سليم حسن.. التاريخ في خدمة مشروع «الأمة»

اختارت اللجنة العليا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، اسم عالم المصريات الدكتور سليم حسن، شخصية الدورة الـ55. وبررت اختيارها بأن له «دور كبير في ترسيخ الهوية المصرية»، لكنها لم تتعمق في البيان الرسمي في توضيح هذه النقطة، التي نسعى هنا لاستجلاء معالمها. والكشف عن جوانب جديدة في مسيرة حسن الذي نضعه في سياق حركة اجتماعية وثقافية ميزت مصر بعد ثورة 1919 وميلاد الأمة المصرية. وكيف انخرط عالم المصريات في هذه الموجة عبر استخدام التاريخ في خدمة مشروع الأمة المصرية وتثبيت هويتها.

يعد سليم حسن (مواليد 1893م)، نموذجا من جيل انخرط في ثورة 1919 وتولد عنده شعور بالحس الوطني العالي في مواجهة الاحتلال البريطاني. وقد تلقى جرعة وطنية وسياسية عالية كان لها تأثيرها الحاسم على حسن واختياره دراسة تاريخ مصر القديمة. كنوع من أنواع البحث عن حلول للمصريين وإعادة شحن ذاكرتهم بحقيقة أن أجدادهم بنوا حضارة عريقة علمت العالم كله. وهي رسالة أظن أن سليم حسن أقتنع منذ البداية أن عليه القيام بها.

لا ننسى أنه نشأ في ظل تصاعد الحديث حول شعار أحمد لطفي السيد بأن “مصر للمصريين”، بالتوازي مع توالي الاكتشافات الأثرية التي لفتت الأنظار إلى عراقة التاريخ المصري. وإن كانت هذه الاكتشافات تمت على يد الأجانب، فرأى سليم حسن أن يبدأ خطوات تمصير علم المصريات وفك أسره من يد الأجانب. لذا لم يكن غريبا أن يتخرج في العام 1913، في حين صدر قرار تعيينه في سنة 1921. أي بعد سنتين من ثورة 1919 والتي فجرت المشاعر الوطنية وخلقت الهوية المصرية وتيار التمصير الجارف.

***

ولدت الشخصية المصرية أو الهوية المصرية مع ثورة 1919. فلأول مرة يفكر المصريون في مصر بلا أي ارتباط بمصير الدولة العثمانية أو الاحتلال الأوروبي. كانت الثورة تعبيرا عن المصريين ومصريتهم، رمزها هو سعد باشا زغلول، الذي تجسدت فيه آمال الأمة المصرية في إعادة البعث من جديد كما كانت في العصور القديمة. وهنا أظن أن سليم حسن وجد نفسه أمام مهمة تاريخية وهي التعبير عن عظمة الشعب المصري باستدعاء تاريخه لكي يشحن بطاريات الوطنية عند المصريين.

وضع سليم حسن نصب عينيه مهمة بناء ذاكرة تاريخية للمصريين، تربط بين تاريخهم المجيد وبين حاضرهم من أجل تخليص الأخير من لحظة الهوان الذي يعيشه. فالتاريخ له وظيفة واضحة عنده، فبدأ في الكتابة للصحف المختلفة ليصل برسالته لأكبر عدد ممكن من المصريين. وقد وصل إلى ذروة هذا الهدف بمقاله عن “العادات المصرية القديمة الباقية إلى الآن في مصر الحديثة”. والذي نشر في إبريل 1937، ويربط فيه بين المصري القديم والمصري المعاصر، من أجل صناعة ذاكرة تاريخية متصلة.

ويكاد يتحدث عن ثبات الشخصية المصرية وعدم تأثرها بالمحتل. ونرى هنا أن الهدف السياسي الأعلى يطغى على روح العالم، بل نرى ملامحا من ملامح الشيفونية المصرية. فيقول إن أعجب ما في مصر هو أنها “لم يغيرها كر الغزوات وتغلب الدول والشعوب، فهي وسط تلك التغيرات التي مرت عليها طوال أكثر من خمسة آلاف سنة. لا تزال محافظة على تقاليدها وعاداتها القديمة”. مثل هذا الكلام تبدو فيه عاطفة مصري معجون بالوطنية ويرى في التاريخ أداة لشحن ذاكرة مواطنيه في لحظة ذروة في مسار التحرر الوطني.

***

ومنذ العام 1940 بدأ سليم حسن في إنتاج موسوعته الشهيرة “مصر القديمة” التي ظهرت في 18 مجلدا والتي وضح فيها منذ البداية هدفه العميق بالحديث عن الهوية المصرية والتنقيب عن جذورها في مواجهة الاستعمار الإنجليزي. كانت الكتابة عن مصر القديمة هي الرد الوطني الأمثل من وجهة نظره. لمواصلة دوره التنويري في بناء ذاكرة تاريخية لترسيخ شعور الهوية الوطنية في مواجهة الاحتلال البريطاني.

هذا الدافع عززه رغبته في إثبات قدرة المصريين على التأليف في تاريخهم القديم بنفس كفاءة الأجانب. ولذا اختار الكتابة بالعربية لأن حقل الكتابة بالعربية في هذا المجال كان لا يزال ضعيفا. فأراد تقديم عملا يمكن البناء عليه مستقبلا من أجل تكوين مدرسة علمية مصرية تكون على نفس مستوى المدارس الأوروبية في كتابة التاريخ المصري.

سليم حسن
سليم حسن

في هذا السياق طبيعي أن يكون انحياز حسن للشعب، لأنه ابن هذا الشعب، والمنخرط في قضاياه والريفي الذي لم ينس أصوله أبدا، والذي شاهد معاناة الفلاحين في الحقول لخدمة الإقطاعيين والاحتلال. لذا كانت الكتابة عنده من أجل تحرير وعيهم من أكاذيب أنهم ولدوا هكذا وسيظلون هكذا عبيدا للأرض. ومن أجل إثبات أنهم يستطيعون الثورة على الظلم وتحقيق الاستقلال والازدهار كما فعل أجدادهم يوما، كانت كتابته في حقيقتها كتابة ثورية جدا.

***

ونلاحظ هنا أنه قال في حوار له سنة 1932: “إنني أعتقد أن الشخص الذي ليس له ماض لا يستحق أن يكون له حاضر. والشخص الذي يريد بيع ماضيه ونسيانه والتخلص منه لا يكون مثله إلا كمثل الذي يجهل أباه، ولا يدري من أين أتت به أمه”. ثم يضيف بلهجة وطنية حارة: “كان تاريخ الماضي عبرة الحاضر والمستقبل… ومجد الآباء هو المنار الذي يهدي الأبناء إلى أن ينهجوا نهجهم ويتشبهوا بهم في كل ما يقومون به من جلائل الأعمال وأمثلة العظمة والفخار”.

لا يعبر سليم حسن عن نفسه فقط بل يعبر عن جيل كامل من المصريين رأى أن مهمته تقتصر على دعم المسار التحرري بكل وسيلة وسلاح ممكن سواء على مستوى ثقافي أو تاريخي. هنا يتضح لنا مدى انشغاله ببناء هوية تاريخية للمصريين المعاصرين، ولذا نراه يربط بين الماضي والحاضر. ففي مقالة نشرها سنة 1947 بعنوان: “الفلاح المصري يشكو اضطهاد طبقة الموظفين”، نرى التوظيف للاستدعاء التاريخي كما يجب أن يكون. فلا يمكن فصله عن ما كان يحدث في نفس العام من أزمات في الريف المصري بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد في ظل تجاهل كبار الإقطاعيين لهذه المشاكل.

الأمر الذي انعكس في اندفاع سليم حسن في الهجوم على الإقطاعيين في العصور القديمة في إسقاط واضح على الوضع المعاصر الذي يهيمن فيه كبار الملاك على الحياة الاقتصادية للمصريين. فيقول عن هذه الحالة: “حالة محزنة وظلم فاحش واضطهاد شائن يئن منه الفلاح المصري”. فأي فلاح يقصد فلاح العصر القديم أم فلاح العصر الحديث والظروف واحدة والظلم واحد؟ ولما انتهت شكوى الفلاح الفصيح بتدخل السلطة لفرع المظلمة. نراه يختم المقال بقوله: “والآن نسأل هل أعطى الكاتب الاجتماعي القديم درسا لمصري الجيل الحاضر؟”.

***

ربما يكون سليم حسن عبر أحسن تعبير عن هذه الأفكار في ترجمته لكتاب “فجر الضمير” لجيمس برستيد. إذ يقول إن الكتاب خير كتاب أُخرج للناس في هذا العصر. والذي يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول. بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية.

فنراه يقول في مقدمة الكتاب: “لذلك يخيل إليَّ أن مصطفى كامل حينما قال: لو لم أُولد مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا. كان يحس في أعماق قلبه وفي دمه ما سيظهره الأستاذ برستد للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقدم السابقة. في تكوين ثقافة العالم. وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي شعَّ على جميع العالم. ولا غرابة في إحساس مصطفى كامل بهذا الشعور. وبتلك العزة القومية والعظمة النفسية التي عزز صدقها برستد عام 1934 تاريخ نشر الكتاب بالإنجليزية.

ويعترف سليم حسن أنه ترجم الكتاب أفضل من أن يؤلف مثله لكي لا يتهم بمحاباة بلاده. ويكون كتابه المؤلف موضع ريبة وشك عند جمهرة العلماء عامة ومن لا يميلون للمصرية أو يتنصلون منها خاصة. ويختم كلامه في مقدمة الترجمة قائلا: “لذلك رأيت أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربي أن يقرأوا هذا الكتاب. فإنه يكون من ألزم الواجبات على كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه. لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده التي أخذ عنها كل العالم”.

***

في ضوء هذا الكلام الذي صدر عن صاحبه في سنة 1956. يمكن لنا أن نفهم ما عكسته كتابات سليم حسن في بناء هوية تاريخية وغرس هذه البذرة في عقول أجيال من المصريين بالاعتزاز بتراثهم وإعادة الارتباط به. وقد تلقت العديد من الأجيال الجديدة كتب سليم حسن بالقراءة والاقتناء. منذ أن أعادت مكتبة الأسرة طبع أعماله منذ تسعينيات القرن العشرين في إعادة بعث لمشروعه. بما يؤكد أنه كان سباقا في تفكيره عندما بدأ يؤلف بالعربية في حقل المصريات. لإرضاء تعطش المصريين لقراءة تاريخ أجدادهم. كما يكشف عن واحد من أهم المشروعات التي عملت على بناء هوية تاريخية للمصريين بهدف نضالي في الأساس.

إن نموذج سليم حسن لم يلق عليه الضوء من قبل في السياق الذي نتحدث فيه عنه. لكنه في الحقيقة ليس بدعا عن الواقع الذي شهدته مصر في النصف الأول من القرن العشرين. وهي الفترة التي نستطيع القول إنها كانت فترة “بناء الذاكرة التاريخية للمصريين” بامتياز. بداية من الحراك السياسي الذي قاده حزب الوفد. والذي علمت النخب المثقفة على صياغة أبعاده مع تجارب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبدالرحمن الرافعي وسليم حسن ومحمد عبدالوهاب مثلا. بالتوازي مع مسار التحرر الاقتصادي الذي قاده طلعت حرب.

اقرأ أيضا:

أحاديث الجوى.. وصاحب الخريدة إذا حكى

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر