الست التي تُعطي العهد: عن النساء اللائي ورثن السر الصوفي (2-5)
حدب الدهرُ علينا وحنا
ومضى في حكمه دون ونى
فركبنا نطلب الأصل الذي
جعل السر لدينا علنا
فلنا منه الذي حركنا
وله منا الذي سكننا
-ابن عربي.
تتحرك في الساحات، تسمع الأناشيد، يناديك البعض ليعرفك، ويناديك آخرون لتعرفهم، وهكذا مئات الأرواح التي تتقاطع طرقها إما في الواقع أو في عالم الحقيقة أو قبل الأزل. يسألني أحدهم: “أنتِ في أي طريقة؟ وله أنتِ لسه ما عندكيش شيخ؟” يرد آخر عليه سريعًا قبل أن يرتد إليَّ طرفي: “مش شايف السبحة في إيديها؟ أكيد واخدة عهد وعندها شيخ”.
كان هذا في أول زيارة لي لسيدي أبو الحسن الشاذلي ساكن حميثرا، حيث تجبر الصحراء الناس على التقرب من بعضهم البعض وسبر أغوار كل منهما للآخر، فبعد أن يحط الليل وتنتهي أعمال الخدمة وإطعام المساكين، لا يبقى لدينا إلا السهر والإنشاد والحكي عن أنفسنا وعن رحلتنا الخفية التي أدت بنا إلى المكان نفسه رغم اختلاف خلفياتنا الاجتماعية والثقافية.
وفي محاولة من بعض الطيبين أن يجذبوك للطريقة التي ينتمون إليها لتكونوا إخوة في الطريق والعهد والشيخ، حاول أحدهم في مرة وهو شيخ عجوز مجذوب أن يجعلني أردد وراءه نصًا قصيرًا. لم أكن وقتها على دراية كاملة بفكرة العهد، لكنني فهمت ما كان يريده العجوز الطيب. انسحبت بلطف، وبعدها جاءتني سيدة جميلة من الطريقة نفسها، اعتذرت لي، وقالت: “معلش هو حبك، بس عقله على قدّه يا حبيبي، مجذوب. العهود مبتتاخدش كده، لازم اللي ياخد العهد يبقى مدرك كويس لأن العهد ميثاق ووعد ومسؤولية وحاجات كتير، ومش أي حد يدي عهد”.
***
هنا بدأت أتساءل: ما هي فكرة العهد؟ ولمَ هي مهمة إلى هذه الدرجة؟
يقول الصوفية إنّ كل سلوكٍ إلى الله يبدأ بعهد. والعهد في اللغة هو الوصل والوعد والميثاق، وفي القلب هو لحظة تعاهدٍ خفية بين العبد وربه؛ أن يظل على الذكر ولو جفّ اللسان، وأن يبقى حاضر القلب ولو غاب العالم من حوله. لكن حين تمتد اليد لتأخذ هذا العهد من يد امرأة، تهتزّ الصورة المألوفة التي نسجها التاريخ للولاية، وتدخل الأنوثة من بابٍ خفيٍّ إلى قلب الطريق.
في الطرق الصوفية، يُعدّ أخذ العهد لحظة الولادة الثانية للمريد؛ حين يضع يده في يد الشيخ، وينطق بوعدٍ داخلي أن يسلك سبيل التزكية. غير أن الحكايات الشعبية في مصر تحفظ لنا نساءً لم يكتفين بتلقّي العهد، بل أعطينه؛ نساءً جلسن في المجالس، وأعطين الإذن والورد، ووهبن البركة، كما لو أن أسرار الطريق قد تسربت إليهنّ من مجرى أعمق من المألوف.
والعهد ليس مجرد نص تردده وراء شيخك، بل هو التزام وإخلاص، وأوراد يحددها لك شيخك، وعليك أن تلتزم بها وتلازم شيخك وتتردد عليه وتستفتيه في أمورك الدنيوية والدينية. ولكن هل العهد يؤخذ فقط من يد المشايخ الرجال؟ أم هل يمكن أن يؤخذ من يد امرأة شيخة أو معلمة أو مربية؟ وإن كن النساء يحملن الولاية لا خلاف، هل يمكن أن يعطين العهود ويربون المريدين؟ هذا هو السؤال الذي أنهينا به المقالة السابقة، وفي هذه المقالة من سلسلة مقالات “نساء في حضرة البركة” نحاول الإجابة عليه.
***
تقول الكتب القديمة إنّ أول من بايع النبي ﷺ من النساء كنّ المؤمنات المهاجرات، وقد أخذ عليهنّ العهد ألا يُشركن بالله شيئًا، وألا يعصين في معروف. في الآية نفسها التي نزلت في بيعة النساء (سورة الممتحنة: 12)، وُضعت اللبنة الأولى لفكرة أن الميثاق الروحي لا يفرّق بين رجلٍ وامرأة. ولهذا حين نشأ التصوف الإسلامي، لم يجد المتصوفة غضاضة في أن تُؤخذ البيعة للنساء أيضًا، وإن بغير مصافحة، لأنّ العهد الحقيقي لا يمرّ عبر الجلد، بل عبر القلب.
ولأنّ المصريين قومٌ لا يفصلون بين الدين والعاطفة، فقد عبرت الفكرة من المتون إلى الحكايات؛ فصار في الموروث الشعبي نساءٌ يعرفهنّ الناس بالاسم، لا لأنهنّ زوجات أولياء، بل لأنهنّ أولياء في ذواتهنّ. الست نفيسة بنت الحسن مثلًا، لم تكن محدّثة فحسب كما تذكر كتب الطبقات، بل كانت معلمةً ومُلهمةً للرجال والنساء، وكان المريدون يأتونها لتجديد التوبة، يضعون نذورهم في محرابها، ويخرجون بوجهٍ ألين وقلبٍ أخف. يذكر الشعراني في الطبقات الكبرى أنّ بعض الصالحين كانوا يستأذنونها في أورادهم، وهو نوعٌ من أخذ الإذن الصوفي الذي يوازي العهد في جوهره.

***
كذلك الست رقية بنت الإمام علي زين العابدين، التي ظلّ مقامها في القاهرة شاهدًا على أن الولاية في الذاكرة المصرية لم تكن حكرًا على الذكور. كانت تُزار طلبًا للستر، وتُروى عنها الكرامات، ويقال إنّها كانت «تُصلح القلوب المكسورة» — وهو وصف شعبي بسيط لما يسميه الصوفية تطهير الباطن.
وبالعودة إلى ابن عربي، فإن المشاع عنه أنه تتلمذ على أيدي الرجال والنساء على حد سواء، بل كان تأثير المرأة في حياته أقوى وأعمق من تأثير الرجل. فقد كانت أستاذته أو شيخته امرأة تدعى فاطمة بنت ابن المثنّى القرطبية، خدمها وأقام معها… (الأنوثة في فكر ابن عربي – نزهة براضة، ص8).
ولكن حين كنت في إحدى رحلاتي البحثية مع بعض النساء اللاتي يدرن خدمات أو يرون المريدين عن فكرة أخذ العهد من امرأة، كان الأمر غريبًا قليلاً. لم تذكر ولا واحدة منهن أنها أخذت العهد عن شيخة، بل حكت لي كل واحدة منهن عن شيخها ورحلتها الروحية حتى وصلت له وقابلته ثم أخذت عنه العهد، وبسؤالهن عن الأمر اعترضن جميعًا تقريبًا على هذه الفكرة، مؤكدات أن العهد لا يؤخذ إلا عن الشيوخ من الرجال.
***
إلا سيدة واحدة “الحاجة صفية” التي سجلت معها إحدى المرات وفتحت لي بيتها وقلبها وتحدثنا كثيرًا، وناقشنا بعض أفكار ابن عربي. وحين علمت أنني على دراية بسيطة بأفكاره، سعدت كثيرًا، وقالت: “كده هيبقى بينا كلام كتير”. تعترض الحاجة صفية على فكرة التفرقة بين الرجل والمرأة وتقول إن هذا من فعل بعض المفسرين.
في بيت صفية تجد بعض الكتب والأوراق في أكثر من زاوية ونظارة للقراءة وأقلام. بعد الحديث معها، تجد صفية مثقفة جدًا، متمردة على عاداتها الصعيدية لكن دون تجاوز فجّ، أو ضد الدين. ترفض بصرامة فكرة أنه هناك فرق بين الرجال والنساء، كما ترفض فكرة أن المرأة لا يصح أن تعطي عهدًا، وتقول صراحةً إنها قابلت أحد الصالحين في سيدي أبو الحسن الشاذلي وقال لها: “اللي مخدش قبضته من ست يبقى مخدش قبضة”.
***
بمواصلة هذه الفكرة التي تطرحها الحاجة صفية، حين نقرأ آية كريمة مثل: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) سورة الأحزاب”، لابد أن نفهم أن كلمة “الرجال” هنا لا تعني بالضرورة أن الرجال فقط هم من يحفظون العهود، بل الرجال والنساء على حد سواء استنادًا للحديث النبوي الشريف “النساء شقائق الرجال”.
من هذه الزاوية، تعتبر الرجولة حالًا من أحوال البشرية، يجتمع فيها النساء والرجال، وتظهر في الإنسان من جهتين: جهة سلوكية تتدخل فيها الإرادة، وتتميز بالتمركز حول الأنا، وتعكسها الفاعلية، وجهة معرفية تبرز بتحكم العقل في الإنسان الذي يتجرد من الحياة الطبيعية بما فيها من حب وهوى وحيرة فيسير صاحب هذا المقام وفق الوجوب المنطقي، وذلك ما يقصده الشيخ الحاتمي عندما يصرّح بكثير من الترميز أن الإنسان:
“إذا خلص (…) بعد خروجه من ظلمة طبعه وهواه إلى نور عقله وهداه أربعين صباحًا، (…) [كان رجلاً عند ذلك، وإن لم يحصل له هذا الوجوب فليس برجل، فكمال الرجولية فيما ذكرناه، وسواء كان ذكرًا أو أنثى…]” (نزهة براضة.. الأنوثة في فكر ابن عربي ص133).
***
في هذه السلسلة الممتدة من النساء، من رابعة العدوية في البصرة إلى أم الغلام في القاهرة، تتجلى ملامح «الست التي تُعطي العهد». إنها ليست مجرّد شيخةٍ تُلقّن الورد، بل هي صورة الأنوثة الإلهية التي تحدّث عنها ابن عربي في الفتوحات المكية حين قال: «المرأة مظهر اللطف، ومن لا يعرف اللطف لا يعرف الله». فحين تمنح المرأة العهد، تمنحه بروح الأمومة الكونية؛ تفتح قلبها لا يديها، وتغفر قبل أن تطلب الطاعة.
في النهاية، حين تُعطي امرأة العهد، فهي لا تمنح سلطة ولا رتبة، بل تمنح سكينة. تمدّ يدها الرمزية نحو قلب من يقف أمامها، وتقول له: “كن لله كما يريد، يكن لك فوق ما تريد”، تلك العبارة التي عبرت الأجيال صارت أشبه ببصمة خالدة في روح الطريق؛ لأنّ العهد في الأصل وعدٌ بالحب والإخلاص، ومن يعرف الحب أكثر من امرأةٍ ولدت على الستر؟
ومن الولاية وأخذ العهود إلى الإمامة، هل حقًا لا يفلح قومٌ ولو أمرهم امرأة؟ هذا ما سنحاول مناقشته في المقالة القادمة.
اقرأ أيضا:
نساء في حضرة البركة: «الست الولية.. حين تحمل النساء سرّ الولاية» (1-5)