موسم الحكاوي| من الأدب الفرعوني «فقط قلبي كان رفيقي»

أثر الوضع السياسي في مصر في عصر الاضمحلال الأول (2150 – 1994 ق.م)، – والذي عرف بالعصر الإقطاعي حين انقسمت مصر إلى دويلات مستقلة – على حركة الأدب القصصي في مصر، والذي اتجه إلى إنتاج قصص ذات طابع خرافي في محاولة من الكاتب المصري لمواجهة الأوضاع الاجتماعية التي اتسمت بالظلم والفساد، بحسب الدكتور سليم حسن، في كتابه الأدب المصري القديم.
ومن هذه القصص قصة الملاح الغريق، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد وسجلت في البردية رقم 1115 والمحفوظة بمتحف ليننجراد بروسيا، وبحسب حسن تدور أحداث القصة على جزيرة سحرية وأبطالها البحار المصري وكائن أسطوري جسده الكاتب في ثعبان ضخم، وتشير القصة إلى معاناة البحار بعد أن تحطمت سفينته ومات جميع أفراد الطاقم وشعوره بالضياع والوحدة في تلك الجزيرة، ثم تتخذ القصة طابعا دراميا إنسانيا حين يقابل ذلك الكائن المخيف وتنشأ بينهما صداقة تنتهي بأن يساعد الثعبان البحار في العودة إلى دياره.

الأمير الحزين في الأدب الفرعوني

يورد محمد أبورحمة، القصة في كتابه “حكايات فرعونية”، مشيرا إلى أن البحار الغريق في محاولة منه للتسرية عن سيدة الأمير والذي كان يشعر بالحزن لفشله في جلب الذهب من أرض بونت “الصومال” وخشيته من عقاب الملك، أراد أن يبين للأمير أن الأحداث التي نراها أحيانا مؤسفة في بدايتها يمكن أن تنتهي نهاية سعيدة، ليروي ما حدث له في أول رحلة بحرية في حياته كانت متجهة عن طريق البحر الأحمر نحو النوبة والصومال،  لجلب الذهب للحاكم  في سفينة كبيرة وبصحبة 120 بحارا من أشجع الرجال ولكن قبل الوصول إلى الشاطئ، تهب عاصفة وتثور الأمواج وتتحطم السفينة ويموت الجميع، ما عدا البحار.

فقط كان قلبي رفيقي.. من الأدب الفرعوني

يروي البحار: “أما السفينة فقد غرقت، ولم يبق أحد من ركابها، وحيدا كنت الذي دفعته موجة إلى جزيرة، فقط كان قلبي رفيقي”، ويشرح البحار حياته على الجزيرة لافتا إلى أنه كان يبحث عن الظل في النهار وبالليل كان يتدثر بأوراق الشجر، مبديا دهشته من تلك الجزيرة والتي ازدانت بأشجار العنب والتين والجميز واكتظ بحرها بالسمك، فلم يواجه صعوبة في البقاء على قيد الحياة وكانت آلامه تتلخص في وحدته وبعده عن أولاده ووطنه، ليقرر أن يشكر الآلهة على عطاياها ويتقرب إليها بقربان علها تسمع نداء قلبه وتعيده إلى بلده.

حارس الجزيرة

يتابع البحار بقوله: “وأوقدت نارا، وصعدت قربانا للأرباب، فسمعت صوت الرعد، فظننته موجة بحر، وفرقع الشجر، وزلزلت الأرض، فلما كشفت وجهي، أدركت أنه ثعبان يقترب طوله من 30 ذراعا حوالي 15 مترا، لحيته كانت أطول من ذراعين، أما جسده فكان موشى ذهبا، وحاجباه من اللازورد الحر، فغر فاه نحوي وأنا أمامه راقد على بطني.

وقال لي: من جاء بك، من جاء بك؟، أيها الصبي الصغير من جاء بك إلى هذه الجزيرة؟، تكلم وإلا جعلتك ترى نفسك رمادا، وحسب ما أورد البحار فقد أغشى عليه، ليصحو ويجد نفسه في كهف الثعبان والذي لم يصبه بأذى، لأنه  قرر أن يتخذه ونيسا على جزيرته، وعاود سؤاله عن قصته، فحكى له البحار ما أصاب سفينته وطاقمها حتى وصل إلى بيت الثعبان.

فيقول الثعبان: “لا تخف أيها الصبي الصغير، فلقد كان الله الذي جعلك تحيا، لقد جاء بك إلى هذه الجزيرة جنة الوفرة، فليس هناك ما لا يوجد فيها، والآن ستقضي شهرا بشهر حتى تتم أربعة أشهر على الجزيرة، ثم تأتي سفينة من وطنك عليها بحارة تعرفهم وسوف تبحر معهم إلى الوطن، فيمكنك أن تموت في بلدك.

مأساة الثعبان

“كدت أن أموت حزنا”.. وبعد أن بشر الثعبان الأسطوري البحار بأنه سيعود إلى وطنه قال له: “ما أشد فرحة من يقص، ما مر به إذا مرت المحنة”، ليروي للبحار مأساته التي حدثت على الجزيرة والتي تتشابه إلى حد كبير مع محنة البحار، فيقول الثعبان: إنه كان فردا من ضمن 75 ثعبانا هم أولاده وعشيرته ولكن حدث أن هوى نجم على الجزيرة فأحرق الجميع ولم ينجو إلا هو وكاد أن يموت حزنا عليهم عندما شاهد كومة الجثث، ولكنه وكما عبر: “فإذا كنت شجاعا، كابحا جماح قلبك، فسوف تعانق أبنائك ثانية”.

النهاية السعيدة “صحبتك السلامة”

تصدق نبوءة الثعبان.. وتمر سفينة من مصر ويتعرف البحار على طاقمها، ليبلغ البحار صديقه الثعبان. فيقول له الثعبان: “صحبتك السلامة إلى وطنك أيها الصبي، ولتذكرني بالخير في بلدك”.

ويحمله الثعبان الهدايا من البخور والزيوت والعطور والعاج والنفائس.

ويردف قائلا: “ستصل بلدك بعد شهرين، ستعانق عيالك وستدفن في قبرك”.

أبحرت السفينة شمالا لتصل في غضون شهرين إلى مقر الحاكم. ويقدم البحار الهدايا ويروي قصته مع الثعبان. فيعجب الحاكم بشجاعته ويقربه من بلاطه ويختاره كأحد حجّابه.

دراسة القصة في الأدب الفرعوني

كما يورد دون ناردو في كتابه “الأساطير المصرية” بعض الآراء النقدية، التي أوردها الخبراء تعليقا على القصة. فيشير إلى رأي العالم الآثاري لويس سبنس والذي اعتقد أن القصة تعكس تفوق المصريين القدماء في مجال الاستكشافات البحرية، خصوصا في تلك الحقبة معتبرا أن المصريين كانوا رحالة بطبيعتهم.

كذلك يشير إلى العلاقة القوية التي ربطت بين مصر والصومال “بونت” خلال العصور القديمة. وبلغت أوجها في عصر الملكة حتشبسوت (1507 ق.م) حين أرسلت بعثتها الاستكشافية هناك. والمدونة على جدران معبدها بالبر الغربي بالأقصر.

أيضا يشير الدكتور سليم حسن إلى أن المطارحات التي دارت بين الثعبان والبحار.. حين قص عليه مأساته، حسنت من الحالة النفسية للبحار، والذي اعتقد أنه لن يرى أولاده مرة أخرى.. فكأن الثعبان أراد أن يقول للبحار: لقد حدث لي ما هو أفظع مما حدث لك.. ومع ذلك فقد خرجت سالما وما زلت سائرا  في حياتي.

علاقة بين إنسان وكائن أسطوري

في النهاية يعتقد محمد أبو رحمة أن القصة تمثل علاقة طيبة تنشأ بين الإنسان وكائن أسطوري وهو الثعبان.

ويلفت إلى أن القصة لم تتعامل مع الثعبان ككائن أسطوري فقط بل كإله أيضًا، مدللا على ذلك باللحية الطويلة التي اتخذها الثعبان، والذهب الذي غطى جسده، ويربط أبورحمة بين ثعبان الجزيرة والثعبان الأزلي في أسطورة الخلق، والتي تشير إلى وجود ثعبان كوني كان يعيش في قاع المياه الأزلية “نون” وحين انبثقت اليابسة، أحاطها الثعبان من جوانبها الأربع، وينوه أبو رحمة إلى أن صدى هذه القصة تردد كثيرا في الأدب العربي والعالمي.
هوامش:
1- الأدب المصري القديم. د. سليم حسن. مهرجان القراءة للجميع 2000. من ص 47 إلى 54.

2- حكايات فرعونية – محمد أبو رحمة – حابي للنشر والتوزيع 2005. من صفحة 89 إلى ص 100 ومن ص 245 إلى ص 246.

3- الأساطير المصرية “بي دي إف” – دون ناردو – ترجمة: أحمد السرساوي – المشروع القومي للترجمة – 2011.. من ص 127 إلى ص 145.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر