«السويس».. عتبة الحجاز التي حملت أمنيات ملايين الحجيج إلى مكة

«السويس» ليست مجرد مدينة ساحلية مصرية تقع على طرف خليج السويس، بل محطة تاريخية وروحية عظيمة، استحقت ألقابًا مميزة مثل «عتبة الحجاز»، و«عتبة الحجاج»، لما كان لها من دور بالغ الأهمية في نقل الحجاج من مصر والدول المجاورة إلى الأراضي المقدسة. ارتبط اسم السويس بموسم الحج لقرون طويلة، حتى باتت جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة الحجيج المسلمين من مختلف أنحاء العالم.
تاريخيًا، كانت مدينة السويس تُعرف باسم «القلزم»، وهي مدينة قديمة ارتبطت دومًا بحركة التجارة والسفر، نظرا لموقعها الفريد بين الشرق والغرب. ومع تطور طرق الحج، بدأت المدينة تكتسب أهمية إضافية، إذ أصبحت الممر الرئيسي لقوافل الحجاج المتجهين إلى الحجاز عبر البحر الأحمر.
السويس.. من القلزم إلى عتبة الحجاز
أطلقت الشعوب والقبائل على السويس أسماء متعددة مثل “عتبة الحجاز”، لأنها كانت البوابة الأخيرة قبل ركوب البحر والانطلاق نحو الأراضي المقدسة. و”عتبة الحجاج”، لأنها كانت نقطة الانطلاق التي تمر منها آلاف القوافل. و”عتبة الرسول” تعبيرًا عن شرف وخطورة الطريق الذي يبدأ منها نحو المدينة المنورة ومكة المكرمة.
تكمن أهمية السويس في موقعها الجغرافي الاستراتيجي. إذ تقع عند نهاية البر المصري المتصل بالبحر الأحمر. ما جعلها المعبر الطبيعي والأكثر أمانًا للحجاج القادمين من مصر وشمال إفريقيا، بل ومن بعض الدول الأوروبية والآسيوية. وفي زمن لم تكن فيه الطائرات أو السكك الحديدية متاحة، كانت القوافل تأتي من كل حدب وصوب إلى السويس. ثم تبحر من مينائها إلى ميناء جدة، قبل أن تبدأ الرحلة البرية إلى مكة المكرمة.

السويس.. قلب الحجاج وروح التاريخ
رغم التحولات الحديثة، لا تزال السويس تحتفظ بجذورها في ذاكرة الحج. فكل ركن فيها يحمل قصة، وكل حجر يشهد على آلاف الأرواح التي مرت من هنا تبتغي الرضا والمغفرة. فبين مآذنها القديمة، وطرقاتها التي عبرها المحمل الشريف، وأسواقها التي ازدهرت ببركة القوافل، تظل السويس “عتبة الحجاز” التي لا تُنسى.
والسويس ليست مجرد ميناء على البحر الأحمر، بل بوابة عبرت منها دعوات الملايين ومشاعر الخشوع والرجاء. هي المدينة التي كانت تبدأ منها الرحلة الكبرى نحو النقاء الروحي. وكانت محطة للتزود بالإيمان والماء والمؤونة. واليوم، ونحن نقرأ تاريخها ونمشي في دروبها، لا نملك إلا أن نحيي أرواح من مروا بها في طريقهم إلى الله. ونثمن دورها في رسم واحدة من أجمل صور الذاكرة الإسلامية، رحلة الحج عبر بوابة السويس.
الحجاج والتجمع على طريق القاهرة – السويس
قال الدكتور كمال بربري حسين العمري، وكيل وزارة الأوقاف الأسبق بالسويس، إنّ السويس كانت مركزًا لتجمع الحجاج من مختلف محافظات مصر. إلى جانب القادمين من ليبيا وتونس والجزائر والسودان وبلاد الشام. وكان الحجاج يتجمعون في منطقة تقع حاليا على طريق القاهرة – السويس، بالقرب من “عجرود”.
في هذا المكان، كانت تُجمع القوافل، ويتم تجهيزها بالمؤونة والماء، وتحديد القادة المرافقين لها. ثم تتحرك نحو ميناء السويس القديم، الواقع فيما يعرف اليوم بكورنيش السويس أو منطقة “الخور”.

