دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

الكاتب الأمريكى «تا-ناهاسي كوتس» يكتب عن زيارته لفلسطين

ترجمة: نهى مصطفى

هنا فصل من كتاب «الرسالة» للكاتب الأمريكي، تا-ناهاسي كوتس، يتناول فيه زيارته إلى فلسطين. يرصد كوتس بوضوح شديد خطر السرديات القومية المتصلبة، وكيف تُستخدم الروايات الرسمية لتبرير سياسات العنف والاقتلاع والقمع، وتغطية المعاناة اليومية للفلسطينيين. يستكشف كوتس الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مقارنًا إياه بالتجربة الأمريكية مع العنصرية والفصل العنصري. يصف زيارته للضفة الغربية والقدس الشرقية بأنها لحظة “كشف”، حيث شهد ما يعتبره نظام فصل عنصري “آبارتيد” على نحو صريح. وينتقد كوتس دور الإعلام الغربي في تشكيل الروايات وتزييفها، وربما حجب حقائق الوضع. تصدر ترجمة الكتاب عن دار «الكتب خان» بالقاهرة.

في صباح اليوم التالي، غادرت المهرجان وسافرت من رام الله إلى القدس. اضطررت للانتظار ساعةً إضافيةً تقريبًا لسيارة أجرة تحمل لوحة ترخيص باللون الأصفر، لأتمكن من عبور نقطة تفتيش في جدار إسرائيل وإلى الطريق إلى القدس على الجانب الآخر. تحدثت مع سائقي قليلًا، ثم عدت إلى أفكاري حول الرحلة حتى الآن. كان هذا يومي السادس في فلسطين، لكنني شعرتُ وكأنني هنا منذ شهور.امتلأت الأيام بالجولات، والليالي مليئة بالأحاديث، حتى وجبات الطعام أشبه بندوات.

***

بعض هذا الشعور هو مجرد شعور بالغربة في مكان بعيد عن الوطن. لكن معظمه يتعلق بخصوصية هذا المكان – كم بدا وكأنه يجسد الغرب وتناقضاته، ومزاعمه بالديمقراطية، وأسسه القائمة على الاستغلال. من بين جميع العوالم التي استكشفتها، لا أعتقد أن أيًّا منها كان أكثر إشراقًا وقوةً وفوريةً من فلسطين.لكن عندما انقشع النور، أصبحتُ أرى كلماتي بعيون جديدة، وأصبحتُ أرى كلماتي بطرق جديدة – والكلمات التي استُمدت منها – القصص والمقالات والخطب والمحاضرات التي يُلقيها “المثقفون المستعدون”. بدا الكثير واضحًا.

لاحظت تناسقًا في العبارات المبتذلة، أن أولئك الذين زعموا أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كانوا على الأرجح يدَّعون أن أمريكا هي أقدم ديمقراطية في العالم. واعتمد كلا الادعاءين على استبعاد شرائح كاملة من السكان الذين يعيشون تحت حكم الدولة. وبينما أستقل تلك السيارة الأجرة المتجهة إلى القدس، أدركت حقيقة هذا الأمر جليةً لا يمكن إنكارها.

***

قضيت معظم وقتي في الأراضي المحتلة، في عالمٍ تحكمه الأقليات. ولكن حتى في الدولة نفسها، كان النظام الطبقي هو السائد. يعيش الفلسطينيون في إسرائيل حياة أقصر، وهم أكثر فقرًا، ويعيشون في أحياء أكثر عنفًا. يُسمح لبعض الأحياء في إسرائيل بالتمييز قانونيًّا ضد المواطنين الفلسطينيين من خلال إنشاء “لجان قبول”. هذه اللجان، العاملة في 41% من جميع البلدات الإسرائيلية، تتمتع بحرية منع دخول أي شخص يفتقر إلى “اللياقة الاجتماعية” أو “التوافق مع النسيج الاجتماعي والثقافي”. أصبحت الدعوات العنصرية الصريحة هي القاعدة، كما حدث عندما حذَّر بنيامين نتنياهو عام 2015 من أن “الحكومة اليمينية في خطر. الناخبون العرب يتدفقون إلى مراكز الاقتراع بأعداد كبيرة”.

على الرغم من كل حديثي عن الانخداع بلغة “الديمقراطية اليهودية”، فإنها كانت موجودةً هناك طوال الوقت. هذه العبارة تعني ما تعنيه، ديمقراطية للشعب اليهودي وحده. لو كانت اللغة التي سمعتها طوال حياتي المهنية خاطئة، بل ومضللة، فما هي اللغة التي أصف بها المشروع الذي رأيته اليوم؟ من المؤكد أن “جيم كرو” أول ما يتبادر إلى ذهني، وذلك لأن “جيم كرو” عبارة تشير إلى الظلم، وتصنيف البشر، ومنح حقوق لمجموعة من السكان أو حرمانهم منها. لا شك أن هذا جزء مما رأيته في الخليل، والقدس، واللد.

***
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
***

لكن لم يكن الأمر يتعلق بالمعنى الحرفي لـ”جيم كرو”، بل يتعلق أيضًا بالشعور بهذا الشيء. أقول عبارة “جيم كرو” فيُفتح نعش أمامي، وفي داخله صبي تعرض للضرب وحرم من إنسانيته. وأقول “جيم كرو” فأرى علم العبودية يرفرف فوق مبنى الكابيتول. أم أقول “جيم كرو” فأرى رجالًا على شرفة فندق لورين يشيرون نحو الرصاص.

أقول “جيم كرو” فيلتفت إليَّ ديترويت ريد[1] ويسألني: “من علمك الكراهية؟” أقول “جيم كرو” فأسمع “ضريبة الاقتراع”، و”التمييز السكني”، و”بند الجد”[2]، و”للبيض فقط”، وكل هذه العبارات تثير في ذهني صورًا إضافية. لكن “جيم كرو” أصبح أداة للتناظر والترجمة، لا الشيء نفسه. كانت مهمتي في فلسطين، قبل كل شيء، هي تنمية جذور جديدة، ووصف هذا العالم الجديد، ليس باعتباره تابعًا لعالمي القديم، بل باعتباره عالمًا في حد ذاته.

توقفتُ في القدس فقط بالقدر الكافي لتسجيل دخولي إلى الفندق. حجزتُ لنفسي غرفةً جميلةً جدًّا، غرفةً بملاءات ناعمة وحوض استحمام. سأدفع ثمن هذه الرفاهية، لكن ليس بعد. كان أمامي خمسة أيامٍ أخرى في الخارج، رافقني في الأيام الخمسة الأولى زملاء يخوضون تجارب اكتشاف خاصة بهم، أصبحتُ الآن وحدي.

***

أصبح جزءٌ مني مستعدًّا لفعل أي شيءٍ للعودة إلى الوطن.كنتُ أعرف هذا الجزء من القصة، الجزء الذي يتذمر دائمًا من صرامة التغطية الصحفية، وحرج طرح أسئلة حميمة على الغرباء، وانضباط الإنصات باهتمام. الصوت في رأسي فقط، لكنه كان أعلى في فلسطين.

كانت الأيام أطول والاكتشافات أكثر كثافة. أتذكر أنني كنت أسير في شارع مائل في الخليل ووصلت إلى سياج معدني كبير به بوابة دوارة. في أعلى البوابة ثبت جهاز بحجم صندوق أحذية تقريبًا، يبرز منه أنبوب. بدا وكأنه كاميرا.في الواقع، كان جهازًا مصممًا لتحديد الهدف وتثبيته باستخدام طلقات “غير قاتلة” يتم إطلاقها عبر التحكم عن بعد. كان اسم الجهاز “الرامي الذكي” مكتوبًا على أحد جوانبه. كانت هذه طليعة أجهزة القمع، الخطوات الأولى نحو الهيمنة الإمبريالية الآلية، ولم يكن لديَّ ما يدعوني للاعتقاد بأن هذه الجهود الرائدة ستبقى في فلسطين فقط. وعندها شعرتُ باليأس.

***

كنتُ مسافرًا لعشرة أيام، عشرة أيام في هذه الأرض المقدسة، محاطةً بالأسلاك الشائكة والمستوطنين والبنادق الصارخة. وفي كل يومٍ كنتُ هنا، كانت تنتابني لحظة يأسٍ عميق. تمنيت بشدة أن أشيح بنظري بعيدًا، وأن أعود إلى الوطن وأتمتم بكلماتٍ عما رأيته سرًّا. وربما لو تُركتُ وحدي، ربما لو كنتُ وفيًّا لنفسي فقط، لفعلتُ ذلك. لكنني كاتبٌ وحامل لواء، كاتب ومسؤول. أنا لست وحدي، ولا أقصد فقط أسلافي، بل الأشخاص الذين التقيت بهم كل يوم وهم يعيشون في عزلة عن الحكم الإسرائيلي.

لم أكن انتهيت بعد. نزلتُ بالمصعد إلى بهو الفندق، حيث التقيتُ بأفنير غفارياهو، قائد “كسر الصمت”، وهي مجموعة من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي السابقين الذين يعارضون الاحتلال. خرجنا إلى الخارج، فوجدنا شاحنة بيك آب قديمة متوقفة أمام الفندق. كان السائق، جاي بوتافيا، يرتدي قبعة بيسبول ونظارات سميكة. تبادلنا التحية، ثم ركبت الشاحنة وانطلقنا.

***

كان مضيفاي إسرائيليين، كما هي الحال مع جميع مرشديَّ تقريبًا في النصف الثاني من رحلتي. كان هذا قرارًا واعيًا. لم يكن إعلانًا فارغًا عن “سماع كلا الجانبين”. لم أكن مهتمًّا بسماع دفاعات الاحتلال وما بدا لي حينها فصلًا عنصريًّا. يزعم الصحفيون أنهم يستمعون إلى “الطرفين”، كما لو أن هناك ثنائية متقابلة وضعها إله محايد لا شأن له بالأمر. لكن الصحفيين أنفسهم يلعبون دور الإله، الصحفيون هم من يقررون أي الجانبين شرعي وأيهما غير شرعي، وأي الآراء يجب مراعاتها وأيها يجب استبعادها.

وهذه السلطة امتداد لسلطة القائمين الآخرين على الثقافة، مديري الشبكات، والمنتجين، والناشرين، الذين تتمثل مهمتهم الأساسية في تحديد أي القصص تُروى وأيها لا تُروى. عندما تُمحى من النقاش وتُخرج من السرد، فأنت لا وجود لك. وهكذا، فإن مجموعة القائمين على الثقافة لا تقتصر على تحديد مواعيد النشر والموافقة، بل تضع معيارًا للإنسانية وتراقبه. بدون هذا المعيار، لا يمكن أن تكون هناك سلطة قمعية، لأن الواجب الأول للعنصرية، والتمييز على أساس الجنس، ورهاب المثلية، وما إلى ذلك، هو تحديد من هو إنساني وما ليس كذلك.

***

ولكن هناك مساحة خارج الأقواس. بالنسبة لي، إنه عالم برنامجي “إيميرج” و”إيفنينغ إكستشينج”[3]، عالم صالونات الحلاقة[4] وتسريحات الشعر الأفريقية في بالتيمور، أرض يُعتبر فيها فيلم “التنين الأخير”[5] من كلاسيكيات المراهقة، وأكلة سمك “ليك تروت”[6] جزءًا من التراث. ما أردته دومًا هو توسيع إطار الإنسانية، وتحريك أقواس الصور والأفكار. حتى أتمكن، وأنا أتأمل رحلتي، وأتخذ موقعي على أرض الملعب، من استبعاد أي تبرير لما هو غير أخلاقي بشكلٍ صارخ. إنني لأُفضل أن أسمع دفاعًا عن أكل لحوم البشر على أن أستمع إلى أي تبريرٍ لما رأيته بعينَيَّ في الخليل.

***

انطلقنا بالسيارة من الفندق حتى وصلنا إلى الطريق السريع رقم 60، “طريق الآباء”، وهو طريق قديم يُقال إن أنبياء التوراة سلكوه جنوبًا حتى الخليل. ظل جاي صامتًا طوال هذه الرحلة بينما أفنير يصف فترة خدمته في جيش الدفاع الإسرائيلي، فارضًا الاحتلال. أسمع الآن هذه الكلمة – الاحتلال- بنفس الطريقة التي أسمع بها رجلًا في منتصف العمر يتحدث عن “إجرائه الطبي” وما يعنيه هو “تنظير القولون”. لم يكن التهديد المستمر بالعنف، والقصص التي سمعتها آنذاك، تبدو مناسبة لشيء مثل “الاحتلال”. لكن أفنير لم يكن يستسيغ الكناية، وتحدث أكثر عن “الاحتلال” وعن أدواته، الاعتقالات، ونقاط التفتيش، وملفات الاستخبارات، واقتحام المنازل. قال:

لكل منزل في الأراضي المحتلة رقم. هذا الرقم يُعطيك معلومات أساسية عن سكان المنزل. إذا كان هؤلاء متورطين في أي مقاومة، أو سُجن أحد أفراد العائلة، أو حتى وُضع أحدهم على القائمة السوداء، فلن تدخل هذا المنزل، لأنك بذلك تُخاطر بأرواح جنودك. لذا تدخل منازل أشخاص تعلم مسبقًا أنهم أبرياء. ولا نُطلق على الفلسطينيين لقب “أبرياء” قط. كانوا دائمًا “متورطين” أو “غير متورطين”، لأن لا أحد “بريء”. تدخل منزلًا لتلك العائلة وتستخدمه كموقع عسكري. إنه مرتفع ومحمي، ولكنه أيضًا بمثابة عين في السماء للجنود على الأرض.

***

لا توجد خصوصية. من الواضح أنه لا يوجد أمر تفتيش. لست بحاجة إلى الطلب مسبقًا. لا تتصل قبل الاقتحام.لا ترسل بريدًا إلكترونيًّا. تقتحم المكان ببساطة وعادةً ما تقيد يد رب الأسرة وتعصب عينيه. إذا كان هناك مراهق ينظر إليك بطريقة لا تعجبك أو عم يبدو كبيرًا بما يكفي لتهديدك، تفعل الشيء نفسه… تفصل الهواتف، وتغلق الستائر، حتى لا يخبروا أحدًا بوجودك معهم، ويجلسون في الداخل خائفين، مذعورين ورؤوسهم منحنية.

بدا لي هذا الأمر أشبه بفيلم رعب – عائلة أُخذت رهينة ليس طلبًا للفدية، بل كاستعراضٍ للهيمنة التي تعد جوهر الحكم الإسرائيلي.عندما بدا حل الدولتين وشيكًا، كانت الفكرة هي أن غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية ستكون الأساس الإقليمي للدولة الفلسطينية. قُسمت الضفة الغربية لاحقًا إلى ثلاث مناطق: المنطقة “أ”، حيث يحكم الفلسطينيون السلطات المدنية ويطبقون القانون؛ والمنطقة “ب”، التي ستُحكم بشكل مشترك؛ والمنطقة “ج”، التي ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية.

***

يبدو كل هذا متحضرًا بما فيه الكفاية، لكن هذه الفكرة لا يمكن أن تصمد أمام خريطة. تضم المنطقة (أ) معظم سكان الضفة الغربية، لكنها في الواقع هي عبارة عن أرخبيل مليء بقرى ومراكز حضرية مكتظة بالسكان، وتشبه اختبار بقعة الحبر أكثر من كونها أساساً للدولة.

المنطقة (ب) صغيرةٌ جدًّا، وتحيط في معظمها بأطراف المدن. المنطقة (ج)، حيث تكتمل السيطرة الإسرائيلية، تُشكل المنطقة الوحيدة المتجاورة، وتشكل غالبية أراضي الضفة الغربية، بما في ذلك وادي الأردن الغني بالمعادن. هذه الفروقات أقرب إلى التظليل منها إلى الخطوط الواضحة. والحقيقة هي أن الضفة الغربية محتلة، مما يعني أن إسرائيل تمارس إرادتها أينما تشاء.

***

تتنوع أدوات السيطرة، طائرات بدون طيار وأبراج مراقبة تراقب من الأعلى؛ وسواتر ترابية وخنادق تسد الطرق من الأسفل. بوابات مغلقة، ونقاط تفتيش. لا شيء يمكن التنبؤ به. طريق كان خاليًا بالأمس أصبح الآن مُغلقًا فجأةً بـ”نقطة تفتيش طائرة” وبوابة متحركة وفرقة من الجنود تطلب التصاريح والأوراق. لكن هذه العشوائية مقصودة. الهدف هو جعل الفلسطينيين يشعرون بثقل الاحتلال باستمرار – في إسرائيل، وفي القدس الشرقية، وفي المناطق (أ)، و(ب)، و(ج).

قال لي أفنير، واصفًا العلاقة بين جيش الدفاع الإسرائيلي والفلسطينيين في جميع المناطق: “الأمر لا يقتصر على قولنا: نحن هنا وأنتم هناك، بل هو: نحن هنا، ونحن هناك”.

***

بهذه الطريقة، ينفصل شعب عن نفسه، وتتآكل الروابط المجتمعية القديمة. ابن العم الذي كان ذات يوم في نهاية الطريق أصبح محاصرًا بالجدار. ما كان في الماضي، في الذاكرة الحية، مجرد مسيرة طويلة للبحث عن زوجة محتملة في قرية أخرى، يتحول الآن إلى مسار مليء بالعقبات المستحيلة. وهذا مبني على التقسيم الذي بدأ عام 1948 – عزل الفلسطينيين في إسرائيل عن سكان القدس الشرقية، وعزل سكان القدس الشرقية عن سكان الضفة الغربية، وعزل سكان الضفة الغربية عن سكان غزة، وعزل سكان غزة عن العالم.

قال:

“أتذكر إحدى المهمات التي كنتُ فيها: الدخول، السيطرة، وكل هذه الإجراءات. كنا عند النافذة نقوم بما هو مُفترض بنا فعله، ننظر من النافذة. ثم اتصل بي أحد جنودي، وكنتُ وقتها رقيبًا، وقال: “مرحبًا. تعال بسرعة، أحتاج مساعدتك”. وصلتُ إلى هناك، وكان الموقف كالتالي، أب يقف مع ابنته في منزله، يحاول أخذها إلى الحمَّام. والجندي واقف هناك وبندقيته مصوبة في وجه الأب، وابنته واقفة بين ساقيه، مرعوبة. عندما وصلتُ، كانت قد تبولت في سروالها بالفعل. كانت تلك إحدى اللحظات التي كنتُ أقول فيها: “ماذا نفعل بحق الجحيم؟ لمن هذا؟”

***

توهم كتابة كل هذا الآن بأنني فهمت كيف تترابط أجزاء المعرفة، قصص أفنير، وحدود الاحتلال البيزنطية، والكلام المكرر الذي يُقال بهدف التهدئة، دون قيمة حقيقية، والمقالات. لكنها تلاقت في لحظات. أحيانًا كنت أمرُّ بنقطة تفتيش، فأنظر، لأُصدم، فأرى جنديًّاشابًّا يُصوِّب بندقيته نحو الطريق، أي نحوي.

بمجرد أن أرى هذا، كنت أبحث عن سبب وجيه، مبرر، ولكن في نهاية المطاف بدأت أدرك أنه لم يكن هناك أي مبرر على الإطلاق. وبينما أستمع إلى حديث أفنير، وبينما نسير بسهولة ودون عوائق على الطرق التي لا يستطيع الفلسطينيون في الضفة الغربية استخدامها، كان جزء مني لا يزال يبحث.فعلت هذا لأن وطأة الشر عظيمة. فعلت هذا لأنه إذا كان الأسوأ صحيحًا، وإذا كنت مضطرًّا إلى رؤيته بشكل صحيح، فسأعلم ما يجب أن يأتي بعد ذلك.فعلت هذا لأن “السبب الوجيه” هو أيضًا وسيلة للخروج.الضعف في داخلي دائمًا ما يتحدث. وكذلك أسلافي.

***
الكاتب الأمريكي، تا-ناهاسي كوتس
الكاتب الأمريكي، تا-ناهاسي كوتس
-2-

لم تتلاشَ هذه الرواية عن فلسطين البربرية المبتلاة بالقذارة والفوضى، على النقيض من الغرب الذي يبدو نقيًّا ومنظمًا. في عام 2013، نشر الصحفي الإسرائيلي آري شافيت كتاب “أرضي الموعودة”، وهو كتاب دفاعي عن الصهيونية الأكثر مبيعًا، يتتبع فيه رحلة جده الأكبر عام 1897 إلى فلسطين تحت الانتداب.

في رواية شافيت، يصل جده إلى “فوضى يافا العربية”.هذه مدينة قذرة – من “جثث الحيوانات المعلقة، والأسماك ذات الرائحة الكريهة، والخضراوات المتعفنة” و”عيون نساء القرية المصابة”، حيث يُجبر جد شافيت على التعامل مع “الصخب والضوضاء والقذارة”. يافا ليست فريدة من نوعها. في القدس، يواجه هذا الجد “بؤس الشرق: الأزقة المظلمة الملتوية، والأسواق القذرة، والجماهير الجائعة”.

***

هذه قصة مذهلة، لأن جد شافيت كان قادمًا من لندن، وهي مدينة قذرة للغاية إلى درجة أنها لُقِّبت بـ “الدخان العظيم”. في كتابه “لندن القديمة القذرة”، يرسم لي جاكسون المدينة:

كانت الشوارع الرئيسية غارقة في طين أسود، يتكون أساسًا من روث الخيول، مشكلًا عجينة لزجة متماسكة؛ الهواء مُشبع بالسخام، ورقائق من القذارة تتساقط على الأرض مع زخات مطر من أعماق الجحيم.كانت رائحة المدينة المميزة كريهة بنفس القدر. جلبت ضبابات الشتاء روائح كبريتية كريهة. من ناحية أخرى، خلقت أشهر الصيف مزيجها البغيض الخاص، “الذي جمع بين رائحة الفواكه والخضراوات الفاسدة، والبيض الفاسد، والتبغ الفاسد، وشحوم عربات البيرة المسكوبة، والسخام الجاف، والدخان، وغبار الطرق المسحوق، والقش الرطب”.كانت لندن قلب أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ؛ مركزًا ماليًّا وتجاريًّا للعالم؛ لكنها كانت أيضًا قذرة بشكل سيئ السمعة.

يتفهم جاكسون مشاكل الصرف الصحي في لندن من منظور هيكلي، فمن عام 1801 إلى عام 1901، ازداد عدد سكان المدينة من مليون إلى ستة ملايين. لكن رواية شافيت لمشاكل الصرف الصحي في يافا تدور حول الناس أنفسهم.

