«الإيطاليون في مصر».. ما وراء الحنين وحكايات الاندماج والتعايش

شهدت مدينة الإسكندرية في القرنين التاسع عشر والعشرين حضورا بارزا للجالية الإيطالية، التي أسهمت في الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة. في هذا الإطار، نظمت مكتبة الإسكندرية محاضرة تناولت أرشيفات وتواريخ الإيطاليين في مصر بين عامي 1864 و1937، بمشاركة باحثين دوليين، بهدف إعادة قراءة هذه المرحلة من منظور اجتماعي وثقافي جديد.
التاريخ الاجتماعي للجالية الإيطالية في مصر
قالت الدكتورة هبة الرافعي، القائم بأعمال رئيس قطاع العلاقات الخارجية والمراسم بمكتبة الإسكندرية، إن وجود الجالية الإيطالية في الإسكندرية ساعد على نشر الثقافة الإيطالية بالمدينة، إذ كانت بوابة للانفتاح الثقافي على العالم، وأضافت أنه في لغتنا العامية المصرية العديد من الكلمات ذات الأصل الإيطالي نستخدمها دون أن نشعر.
وتحدث “ماريو دي بيسكولي” القنصل الفخري الإيطالي بالإسكندرية، خلال المحاضرة التي نظمتها مكتبة الإسكندرية بعنوان: “ما وراء الحنين إلى الماضي: تواريخ وأرشيفات التابعين الإيطاليين في مصر في الفترة (1864 -1937)”، باللغة العربية التي وصفها بأنها الأسهل بالنسبة له، مؤكدا أهمية الموضوع الذي يتناول تاريخ الجالية الإيطالية في مصر في ظل تحولات ثقافية مصرية متعددة. ليس تاريخيا فقط ولكن متعمقا في تجربة المهاجرين الإيطاليين.
وأشار توماس فوشيه، مدير مركز الدراسات السكندرية الفرنسي، إلى أنه هناك فترات متباينة من الوجود الإيطالي في مصر، وأن مضمون المحاضرة يدفعنا للنظر إلى الأرشيف كمؤرخين.
الإيطاليون في مصر.. ما وراء الحنين إلى الماضي
ألقى المحاضرة كلّ من: الدكتورة فرانشيسكا بيانكاني، والدكتور كونستانتينو باونيسا من جامعة بولونيا، والدكتورة كونستانزا ليزي من جامعة مودينا وريدجيو إميليا. وتناولت المحاضرة مشروعًا بحثيًّا يهدف إلى تحليل التاريخ الاجتماعي للجالية الإيطالية في مصر بين عامي 1864 و1937، باستخدام منهج مميز، من خلال دراسة وثائق القضايا المدنية والجنائية للمحاكم القنصلية الإيطالية في القاهرة والإسكندرية، المحفوظة في الأرشيف الدبلوماسي التاريخي لوزارة الخارجية الإيطالية.
بدأت “فرانشيسكا بيانكاني” حديثها بتوضيح أهداف المشروع ومصادره، مشيرة إلى أن البحث يعتمد على دراسة التاريخ من خلال المحادثات المسجلة، ويتكون من محورين: الأول تاريخي، والثاني يرتبط بحفظ واستخراج البيانات.
أرشيفات تالفة بسبب الرطوبة
واستطردت قائلة: “اطلعنا على أرشيفات عديدة تتعلق بدبلوماسيين عملوا خلال الفترة من 1834-1937، وكذلك على الأرشيفات الجنائية. وكانت هذه الوثائق في خطر، إذ لم تكن محفوظة في أماكن مناسبة. بل كانت موجودة تحت الأرض، وتعرضت للتلف بسبب الرطوبة، وواجهنا صعوبات كبيرة في الحصول عليها وفحصها بالشكل الملائم”.
وتابعت “بيانكاني” أن الاهتمام بهذه المصادر نابع من كونها توثق بشكل دقيق الحياة اليومية في تلك الفترة، وأن الجانب العلمي من البحث يتمثل في دراسة مفهوم “الكوزموبوليتية” وفهمه من منظور جديد، من خلال تحليل كيف عاش أشخاص من جنسيات متعددة في مكان واحد، وكيف تناول المختصون هذا المفهوم، مؤكدة ضرورة تجاوز النظرة النخبوية لفهم الكوزموبوليتية، والتركيز على رؤية المجتمع المحلي لها، بالإضافة إلى المقارنة بين التاريخ القديم والحديث للجالية الإيطالية في مصر.
أرشيفات التابعين الإيطاليين في مصر
عرضت “كونستانزا ليزي” مصادر الحصول على الأرشيف المستخدم في المشروع من القاهرة والإسكندرية. مشيرة إلى أن وجود كمية ضخمة من الأرشيف الدبلوماسي الإيطالي موزعة في أماكن مختلفة. كما ساهمت وزارة الخارجية الإيطالية بتوفير وثائق مهمة، ووجهت بالحفاظ على سرية بعضها. وقد تم الاعتماد كذلك على الصحف المصرية التي كانت محفوظة داخل القنصلية الإيطالية، رغم أن بعضها كان تالفا نتيجة سوء الحفظ.
وأضافت “ليزي” أن وزارة الإعلام والثقافة في إيطاليا ساهمت بجهد كبير في المشروع. إذ كانت تمتلك وثائق ترجع لأكثر من 120 عاما. وقد تم جمع أرشيف ضخم للمشروع، يضم ما لا يقل عن 1800 صندوق غير متساوية في الحجم والوزن، تحتوي على وثائق ومستندات. واستغرق ترميم بعضها وقتا طويلا وجهدا استثنائيا. وأسفر ذلك عن تكوين أرشيف غني جدا، يضم أيضا صورا من المدارس الإيطالية التي كانت موجودة في الإسكندرية والقاهرة. وأسماء المعلمين، وتفاصيل الإنفاق على الكتب، والأنشطة المدرسية، وأرشيفا عن ملابس المواطنين، والمهن المنتشرة في تلك الفترة، وغير ذلك من المعلومات المهمة.
الهجرة الإيطالية
اختتم اللقاء كونستانتينو باونيسا بقوله: “ذكريات عامة الناس والحكايات المتوارثة عن العديد من الأشخاص، كانت دافعا قويا لدراسة هذه المرحلة من تاريخ الجالية الإيطالية. وأوضح أنه في القرن التاسع عشر، مرت الجالية الإيطالية بأحداث سياسية عدة، خاصة في ظل الفاشية بإيطاليا. مشيرا إلى أن هناك نقصا كبيرا في الدراسات التي تناولت أوضاع الجالية الإيطالية في مصر”.
وبين أن كثيرا من أفراد هذه الجالية كانوا خبراء وعلماء في مجالات مختلفة. ولكل منهم قصة ترتبط بسياق تاريخ الهجرة الإيطالية إلى مصر. وكانت بدايتها في عام 1884، إذ بدأت أولى موجات الهجرة، وبلغ عدد الإيطاليين أكثر من 60 ألف نسمة، نتيجة للاستقرار السياسي الذي ساعد على تضاعف الأعداد في العقود اللاحقة.
الحرب العالمية الأولى
وأضاف أن أكبر عدد للإيطاليين في مصر كان تقريبا في عام 1872، ثم ازداد خلال الحرب العالمية الأولى، قبل أن تبدأ مرحلة الترحيل أو النفي. وذكر أن افتتاح قناة السويس لعب دورا كبيرا في تدفق هذه الأعداد، لا سيما من مجالات العمل بالميناء. فبعد أن تركوا إيطاليا، التي كانت تعاني من التهميش، جاء الكثير منهم إلى مصر بحثا عن لقمة العيش. ويعد عام 1991 نقطة تحول في تاريخ إيطاليا، وهو عام احتلال ليبيا، ما دفع مزيدا من الإيطاليين إلى الهجرة.
وأشار إلى أن المشروع درس وثائق المحاكم الإيطالية، من تفاصيل القضايا حتى الأحكام الصادرة. والتي شملت بعض القضايا الجنائية. وأكد أن بعض هذه القضايا أسيء فهمها. إذ تم تصنيف الإيطاليين على أنهم متطرفون أو مجرمون، وهو ما لا يعكس حقيقة الجالية الإيطالية بكاملها. بل يقدم نظرة متعمقة من العلماء الباحثين حول تاريخها وسياقها المجتمعي.
واختتم حديثه: “الجالية الإيطالية كانت تضم طبقات اجتماعية مختلفة، لكنها انصهرت في بوتقة واحدة، وأسهمت في إدارة الدولة بشكل تكاملي”.
اقرأ أيضا:
د. «محمد عوض»: القبح المعماري بالإسكندرية خطأ في التعليم منذ البداية