“العديد”.. فن الرثاء العتيق
كتبت- مريت أمين، آلاء عبدالرافع
تصوير- أحمد دريم:
“ودا قبر مين اللي البقر هده؟.. دا قبر الغريب اللي هجر أرضه، ده قبر الغريب اللي هجر ناسه”.. بملابسهن السوداء المتربة، ووجوههن الشاحبة من “اللطم” تردد النساء هذا الكلام الذي يعرف بـ”العديد”.
(اللطم هو ضرب الوجنتين بالكفين) تعلو أصوات المعددات في بيوت قرى الصعيد، معلنة عن حزنها الذي يمزق القلوب، على فقيد البيت.
العديد هو “رثاء شعبي”، و”نغم حزين” يحرض علي البكاء، وينشط الذاكرة عن الفقد بشكل عام، وهي من العادات القديمة في قرى الصعيد، ومازالت مستمرة نسبيًا، وكان العديد مهنة تمتهنها سيدات محددات يمارسن نشاطهن في المآتم، لقاء أجر يتفاوت قدره حسب الحالة الاقتصادية للمتوفى.
هل العديد من شعر الرثاء
تجولت “ولاد البلد” بقنا لتجيب عن سؤال كيف أصبحت تلك النساء “معددات” وهل “العديد” من شعر الرثاء أم هو من تراث الصعيد؟
“الجزارة”، واحدة من أشهر المعددات وأكبرهن عمرًا في قنا، تقول منذ فترة طويلة توفي زوجي وأبنائي، ما عدا ابنى الوحيد، الذي لم يتبق لي غيره، ومنذ ذلك الوقت والحزن استقر في قلبي، ربما كان ذلك أهم الأسباب التي جعلتنى أمتهت “العديد” منذ 30 عامًا، فعندما أجلس صباح كل يوم أمام أرضي المزروعة، تتهادى إلى خاطري الجمل الموزونة، دون أن أرتب لها.
أبني دائمًا يخبرني أن التعديد حرام، ويهددني بأنه سيقاطعني إن لم أكف عنه، لكن الأمر ليس بيدي، فأنا أجد نفسي أبدأ صف الجمل والتعديد في كل عزاء، ولا أتقاضى أى أجر على هذه المهنة، فقط أجامل بها أقاربي وأهالي قريتي، وأفرغ الجمل التي استلهمتها.
المعددات في الجنازات
الحاجة سنية، 71 عامًا، تقول إن المعددات كان دورهن في الجنائز قديمًا، استثارة مشاعر الحزن عند المعزيات في المأتم، وتأخذ أجرها بعد الأربعين، وما يعتبره أهل المتوفي ثوابا وزكاة، وأحيانًا تأتي المعددات في العزاء لتردد كلماتها، وترحل دون أن يعلم أهل العزاء من هي، فقط تأتي لتشاركهم حزنهم.
أما خالد سعيد، مدرس، يقول إن المعددات نساء مررن بأحزان كثيرة حتى أصبح العديد وإثارة الأحزان مهنة لهن، ويرى أن “العديد” هو فن شعبي أقرب إلى شعر الرثاء.
أحمد عبد الغني، صاحب دراسة العدودة في الصعيد، يقول إن جذور العدودة ترجع إلى مصر القديمة، إذ صُور علي الجداريات في المقابر الملكية في عدة عصور فرعونية منظر خروج “الندابات” مع أهل المتوفي، لوداعه وهن يرتدين السواد ويهلن التراب على أجسادهن، ويرددن الأناشيد التي تعدد من مآثر الميت وتدعو له، موضحًا أن المصري القديم كان يعتني بالمتوفى في كل مراحل الجنازة، وتمريره علي طقس التحنيط لحفظ جسده من التحلل قبل الدفن، وفق معتقد البعث بعد الموت.
عادة توارثتها الأجيال
ويضيف أن العادة امتدت إلى العصر القبطي وتوارثتها الأجيال حتى صارت من طقوس المآتم وخاصة في صعيد مصر، وقد اندثرت تلك الطقوس في المناطق الحضرية، بينما ظلت حاضرة على استحياء في بعض قرى محافظات سوهاج ، وقنا، والأقصر.
يتابع أنه قديمًا كانت مهنة العدودة مهنة تمتهنها بعض السيدات في الصعيد نظير أجر، وكان هناك نحو 12 نوعًا من العديد، الذي يُرثى به المتوفي أو المتوفية، حسب وظيفته، أو عمره، أو مكانته الاجتماعية.
العدودة شعر شعبي
أما الشاعر عربي كمال، فيقول إن العدودة شعر شعبي.. وهو يعبر بعفوية عن الحزن والفقد.. كما أنه قريب الشبه بشعر “ابن عروس” وإن اختلف المضمون.
كما أن العدودة فن يلازم مزاج المصريين في الصعيد في حالات الوفاة. ويعبر عن مكنون المجتمع.
ويضرب كمال المثل بتفضيل الذكر عن الأنثى حتى في العدودة.. وذلك في قولهم:
مال الولية نعشها بيميل / ما لهاش ولد بين الرجال بيشيل
مال الولية نعشها مايل / مالهاش ولد بين الرجال شايل
وكذلك قسوة الغربة في قولهم:
وده قبر مين اللي البقر هده؟ / ده قبر الغريب اللي هجر أرضه
ده قبر الغريب اللي هجر ناسه.
العديد يحتوي شاعرية مدهشة
ويرى أن العدودة تحوي شاعرية مدهشة ومؤلمة في الوقت ذاته.. خاصة أنها خلاصة تجارب المجتمع الصعيدي.
كما أن العدودة رغم أن فن شعبي، إلا أنها خضعت لقواعد الوزن والقافية، وتصنف شعرًا غنائيًا رغم سوداويته.
ومهنة المعددة محصورة على الجنائز لقاء أجر. وهي مهنة تكاد تندثر وإن بقيت بعض السيدات في القرى النائية.. التي يمارسن “العديد” من باب المجاملة الاجتماعية لأهل المتوفى.