دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«الجلباب المصري».. رحلة «زي» عبر الحضارات من نقوش المعابد إلى بيوت اليوم

منذ اللحظة التي بدأ فيها المصري القديم يشكل ملامح حياته ويضع أسس العلاقة بين الجسد والبيئة، ظهر الثوب الطويل المصنوع من الكتان كواحد من أهم الشواهد المادية على تطور الحضارة. لم يكن الكتان مجرد خامة، بل رمزًا للمعرفة الزراعية التي تميزت بها مصر، حيث زرع المصريون الكتان وحولوا أليافه إلى أنسجة دقيقة تتناسب مع حرارة المناخ وطبيعة الحياة اليومية. في تلك الفترة، كان الإزار أو الشنديت محور الملبس، يلتف حول الجسد بأسلوب متناغم مع الحركة، ويعكس في الوقت ذاته الانضباط الاجتماعي والاحترام للنظام الكوني الذي آمن به المصري القديم.

جذور الزي المصري منذ فجر التاريخ

كان الكهنة يرتدون الكتان الأبيض رمزًا للنقاء المرتبط بالطقوس. بينما ارتدى الفلاحون النسخ العملية التي تسمح لهم بحرية العمل في الأرض دون قيود. ومع تطور الدولة القديمة ثم الوسطى، برزت الرداءات الطويلة ذات الثنيات الدقيقة، التي شكلت علامة على الوجاهة والأناقة، وزُينت ملابس النبلاء بخيوط وألوان. بينما ظل الأبيض هو سيد المشهد، لأنه اللون الذي يجمع بين الجمال والوظيفة في بيئة حارة ومشمسة.

هذا الامتزاج بين الوظيفة والرمزية جعل الملابس جزءًا من الهوية المصرية، القائمة على الحدود بين الحياة اليومية والطقوس الدينية. حيث كانت الطهارة وارتداء الثياب النظيفة شرطًا لدخول المعابد. ومكونًا أساسيًا في الشعائر المرتبطة بالموت والبعث. وعبر البرديات والتماثيل والنقوش، يمكن قراءة تاريخ كامل للزي المصري: كيف نشأ، وتغير، وظل وفيًا لجوهره الأول رغم تعدد أشكاله.

هكذا، تقف الجلابية المعاصرة على امتداد خط يبدأ من تلك اللحظة الأولى التي نسج فيها المصري ألياف الكتان. لتتحول عبر آلاف السنين إلى رمز عميق لحضارة لم ينقطع خيطها.

الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
ثياب السلطة في الدولة الملكية ودلالات الهيبة

في قلب الدولة المصرية القديمة، حيث تُرسم ملامح السياسة ويعاد إنتاج الرمزية الدينية. كانت الملابس الملكية أداة بصرية تحمل خطابًا واضحًا عن السلطة والقداسة. منذ ما قبل الأسرات، كشفت لوحة نعرمر ومقتنيات الملك عن الزي الملكي شبه الملفوف حول الجسد بصرامة. حاملا بدايات فكرة المظهر الذي يميز الملك عن بقية أفراد المجتمع.

ومع تطور الدولة، أصبح الشنديت الملكي قطعة عالية التعقيد؛ تُلف حول الوسط بخبرة وتزين بثنيات دقيقة تظهر الصنعة ومكانة مرتديها. وفي الدولة الحديثة، برز الحايك الشفاف، طويل وفضفاض، ينساب حول الجسد بطريقة مركبة تعكس التطور الفني في صناعة النسيج. ويُثبت بعقدة محسوبة، فيما يظهر الذيل الرمزي للثور كإشارة للقوة الملكية.

لم تكن هذه الملابس مجرد ثياب فاخرة، بل كانت محملة بدلالات سياسية ودينية: اللون، عدد الثنيات، نوع النسج، مكان العقدة، وكل تفصيل كان يتكلم بلغة السلطة. وفي النقوش، تتكرر صورة الملك في ثياب مختلفة للمناسبات العسكرية، الدينية، الاحتفالية، أو الرسمية، ما يعكس تنوع الأدوار التي كان الملك يجسدها.

لقد كان الزي الملكي إعلانًا دائمًا عن موقع الفرعون كوسيط بين السماء والأرض. وكقائد سياسي يفرض النظام عبر رمزية بصرية قوية. ولا يمكن فهم تطور الزي المصري العام دون قراءة هذا التأثير الملكي، الذي انعكس على ملابس الكهنة وحتى العامة.

ومن هنا، أصبحت الجلابية لاحقًا -على اختلاف مسمياتها عبر العصور- امتدادًا مبسطًا لخط طويل جمع بين السلطة والرمزية والوظيفة.

العصر القبطي.. احتشام جديد لميراث قديم

مع دخول المسيحية مصر، لم يكن الحدث مجرد تحول ديني، بل كان انتقالًا ثقافيًا واسعًا أثر على الحياة كلها بشكل واضح، بما فيها الملبس. برزت الحاجة إلى الاحتشام كقيمة روحية. فظهرت الدلمسيات الواسعة والجلابيب الطويلة ذات الأكمام المتسعة، التي تجمع بين الراحة والستر.

ورغم تأثر الأزياء القبطية بالأنماط الإغريقية والرومانية والبيزنطية. ظلت محافظة على روحها المصرية الأصيلة، مع خطوط بسيطة، خامات طبيعية، وألوان هادئة. وأصبحت الزخارف النسجية عنصرًا أساسيًا، تظهر في شكل صلبان أو زخارف نباتية وهندسية تُحاك داخل النسيج لا فوقه. في دلالة على فكرة الاتحاد بين الجسد والروح والزي.

قدم الفن القبطي- في اللوحات الجصية والمقابر والمخطوطات- مرجعًا بصريًا مهمًا لهذه المرحلة. حيث يظهر الرجال بملابس فضفاضة تعكس التحول الاجتماعي نحو الاحتشام. وفي الوقت ذاته تحمل امتدادات واضحة من اليونانيين والرومان.

رغم صعوبة تحديد فترات زمنية دقيقة للملابس القبطية بسبب التداخل التاريخي، تشير الخطوط العريضة إلى تطور متدرج في الزي. بداية من القمصان القصيرة نسبيًا إلى الدلمسيات الطويلة، ومن الألوان المحدودة إلى تنويعات أكثر جرأة في الزخرفة. وإن بقيت أقل بهرجة وأكثر بساطة من البيزنطيين الذين غلبت على أزيائهم الأحجار والجواهر. ومع ذلك، ظل جوهر الملبس القبطي متسقًا مع المزاج المصري القديم، الذي فضل بساطة الشكل واستقرار التفاصيل. هذا المزاج هو الذي استمر لاحقًا في الجلباب الإسلامي، ثم الجلابية الريفية. ما جعل العصر القبطي حلقة رئيسية في سلسلة تطور الزي المصري، تربط الماضي بالحاضر الإسلامي دون انقطاع.

الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
العصر الإسلامي.. عنوان الهوية والاحتشام

مع دخول الإسلام، أعادت مصر بناء علاقتها بالزي من جديد، لكن دون أن تقطع صلتها بتراثها الأصلي. حيث ظهر الجلباب الإسلامي طويلًا وفضفاضًا، يغطي الجسد بالكامل، ويعكس قيم الاحتشام والتواضع. لكنه حافظ على السمات المصرية القديمة الاتساع، بساطة القصة، وسهولة الحركة.

في المدن، خصوصًا القاهرة والفسطاط، اكتسب تفاصيل أكثر دقة-مثل التطريز على الأكمام ومنطقة الصدر-في إشارة إلى الذوق الحضري وارتباط الطبقات العليا بالصناعات النسجية المتقدمة. أما الريف والصعيد والواحات. فقد ظل عمليًا في المقام الأول ألوان داكنة تتحمل العمل في الشمس، قصة واسعة تناسب التنقل في الأرض، وأقمشة قطنية محلية النسج.

إلى جانب الجلباب، يرتدي الرجال الشال والملحف كإكسسوارات تكمل الهوية الاجتماعية؛ مع البلغة كحذاء، الشال يعبر عن المنطقة. أما البلغة فتمثل حضورًا راسخًا للفلاح المصري الذي حافظ على بساطة أدواته.

ومع ازدهار الحياة التجارية في العصور الإسلامية، أصبح الجلباب لباسًا يوميًا لكنه أيضًا حضور أساسي في المناسبات الدينية والاجتماعية مثل صلاة العيد، الموالد، الأفراح، العزاء. ومن خلاله برزت رمزية الطبقة الاجتماعية. حيث تختلف الخامة واللون وطريقة الخياطة بين المزارع والتاجر والعالم والموظف.

وهكذا، لم يكن الجلباب مجرد استجابة دينية للستر، بل إعادة إنتاج مصرية خالصة لإرث قديم أعادت إليه الحضارة الإسلامية روحًا جديدة. ليصبح أساسًا للجلباب البلدي الذي نعرفه بشكله الحالي اليوم.

العصر الحديث.. بين صمود التراث وتغير الذوق العام

في القرن التاسع عشر، بدأت القاهرة والإسكندرية تتأثر بموضة أوروبا، حيث ظهرت البناطيل والقمصان والبدل كأساس للملابس الحضرية. لكن الريف والصعيد لم ينجرفا مع الجديد، بل حافظا على أصلهما باعتبارها أكثر ملاءمة لظروف العمل والأرض والمناخ. وهكذا، ترسخت الجلابية كعلامة ريفية وصعيدية أصيلة. ترتبط بالرجل الذي يعمل في الأرض ويعيش قرب النيل.

وفي القرن العشرين، أخذت الجلابية مكانًا بارزًا في السينما والمسرح والأدب في شخصية الفلاح المكافح، والصعيدي المعتز بكرامته، والرجل المصري التقليدي الذي يجمع بين الشهامة والانتماء. ومع صعود الدولة الحديثة، وانفتاح المدن على الأزياء العالمية. ظل هناك خط ثابت في المجتمعات الريفية والقبلية يتمسك بالجلابية بوصفها قطعة لا تتغير بتغير الموضة.

ومع تطور وسائل التواصل في القرن الحادي والعشرين، بدأ شباب المدن ينظرون إلى الجلابية من زاوية جديدة: رمز للأصالة الذي يمكن إعادة تقديمه بشكل معاصر. حيث ظهرت جلابيات محسنة بخياطات دقيقة، وأخرى تقدم كتجربة فنية في المهرجانات أو المناسبات الشعبية. ليصبح الزي القديم جزءًا من موجة استعادة التراث بصياغة حديثة. ومع هذا التنوع، بقي العامل المشترك هو جوهرها المتمثل في الراحة، الاتساع، وسهولة الحركة. وهي السمات نفسها التي عرفها المصري القديم قبل آلاف السنين.

الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
الجلباب.. الصورة مشاع إبداعي
مرآة الهوية المصرية

تمثل الجلابية المصرية اليوم أكثر من كونها لباسًا، فهي خيط نادر يربط بين عصور مختلفة من التاريخ المصري دون انقطاع. ما يميزه ليس شكله فقط، بل كونه حاملًا لقيم اجتماعية وثقافية متوارثة: البساطة، احترام الجسد، الارتباط بالأرض، والقدرة على ابتلاع التأثيرات الخارجية دون فقدان الروح.

اختلاف الألوان بين الصعيد- حيث تفضل الداكنات- والدلتا-حيث تنتشر الألوان الزاهية- ليس اختلافًا جماليًا فقط، بل انعكاس لثقافة المجتمع. وكذلك الاختلاف في عرض الأكمام ووسع الجلابية وطولها، وفي طريقة ارتداء الشال أو الحزام. كلها إشارات إلى الانتماء الاجتماعي والطبقي.

ورغم أن الموضة الحديثة استطاعت تغيير أنماط اللباس في المدن. فإن الجلابية صمدت بوصفها رمزًا للثبات الثقافي، وقطعة تجمع بين الوظيفة والهوية في آن واحد. وفي زمن تتسارع فيه التغيرات، تتحول الجلابية إلى وثيقة ثقافية تعكس الذاكرة المصرية الجمعية: الماضي الذي لم يختف، والحاضر الذي لا ينفصل عن جذوره.

اقرأ أيضا:

سليمة إكرام: كرسي «أميليا بيبودي» يعزز مستقبل علم المصريات في مصر

كيف استقبل علماء المصريات حول العالم افتتاح المتحف المصري الكبير؟

تراث مصر غير المترجم.. ميراث الحضارات بين صوت المصري وقلم المستشرق

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.