الشيخ السادات.. شيخ القوافل وحامي الطريق
أوضح “بربري” أن من الأسماء البارزة التي لعبت دورًا محوريًا في تنظيم رحلات الحج من السويس، اسم “الشيخ السادات”، أحد مشايخ الأعراب المعروفين، الذين تولوا مسؤولية تنظيم قوافل الحج. وقد بدأ دوره عام 1885 واستمر حتى أوائل القرن العشرين. وكان يعرف بحكمته وخبرته في إدارة القوافل وضمان سلامة الحجاج.
وأضاف: عند وفاته، تم دفنه على شاطئ الخليج في منطقة لا تزال تعرف حتى اليوم باسمه “السادات”، تكريمًا له واعترافًا بدوره في خدمة حجاج بيت الله الحرام. وعند نقل قبره، كما يروي وكيل الأوقاف الأسبق، وجدوا جثمان الشيخ السادات سليماً رغم مرور السنين، وتفوح منه رائحة طيبة.
السويس تستقبل قوافل الحجاج من أوروبا وآسيا
لم تكن السويس بوابة الحجاج المصريين فحسب، بل استقبلت أيضا قوافل الحجاج القادمين من أوروبا، سواء عبر البحر أو عن طريق العريش وسيناء. وكان الحجاج يفضلون القدوم إلى السويس ومنها الإبحار إلى جدة، لعدة أسباب؛ أبرزها الأمان وسهولة الإمداد. فضلًا عن وجود مرافق خدمية وتجارية تدعم الحجاج خلال توقفهم بالمدينة.
وبحسب المؤرخين، كانت بعض الوفود الأوروبية من مسلمي البوسنة والشيشان والقوقاز. بل ومن الهند وشرق آسيا، تصل إلى مصر عبر البحر المتوسط أو الموانئ الشرقية. لتمر بالقاهرة وتستقر في السويس أيامًا قبل الإبحار إلى جدة. وهكذا أصبحت السويس ملتقى عالميًا ومركزًا حضاريًا يعج بالثقافات واللهجات المتنوعة.

بئر الحجاج وقلعة قنصوة الغوري
من المعالم التاريخية التي لا تزال شاهدة على مكانة السويس في تاريخ الحج، “بئر الحجاج” الشهير بمنطقة عجرود. والذي كان يعد مصدر المياه الرئيسي للحجاج أثناء رحلتهم إلى مكة. ويقدر عمر هذا البئر بأكثر من 600 عام، وكان الناس يقطعون عشرات الكيلومترات ليملأوا القَرب منه استعدادًا للرحلة البحرية.
ولم يكن البئر وحده هو المعلم البارز، بل كانت هناك أيضًا “قلعة قنصوة الغوري”، القائد المملوكي الشهير. والتي شُيدت لحماية الطريق وحراسة الحجاج والقوافل. ورغم أن العثمانيين دمروها لاحقًا، لا تزال بعض آثارها باقية في صحراء عجرود. لتذكّرنا بعهد كان الحج فيه رحلة حياة كاملة، تبدأ بالإيمان وتنتهي بالرجاء.
ويُعد بئر الحجاج من أقدم الآبار الموجودة في مدن القناة الثلاث، ويقع في قلب صحراء عجرود، التي كانت نقطة توقف أساسية لقوافل الحجاج. ولم يكن هذا البئر مجرد مصدر للماء، بل كان معلمًا روحيًا وجغرافيًا على الطريق المقدس، يقصده الحجاج بعد عناء السفر الطويل، ليستريحوا ويتزودوا بالماء قبل استكمال طريقهم نحو ميناء السويس. ومنه إلى جدة، عبر البحر الأحمر.
شهادات تاريخية ومراجع موثقة عن بئر الحجاج
أشار المؤرخون إلى أن بئر الحجاج في عجرود لم يكن مجرد مزار عابر، بل كان جزءا أصيلا من خريطة السويس القديمة. وقد ذكره ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم البلدان. حين قال: “ميرة أهل القلزم من بلبيس، وشربهم من السويس”، في إشارة إلى اعتماد مدينة القلزم (السويس قديمًا) على مياه هذا البئر تحديدًا.
وتؤكد الروايات التاريخية أن أهل السويس القديمة كانوا يحصلون على المياه من بئر الحجاج، قبل انتقالهم تدريجيًا للعيش بالقرب من مياه الخليج. خاصة بعد هدم القلعة التي كانت تحيط بالبئر.

قلعة قنصوة الغوري.. الحامية المجهولة
بجوار بئر الحجاج، تقع أطلال قلعة “قنصوة الغوري”، التي بنيت لحماية طرق الحجاج وتأمينهم، لكنها دمرت بالكامل على يد العثمانيين عند دخولهم مصر. وبحسب المؤرخ فاروق متولي، فإن القلعة كانت تشكل علامة بارزة على السيادة المملوكية في المنطقة. ولذلك أصر العثمانيون على تدميرها حتى لا يبقى لها أثر يرمز للحكم السابق.
لكن، وبرغم محاولات الطمس، لا تزال أجزاء من القلعة باقية في رمال عجرود، لتروي فصولًا من صراع القوى والسيطرة على طرق الحج والتجارة. وتؤكد أن السويس كانت، منذ قرون، مركزًا محوريًا في قلب التحولات التاريخية.
الفخار المتناثر.. أثرٌ لا يُمحى بمرور السنين
ما يميز محيط بئر الحجاج اليوم هو وجود كميات ضخمة من قطع الفخار المتناثرة على الأرض. وتظهر هذه الشظايا الأثرية، كما يقول المؤرخون، أنها كانت تستخدم لحفظ المياه والطعام للقوافل. وبعضها قد يكون بقايا لأوانٍ مملوكية أو فاطمية. وجود هذه الكسر يعكس حجم النشاط الذي شهدته المنطقة، ومدى اعتماد الحجاج عليها كمركز استراتيجي وعبور لا غنى عنه.
الدكتور علي محمد علي، أستاذ الفنون التشكيلية بجامعة السويس، المعروف باسم “علي السويسي”، أكد قبل وفاته أن بئر المياه في عجرود هو دليل حي على وجود حياة مزدهرة في هذه المنطقة. وأنها لم تكن مجرد طريق عبور، بل مركزًا نابضًا احتضن الحجاج والمسافرين والتجار على مدار مئات السنين.
وأضاف أن هذا البئر، إلى جانب البئر الآخر الموجود حتى اليوم داخل محل لتصليح الأحذية في منطقة “الغريب”، هما شاهدان حيان على عمق الجذور التاريخية لمحافظة السويس. مؤكدا أن حماية هذه المواقع واستكشافها يمكن أن يحولهما إلى مزارات أثرية وسياحية كبرى.

النشاط الاقتصادي والاجتماعي في موسم الحج
لم يكن موسم الحج حدثًا دينيًا فقط في السويس، بل كان أيضًا موسمًا اقتصاديًا واجتماعيًا ضخمًا. كان الأهالي يستعدون له قبل شهور. حيث تقام الأسواق، وتجهز السفن، ويعمل الحرفيون على إصلاح القوافل. بينما تقدم البيوت الطعام والمأوى للمسافرين.
وكان التجار ينتظرون هذا الموسم لتبادل السلع بين مصر والمناطق التي يمر بها الحجاج. فقد كانت رحلة الحج فرصة تجارية كبرى، تباع فيها الأقمشة والتوابل والجلود، وتجلب منها بضائع من الحجاز واليمن والهند وغيرها.
ورغم مشقة الطريق، لم تغب المرأة عن قوافل الحج، بل كان لها دور خاص، سواء كحاجة تؤدي المناسك، أو كمرافقة لأحد أقاربها، أو حتى كبائعة تعد المؤونة أو تبيع الطعام، وكانت نساء السويس يشاركن في تحضير الحجاج وإعداد المستلزمات، بل وهناك بعض الروايات التاريخية ذكرت نساء تولين رعاية الحجاج طوال رحلتهم، خاصة كبار السن والمرضى.
تراجع دور السويس بعد تطور وسائل النقل
مع تطور وسائل النقل وظهور الطائرات، بدأ دور السويس كميناء رئيسي للحج يتراجع تدريجيًا. لم تعد القوافل البرية ولا السفن هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى مكة. بل أصبحت الرحلات الجوية من مطار القاهرة مباشرة إلى جدة هي الأسرع والأكثر اعتمادًا.
ومع ذلك، بقيت السويس في الذاكرة، رمزًا للرحلة الطويلة التي كانت تبدأ فيها الأرواح بالإحرام. قبل أن تمضي على بركة الله نحو بيت الله الحرام.
اقرأ أيضا:
«مولد عبد الله الغريب».. حكاية تمتد جذورها لأكثر من 100 عام في السويس