***

اعتبر مندوبو اللجنة “الأنجلو-أمريكية” الصهيونية “استسلامًا حتميًّا لشعب متخلف أمام شعب أكثر حداثة وعملية”. بل رأوا فيها حلقةً فارقةً في تاريخهم، “غزو الهنود”. اتفق الصهاينة وحلفاؤهم على ذلك. اعتقد جابوتنسكي أن العرق العربي يمتلك “نفس الشغف الغريزي لفلسطين، كما كان الأزتيك القدماء يشعرون تجاه المكسيك القديمة، وهنود السيو تجاه براريهم مترامية الأطراف”. وفي معرض انتقاده للحكم البريطاني لفلسطين تحت الانتداب، كتب التقدمي هنري والاس أن البريطانيين “يحرضون العرب”، تمامًا كما “حرضوا الإيروكوا على محاربة المستعمرين الأمريكيين”.

فكرة وجود الصهيونية الاستعمارية موجودة فقط في هلاوس أساتذة الجامعات اليساريين وهتافات طلابهم المتمردين تتجاهل مصدرًا جوهريًّا، كلمات الصهاينة أنفسهم. لكن هرتزل وجابوتنسكي وبن يهودا كانوا من زمن لا يزال من الممكن فيه للغرب أن يروج لصورة غير مقيدة للاستعمار النبيل.

لم يعد الأمر كذلك. نقول “استعمار” فيرد عقيد أمريكي: “جئت لأقتل الهنود… أقتل وأسلخ فروة الجميع، كبارًا وصغارًا؛ فالصئبان تُنتج قملًا”. نقول “استعمار” يخطو سيسيل رودس عبر قارة بأكملها. أم نقول “استعمار” فيربط محقق فرنسي أقطابًا كهربائية بالأعضاء التناسلية لرجل جزائري. ونقول “استعمار” فيظهر مستوطنو كريات أربع أمامنا، شاكرين ومشيدين بالقتل الجماعي.

***

لم يكن هناك أي إحساس بالعار في كل هذا. قبل بضع سنوات، قمتُ بجولة في مواقع الحرب الأهلية في تينيسي. زرتُ حصن بيلو، حيث ارتكب ناثان بيدفورد فورست، مؤسس جماعة كو كلوكس كلان، مذبحة ضد وحدة من الجنود السود. شاهدت الممثلين الكونفدراليين بكامل ملابسهم المزخرفة. استمعت إلى محاضرات أبناء قدامى المحاربين الكونفدراليين.

كان كل هذا دعايةً، وكنتُ أعلم ذلك. لكنني لم أتعلَّم بعد الدرس الذي حملته معي إلى فلسطين. لم أكن أُدرك بعد قدراتي الخاصة، وأن لي الحقَّ في وضع أقواسي كما أفعل في فلسطين، وإخراج الهراء، مهما كان مُهذَّبًا، مهما كان أنيق الصياغة، من الإطار.

ثم في إحدى الأمسيات، بعد يومٍ طويل، ذهبتُ لتناول العشاء ورأيتُ مجموعةً تُلوِّح بعلم معركة الكونفدرالية. لا أعرف ما الذي سيطر عليَّ، ولا أعرف لماذا حدث ذلك حينها. لكنني أدركت أن الأمر لم يكن تاريخًا عامًّا، بل إيمانًا راسخًا. استأذنتُ بهدوء وذهبتُ إلى غرفتي. حتى في تلك اللحظة أتذكر أنني لم أكن أرغب في إثارة أي ضجة أو إزعاج مضيفَي بأي شكل من الأشكال. لكن في صباح اليوم التالي، اعتذروا بشدة. كانوا يعلمون ما حدث.

***

عندما أستعيد ذكريات تلك الرحلة، أرى درجات متفاوتة من الخجل، شعورًا واعيًا وغير واعٍ. في فورت بيلو، عُرض فيلم تفسيري، سعى، في آنٍ واحد، إلى الاحتفاء بفورست والجنود السود الذين قتلهم. ظل أبناء قدامى المحاربين الكونفدراليين يتحدثون عن ترميم مقبرة قديمة للعبيد. وتحدث الممثلون الذين يعيدون تمثيل الأحداث بشكل مبهم عن القضية التي حاربوا من أجلها.

وبعد حادثة علم الكونفدرالية، بدا أن ما يخشاه مضيفي أكثر من أي شيء آخر لم يكن يتعلق بعلم العبودية، بل كان يتعلق بشعورهم بأنهم، كجنوبيين بيض، ظهروا بالطريقة التي توقعها “اليانكيون” الشماليون تمامًا، مجرد جهلاء أو أفظاظ أو سيئي التربية.

***

لم يكن عليهم القلق. عرفت الكثير من العنصريين “اليانكيين” والحمقى ذوي التربية السليمة. وكان من دواعي سروري أن أراهم كما هم بدوني، تلك الراحة التي أظهروها بعلمٍ سيرفعه ديلان روف بعد سنوات قليلة فقط. أحيانًا، تنعم بلحظةٍ تتجرد فيها كل مظاهر التظاهر والعار والتهذيب، ويتحدث الشر بوضوح.

أحيانًا يكون ذلك في حديقةٍ سُميت باسم تاجر رقيق من القرن التاسع عشر. وأحيانًا يكون ذلك في مستوطنةٍ تُكرِّم أحد دعاة ذلك النظام نفسه في القرن العشرين. في كلتا الحالتين، الوضوح هبةٌ وعلينا أن نُنصت جيدًا. في هذا النصب التذكاري لمائير كاهانا وتلميذه، عبَّرت الهبة عن مخططات إسرائيل العميقة.

المستوطنات مثل كريات أربع ليست من صنع روادٍ مارقين؛ تمامًا مثل ضواحينا التي تم تحديدها على أنها خطوط حمراء، فهي مشاريع حكومية. يحق لمشتري المنازل لأول مرة في المستوطنات الحصول على قروض عقارية مدعومة بأسعار فائدة منخفضة لبناء منازل على أراضٍ يستأجرونها بأسعار فائدة مخفضة، وهو خصم أصبح ممكنًا بفضل سرقة الأرض. وتحظى المصانع والمزارع بدعم مماثل من الخصومات والإعانات.

***

كل البنية التحتية – الطرق، والمياه، والكهرباء، والمعابد اليهودية العامة، وأحواض الميكفاه – مدعومة بشكل كبير من الدولة. تشكل شبكة الدعم هذه حافزًا لمزيد من استعمار الأراضي الفلسطينية، لأن المزيد من الاستعمار يخدم مصلحة أساسية للدولة الإسرائيلية، ألا وهي تآكل أي أساس لقيام دولة فلسطينية مستقبلية.

بينما أقف هناك أنظر إلى قبر جولدشتاين، بعد أن قمت بزيارة الحرم الإبراهيمي قبل بضعة أيام فقط، شعرت بعمق الرعب الذي أحدثه عنف جولدشتاين المذهل. لكن ما بدأتُ أراه هو أن المستوطنة نفسها تعتبر عنفًا. عندما تبني إسرائيل المستوطنات في الضفة الغربية، فإنها تمد حدودها إلى ما وراء المستوطنات – أحيانًا إلى الأراضي الزراعية الفلسطينية. يصبح وصول الفلسطينيين إلى هذه الأراضي دائمًا محل نزاع، ويُسمح به في العادة بعد متاهة من التصاريح أو حسب مزاج قوات الأمن التي تحرس المستوطنات.

***

في أي اشتباك بين الفلسطينيين والمستوطنين، من المتوقع أن ينحاز الجنود إلى جانب المستوطنين. والمستوطنون أنفسهم غالبًا ما يكونون مرتكبي عنف مسلحين. أوضح أفنير: “تلعب المستوطنات دورًا سياسيًّا واستراتيجيًّا في الاستيلاء على الأرض. تخيل بركة. ترمي حجرًا في بركة فيحدث تموج، أليس كذلك؟ المستوطنات تخلق تأثيرًا متموجًا للعنف في كل مكان توجد فيه. هذه هي الطريقة التي تُبنى بها”.

ما رأيته الآن كان أكثر من مجرد ممثلين سيئين أو متعصبين فرديين، بل كان نظامًا يعمل. سألت أفنير وجاي كيف يمكنهما التوفيق بين العيش في ظل هذا النظام والصهيونية المسؤولة عن وجودهما. ساد الصمت في السيارة للحظة. أجاب أفنير أولًا. وقال إنه يؤمن بحق تقرير المصير للشعب اليهودي والأسئلة المتعلقة بمكان تقرير المصير أصبحت الآن نظرية. قال: “نحن هنا. السؤال هو: هل يمكن أن يكون هناك سبيل لنيل حق تقرير المصير للإسرائيليين والفلسطينيين؟ أعتقد أن الإجابة هي نعم، لا بد من ذلك. أعني أنه لا توجد طريقة أخرى.

***

ولكنني أعتقد أن هناك أشياء خطيرة للغاية نشأت عن مفهوم القومية اليهودية، الذي تحول إلى التفوق اليهودي أو السيادة اليهودية، والتي تتجاوز كاهانا أو جولدشتاين. أعني أن هذا الأمر متجذر بعمق في المجتمع الإسرائيلي، وفي الأيديولوجية الصهيونية. هناك رغبة قوية في تقرير المصير. لا أعتقد أن هذا خطأ جوهري. أعتقد أن الخطأ الجوهري هو أن تأتي جنسية على حساب جنسية أخرى. هذا ما أعتقده نوعًا ما…”.

سكت أفنير. لم يتحدث جاي عن مثل هذه البراجماتية. قال: “بالنسبة لي، أنا أرى تأسيس إسرائيل خطيئة. لا أعتقد أنه كان ينبغي أن تحدث”. وتحدث عن إسرائيل باعتبارها “مركز التفوق اليهودي”، وهو ما لم يتصور أنه سيتغير. ” لذا، فهو أمر لا أستطيع التعايش معه. وأعتقد أنه من أجل أن نحظى بحياة مستدامة ومعقولة هنا، لا بد من حدوث تغيير حقيقي”.

***

في صغري، كنت أشعر بثقل العنصرية الفعلي باستمرار. كنا نملك أقل. كانت حياتنا أكثر عنفًا. وسواءً كان ذلك بسبب الجينات أو الثقافة أو الحكم الإلهي، يُقال دائمًا إن هذا خطؤنا.كانت المدرسة هي الوسيلة الوحيدة للهروب من ذلك العقاب لقلة محظوظة. لكن لاحقًا، حين خرجتُ إلى العالم، رأيت الجانب الآخر. أولئك الذين يُفترض، بحكم الجينات أو الثقافة أو المشيئة الإلهية، أنهم أكثر ثراءً، كانوا – كما أدركت لاحقًا – يعرفون أقل.

هؤلاء البيض يعيشون في كذبة، بل إنهم، بطريقة ما، كانوا يعانون منها أشد المعاناة. رأوا من العالم أكثر مما رأيت، لكنهم لم يروا من الإنسانية أكثر مما رأيت. والأدهى من ذلك أنني أدركت مدى جهلهم بتاريخ بلادهم، وبالتالي عجزهم عن إدراك مدى انحدارها. يبرر نظام التفوق نفسه عبر الوهم، ولهذا فإن اللحظات التي ينهار فيها ذلك الوهم غالبًا ما تأتي على هيئة صدمة عظيمة.

***

أذهلت سنوات ترامب فئة معينة من البيض؛ إذ لم يكن لديهم أي مرجع للابتذال الوطني، أو للفساد الواسع والانتهازية، حتى فات الأوان. يقول أقلُّهم تأملًا: “هذه ليست أمريكا”. لكن بعضهم بدأ يشكُّ في أنها، في الحقيقة، أمريكا. وهناك ألمٌ عميق في إدراك أنك، من دون علمك أو موافقتك، متواطئ في جريمة كبرى. وفي اكتشاف أن اللعبة برمَّتها مزوَّرة لصالحك، وأن هناك “أممًا” داخل أمتك قضت حياتها الجمعية كلها في سنوات ترامب.

يكمن الألم في اكتشاف عدم شرعيتك، في أن “البياض” ليس إلا سلطة وقوة، ولا شيء غير ذلك.استطعتُ أن أسمع ذلك الألم ذاته في كلمات أفنير وجاي. فقد نشأ على قناعة بأن الشعب اليهودي هو الضحية الكبرى للتاريخ، لكنهما واجها حقيقةً صادمة: لا وجود لضحية نهائية. فالضحايا والجلادون في حالة تدفُّق مستمر.

 

                                                   تا-ناهاسي كوتس كاتب وناشط أمريكي من مواليد (1975) عرف بأعماله                                                           المؤثرة حول العرق والهوية والتاريخ، في هذا الكتاب ككاتب يتدخّل في                                                             النقاش العام، عبر عمل مثير يتنقّل معه بين القارات والأفكار، متأملًا في                                                            القصص التي نرويها، وتلك التي نُقصيها، وكيف تشكّل وعينا الجماعي بالواقع.

هوامش

[1] الاسم الذي كان يُعرف به مالكوم إكس في شبابه وهو يعمل في أنشطة غير قانونية قبل أن يتحوَّل لاحقًا إلى واحد من أبرز مناضلي الحقوق المدنية في أمريكا.

[2] ينص هذا البند على أن الشخص يمكنه التصويت فقط إذا كان جده أو أحد أجداده يتمتع بحق التصويت قبل تاريخ معين. وبما أن السود لم يُمنحوا حق التصويت إلا بعد التعديل الخامس عشر (1870)، فإن هذا الشرط كان يُقصيهم فعليًّا من التصويت، بينما يسمح للبيض الفقراء، الذين قد لا يستوفون شروطًا أخرى، بالمشاركة.

[3] برامج تلفزيونية أو منصات إعلامية مجتمعية أمريكية سوداء.

[4] صالونات الحلاقة لها أهمية خاصة في الثقافة الأمريكية السوداء، كمراكز مجتمعية للتواصل والنقاش.

[5] فيلم أمريكي من الثمانينيات، يحظى بمكانة خاصة في الثقافة الشعبية السوداء.

[6] نوع من الأكلات الشعبية في بالتيمور، ارتبط بالمجتمع الأسود هناك.

اقرأ أيضا:

سمر دويدار: الفلسطينيون ليسوا أرقاما.. و«حكايات فلسطينية» هي الدليل

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.