الجريمة مستمرة: نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي تمهيدا لهدم مقبرته
شوقي يلحق بالبارودي.. البلدوزر يدهس مدرسة الإحياء الشعري

لا يزال مسلسل هدم المقابر التاريخية في جبانات القاهرة مستمرًا، إذ يبدو أن الحكومة غير عابئة بأي مطالبات للحفاظ على القيمة التاريخية والتراثية لعديد من مقابر الشخصيات التي أثرت في تاريخ مصر وتركت بصماتها عليه، إذ جاء الدور على مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي (1868- 1932م)، أهم شاعر مصري وعربي في العصر الحديث، ليلحق ضريحه بضريح سلفه الشعري محمود سامي البارودي (1839- 1904م)، وكلاهما من مدرسة الإحياء الشعري التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ورغم القيمة الكبرى لشوقي كأحد أهم الرموز الأدبية والشعرية في العصر الحديث في مصر، والذي بايعه شعراء العرب بإمرة الشعر في مشهد نادر واحتفال صاخب، إلا أن هذا كله لم يشفع له إذ أعلن عدد من موثقي الجبانات، أنه تم نقل رفات أمير الشعراء من مقبرته، بينما أشرفت محافظة القاهرة على عملية تفكيك التركيبة الخاصة بضريح شوقي، ونقلتها إلى جهة غير معلومة، ولا يعرف ما إذا كانت هذه التركيبة الجميلة والفخمة ستنقل إلى متحف أحمد شوقي بالجيزة، أم ستنقل إلى مقبرة الخالدين التي تحولت إلى متحف لبعض شواهد القبور المنتزعة من سياقها بعد أن تم إزالة المقابر إلى الأبد!
النية كانت مبيتة لإزالة مقبرة أحمد شوقي، التي تقع في حيز ترب السيدة نفيسة في مواجهة طريق صلاح سالم، وتحديدًا في مدفن كريمات حسين بك شاهين، والد زوجة أحمد شوقي، إذ دفن الأخير في مدفن عائلة زوجته، وتعرض المدفن الذي يقف على مدخل الشارع المؤدي إلى مشهد السيدة نفيسة، إلى هجمة من مجهولين كسروا تركيبات مقابر الأسرة، بما فيها تركيبة قبر حسين بك شاهين، وذلك في أغسطس 2023، وهي الجريمة التي كشفها الموثق الشاب للجبانات محمد عبد الملك، والذي حفظ بعدسته أثر الهجوم البربري.
***
لكن يبدو أن المهاجمين المجهولين كانوا على درجة من الوعي الثقافي النادر، إذ تركوا تركيبة قبر أمير الشعراء دون أن يمسوها بسوء، رغم أنهم دمروا تركيبات القبور المحيطة بقبره بهمجية ووحشية، كأن المغول مروا عليها فتركوها حطامًا. ولم يهتم أحد بمصير المقبرة المفترض أنها مسجلة في التراث الحضاري بجهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة، التي يبدو أنها غير معنية بالدفاع عن رموز الثقافة المصرية، فترك قبر شوقي ينتظر مصيره لمدة عامين.
الهجوم الغريب الذي ترك تركيبة قبر شوقي ودمر كل ما حوله بعشوائية كأنها رسالة من جهة ما، دفع البعض للاعتقاد بأن الهجوم كان مقصودًا لتمهيد نقل رفات شوقي بحجة تخرب غرفة الدفن بعد الهجوم الذي قيد ضد مجهول، إذ لم تهتم الحكومة وقتذاك بالبحث عن منفذيه! ويوفر الهجوم الغطاء على جريمة تدمير قبر أمير الشعراء، وأحد أهم رموز مصر الثقافية في العصر الحديث، من أجل تحويل المنطقة التي قع فيها إلى ساحة لتنفيذ محور مروري وبناء مقاهي وكافيهات ومطاعم، في مشهد يكرس مهانة الثقافة في دولة يعد أبرز أسلحة القوى الناعمة فيها ذخيرتها من المبدعين في مختلف المجالات، والذين تركوا بصمتهم على الثقافة العربية، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال أحمد شوقي.
الغريب أن نقل رفات أحمد شوقي تمهيدا لإزالة قبره، جاء بعد أربعة أشهر من إزالة ضريح محمود سامي البارودي، رب السيف والقلم، والذي كان يقع في منطقة ترب الشافعي (القرافة الصغرى)، وكلاهما ينتميان إلى مدرسة الإحياء والبعث الشعرية، وهي المدرسة التي أخذت على عاتقها إحياء الشعر العربي في زمن ازدهاره مع التزام بحوره الشعرية والقافية، وذلك بعد قرون من تراجع الشعر العربي ودخوله مرحلة جمود طويلة، فشكلوا مرحلة تأسيسية في الشعر العربي سمحت بحراك شعري ضخم بعد قرون من الخمول.
***
لكن هذ الدور التأسيسي لم يشفع لشوقي كما لم يشفع للبارودي، فتم إزالة قبريهما، كما سبق وأن أزالت الحكومة مقبرة قرين شوقي الشعري، شاعر النيل حافظ إبراهيم في مايو 2023، وهو أيضا من رواد مدرسة الإحياء الشعري! وكان يضرب المثل بشوقي وحافظ في الصراع على زعامة دولة الشعر العربي، حتى حسم الأمر بمبايعة شعراء العرب لشوقي بإمرة الشعر العام 1927، وكان حافظ في مقدمة المبايعين، وقد رحل الأخير في يونيو العام 1932، ثم رحل شوقي بعده في أكتوبر من العام ذاته.
تشكل عملية إزالة مقابر شوقي والبارودي وحافظ جريمة في حق الثقافة المصرية، وهي جريمة مستمرة إذ يبدو أن الحكومة ماضية بكل عزم في عمليات هدم المقابر والأضرحة، دون أن تهتم بالقيمة التاريخية والتراثية والأدبية لها، وما تضمه من رفات شخصيات أثرت الحياة الثقافية المصرية والعربية وشكلت ذاكرة أجيال متعاقبة من المصريين.
***
من المؤسف التذكير هنا، أن مقبرة طه حسين، عميد الأدب العربي، قد نجت من تحت مقصلة الإزالة في اللحظات الأخيرة، بسبب تدخل السلطات الفرنسية التي أحرجت نظيرتها المصرية، بطلبها نقل رفات طه حسين إلى فرنسا، هنا دفعا للحرج أبقت الحكومة المصرية على مقبرة طه حسين، وإن أزالت جميع المقابر من حوله، وبنت فوقه كوبري! في حين لم ينجح المثقفون والمهتمون من أبناء البلد في إقناع الحكومة بالإبقاء على أي من مقابر الرموز الأدبية والشعرية!
التعدي على مقبرة أحمد شوقي، يضع أمامنا أسئلة كثيرة من نوعية: لماذا الإصرار على استهداف مقابر رموز الثقافة المصرية؟ وإلى متى تستمر حالة التجاهل الحكومية لدعوات الحوار قبل المساس بهذا التراث الأدبي والإنساني والتاريخي الذي يدمر فلا يمكن تعويضه؟ ولماذا تغيب الرؤية الشاملة للتعامل مع مقابر رموز الثقافة المصرية بالحفاظ عليها وتحويلها لمزار سياحي؟ هل يعقل أن نخسر هذا العدد الضخم المرشح للزيادة كل يوم؟ إن قيمة مقبرة أحمد شوقي لا تقدر بالسنوات، رغم أنه كان ينقصها سبع سنوات لتتم مئة عام، فالقيمة هنا تاريخية وأدبية لا تقدر بثمن.
***
نحن نتحدث عن أهم شاعر مصر في آخر ألف سنة، وكان لازمًا على الدولة أن تسارع ممثلة في وزارة الثقافة إلى تسجيل المقبرة كأثر لأهميته للتراث المصري وذاكرة البلاد الثقافية، لا أن يتم تدمير شواهد المقبرة، ثم نقل رفات شوقي، تمهيدًا لإزالة لن تتأخر كثيرًا، لتتضاعف خسارتنا في ظل مسلسل استنزاف الذاكرة الثقافية لمصر على وقع صوت البلدوزر الذي يطيح بمقابر عظماء الأمة ورموزها الأدبية والثقافية، فعلى ما يبدو لن يكون أحمد شوقي الأخير في مسلسل شديد القسوة والألم يهدد بمحو الذاكرة الإبداعية لدولة أسست حضورها في محيطها العربي على ميراث هؤلاء الرموز الثقافية، التي تسارع الحكومة بإزالة قبورهم الآن بلا ذرة خجل.