراب منه. شبعت قرفا! وفى الليل اضطررت إلى خلع ملابسى لعلّنى أغرى النوم بمعانقتى ساعة واحدة على الأقل! وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي أيقظنى البوليس.. لم أغسل وجهى لأنى لا أحمل منشفة تنشف الماء والعرق! وضعوا سلسلة حديدية حول زندى.. ونقلونى مقيدا إلى سجن “الجلمة”. بقيت هناك أربعة أيام، لم أحلق ذقنى ولم أغسل أسنانى، ولم اقرأ إلاّ كتابا واحدا سُمِحَ لى بإدخاله معى هو كتاب “همس الجنون” لنجيب محفوظ،- بالمناسبة، لم يعجبني-!

يوم الخميس ظهرا، نقلونى مع عشرات السجناء بزنزانة متجولة إلى هنا.. “معسياهو”. ولعلّ هذا السفر، حتى الآن على الأقل، أتعس سفر فى حياتى.. حيث يربط كل سجينين بسلسلة واحدة.. ويتساوى القاتل والسارق والمجرم والعرص والشاعر!! كنت أتصور، على ضوء ما قيل لى عن هذا السجن، أنى سأكون فى كيبوتس. أوهام! أخذوا ملابسي المدنية، وأعطوني ملابس خاصة بالسجن ليست على قياسى بالطبع، وحذاء كبيرا يرغمنى على المشى ببطء وصعوبة. باختصار، إن منظرى فى بدلتي الآن قد يثير الحزن أكثر من السخرية، ولكنى أحاول، بدافع الكبرياء، أن أسخر أكثر مما أحزن. لا أدرى لماذا تذكرت هيئة تشارلى شابلن فى فيلم “الأزمنة الحديثة”!!

هنا، أستطيع أن أسمع الأخبار من “صوت إسرائيل” باللغة العبرية بواسطة مكبر الصوت. وأستطيع قراءة بعض الصحف. وأقطع الوقت بالقراءة، فقد سمحوا لى بإدخال جميع الكتب والأدوات الخاصة. الطعام نظيف وجيّد ولكن النوم متعب. وأسوأ ما فى الأمر أن الظروف تحول دونى ودون الكتابة. حتى الآن لم أكتب إلا هذه الرسالة وأنا أجلس القرفصاء وصيحات السجناء من حولى. ولكنى أفكّر كثيرا وعميقا، وأحيانا أغرق فى التفكير خاصة حين أودّع الشمس الغاربة. بالمناسبة لأول مرة أشهد ميلاد الشمس لأننى أفيق باكرا!

أشتاق إليكم كثيرا كثيرا.. وكل شىء صغير عندكم يحمل الآن معنًى كبيرا كبيرا. لا أستطيع إلا أن أقول لكم إنى أحبكم أكبر حب، وإن كان هذا “الاعتراف” لا لزوم له! وشوقى للبيت يفوق كل حدّ. وأتصور أن عودتى إليكم بعد 54 يوما سيكون عيدى الأول تموت أمامه جميع “أعيادى” التى أراها الآن فى غاية التفاهة.

طمئنوا سهام أن ديونها ستسدد حال عودتى مع الفائدة! وأرجو من أحدكم أن يسافر إلى حيفا ويتصل بتوفيق فياض وسائر الأصدقاء والزملاء ويعتذر لهم عن عدم كتابتي لهم لأنه لا يسمح لى بكتابة أكثر من رسالة كل أسبوعين. أخبروا الجميع أن أجمل هدية تصلنى هى الرسائل. فأرجو أن يكتبوا لى. لدىَّ الكثير مما أقول.. فلنرجئه إلى مناسبة أخرى. وتحيات قلبية إلى جميع الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء. لا أستطيع أن أعدد أسماء الجميع، لأن الأمر يحتاج إلى كتاب كبير جدا..

وإلى اللقاء.. محمود

اقرأ أيضا

ملف| محمود درويش في القاهرة: «هل تسمحون لي بالزواج؟»

كلمة محمود درويش فى أول مؤتمر صحفي له فى القاهرة: ابتعد.. لأقترب

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر