«أرشيف بيكيا»: «سيادتكم» من ثروت عكاشة إلى المشير عامر

في أول يونيو عام 1960، أرسل وزير الثقافة والإرشاد القومي الدكتور ثروت عكاشة خطابا إلى القائد العام للقوات المسلحة عبدالحكيم عامر، بخصوص الأعمال التي تقوم بها الوزارة في «مجال دعم وحدة الإقليمين» على حد قول الوزير. يشير عكاشة إلى العمل المؤسسي المشترك بين وزارتي الثقافة والإرشاد القومي المصرية والسورية. وكان من المفترض أنهما طرفان متساويان في العمل الثقافي الرسمي للجمهورية العربية المتحدة، التي ضمت بين الإقليم الجنوبي – مصر – والإقليم الشمالي – سوريا – لمدة ثلاثة أعوام ونصف بين 1958 و1961.

***

حين يذكر المثقفون المصريون تاريخ إنشاء وزارة الثقافة عام 1958 اليوم، كثيرا ما يتغاضون عن ذكر سياق تكوينها في ظل الوحدة مع سوريا. بعد شهور قليلة من إعلان الوحدة، أعاد الرئيس جمال عبدالناصر هيكلة وزارة الإرشاد القومي في صورة أشبه بوزارة الثقافة الحالية في يونيو عام 1958. ولحق هذا القرار بتأسيس وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية، التي نشأت في ديسمبر 1958 بقانون 197 لهذا العام. وفي نفس العام الحافل بالأحداث الكبرى، أصبح دعم التبادل الثقافي بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة من أولويات وزارة الثقافة والإرشاد القومي المصرية بحسب توجيهات السيد الرئيس، وورد ذكر هذه الضرورة في مذكرات ثروت عكاشة أيضا.

ولكن لماذا أرسل ثروت عكاشة تقريرا عن أعمال الوزارة المصرية إلى المشير عبدالحكيم عامر؟ يتضح في مذكرات عكاشة أنهما كانا صديقين مقربين. ولكن لماذا يرسل إليه تقريرا رسميا بخصوص الوزارة وهو موجّه في الأساس إلى رئيس الجمهورية؟ هناك احتمالان تظهرهما مجموعة الخطابات التي عثرت فيها على وثيقة اليوم. الأول أن المشير قد تلقى هذا التقرير بصفته نائبا لرئيس الجمهورية – حيث أرسل ثروت عكاشة نفس التقرير إلى عبد اللطيف البغدادي، وهو نائب رئيس الجمهورية الآخر آنذاك –. والاحتمال الثاني أنه قد تلقى التقرير بصفته ممثلا لرئيس الجمهورية في الإقليم السوري، وبالتالي فيجب أن يكون على دراية كاملة بأعمال التبادل الثقافي بين الإقليمين. في كلا الأحوال، تعطي العلاقات المتضافرة بين ثروت عكاشة وعبدالحكيم عامر الكثير من المبررات المُحتملة لإرسال مثل هذا التقرير – سواءً كانت علاقة الصداقة أو علاقة الانتماء للمؤسسة العسكرية أو علاقة الوزير بنائب رئيس الجمهورية وممثلها في الإقليم السوري.

عبدالحكيم عامر وثروت عكاشة
عبدالحكيم عامر وثروت عكاشة
***

تستوقفني في هذه الوثيقة اللفظ البيروقراطي الروتيني الذي يستخدمه ثروت عكاشة للتخاطب مع المشير، وهو لفظ “سيادتكم”. تحتم آداب المراسلات الرسمية أن يتحدث المرء مع نظيره باستخدام ألقاب مثل “حضرتكم” و”سيادتكم” بدلاً من كلمات مباشرة مثل “أنت” أو “أنتم”. ويسري الأمر على المراسلات في كل المستويات الإدارية، سواءً كانت بين مدير وموظف أو العكس، أو بين وزيرين بينهما البعض. إذن فالموظف المحترم – مهما كان مستواه – له “حضور” و”سيادة” نابعة من وضعه داخل الجهاز الحكومي. عندما يستخدم ثروت عكاشة لفظ “سيادتكم” في الخطاب. إنه يستبعد أي علاقة صداقة مباشرة مع المشير، ويخاطبه بنفس الاحترام والتقدير الذي يكنه وزير لوزير آخر. ولكن ربما يفتح اللفظ مجالا مختلفا للتفكير في طبيعة “السيادة” الذي تمتع بها عبدالحكيم عامر في دولة يوليو.

ربما نرى رسالة عكاشة إلى المشير كأي رسالة إدارية روتينية أخرى. وكأنه يخاطب نظيره بشأن المشروعات المشتركة بينهما بسبب اقترابهما من رئاسة الجمهورية وإدارة حكومة الوحدة. ولكن لم يكن عبدالحكيم عامر موظفا عاديا فحسب، ولم تقتصر “سيادته” على المناصب الإدارية التي كان يشغلها. بسبب تداخل العلاقات الشخصية بين الضباط الأحرار في أجهزة الدولة. لا يمكن الفصل بين سيادة القيادات – ناصر، عامر، عكاشة – وسيادة الدولة في الستينيات. تميزت تلك العلاقات بدرجة شديدة من الشَخصَنة، مما أسفر عن ربط النزاع الدائم بينهم مع نزاع أوسع بخصوص سيادتهم العامة على البلاد. واتضحت أبعاد هذا النزاع في الصراع الشهير بين الرئيس والمشير. ولكن ربما نستشف بعض الأبعاد الأخرى لتوازنات القوة داخل الدولة من المخاطبات الروتينية بين أعضائها.

لا تتحدث الوثيقة مباشرةً عن الصراعات السياسية الكبرى في دولة يوليو، ولكن يثير وجودها بعض التساؤلات حول آلية الإدارة الحكومية في عام 1960. فمثلاً، هل كانت تصل تقارير الوزراء إلى عبدالحكيم عامر بانتظام؟ وكيف تزعّمت أقطاب الدولة سيادة الجهاز الحكومي مع مرور الزمن؟ ومتى أدرك الوزراء أبعاد الصراع بين الرئيس والمشير لأول مرة؟

وختاما، إليكم وثيقة العدد القادم

إلى الرئيس جمال عبدالناصر
إلى الرئيس جمال عبدالناصر
اقرا أيضا:

أرشيف بيكيا: كيف نكتب تاريخنا المعاصر بعيدا عن الأرشيف الرسمي؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر