«الأقصر».. وادي الملوك

مع أول ضوء للشمس بعد الفجر، تلك الأشعة التي تتخلل ببطء الجبال الساكنة في البر الغربي، يستيقظ الصبي الذي ينادي بإنجليزية ضعيفة تختلط بلهجة صعيدية تعبر عن أصل عريق على مستر كارتر ليستيقظ هو وصحبته لبدء العمل مرة أخرى في وادي الملوك. تبدو الأمور معقدة فلا جدوى من استكشاف مقبرة جديدة أو ملمح يدل على وجود شيء آخر مثير للانتباه. لكن الصبي ذو الإثني عشر سنة لم يستسلم من داخله، كأن شيئا ما يناديه بصوت خفي، هلم هنا فثمة شيء سيدخلك التاريخ! يجري الصبي ولا يدري أين يجري وهو يحمل زير ماء، يسقط الزير منه على شفا حفرة في الأرض. لكنها لم تكن حفرة عادية فهي تبدو غريبة كأنها تخبئ شيئا ما خلفها!

يجري عليه مستر كارتر وفريقه ليتفاجئوا جميعا بما اكتشفه الصبي، باب مقبرة. وأية مقبرة إنها مقبرة توت عنخ آمون! الملك الشاب الذي على بعد خطوات من أن يكون صاحب أشهر مقبرة اكتشفت في التاريخ. وأثرى مقتنيات وصلت إلينا بشكل كامل. كان من حسن الحظ أنها لم تتعرض للسرقة في أي فترة تاريخية سابقة. يدخل هوارد كارتر عالم الآثار الإنجليزي الذي عمل لسنوات طويلة داخل وادي الملوك. وهو يقول: “الكثير من الذهب هنا!”، كانت تلك اللحظة فارقة في تاريخ علم المصريات.

كان هذا الصبي هو حسين عبدالرسول سليل تلك الأسرة الشهيرة في القرنة بالأقصر، التي اكتشفت كذلك قبل عدة أعوام خبيئة الدير البحري. والتي كانت تحتوي على مومياوات لملوك عظام في تاريخ مصر القديمة. كانت تضم تلك الخبيئة التي تم اكتشافها في الدير البحري مومياء الملك “سقنن رع” وابنه الملك “أحمس” الأسرة المصرية التاريخية التي كان لها دور كبير في طرد الهكسوس ومحاربتهم بكل ما أوتيت من قوة.

نقوش ورسومات
نقوش ورسومات    
اكتشاف توت عنخ آمون

هنا بعيدا عن المدينة الرئيسية في عمق الجبل الغربي بين تلال الجبال الصلبة. ظهير تلك المجموعة الضخمة من المعابد الجنائزية يقع وادي الملوك. المكان الذي شهد الكثير من القصص المثيرة حول المقابر المصرية القديمة، وليس انتهاءً بقصة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون. فكل مقبرة هنا بين الـ64 مقبرة المكتشفة حتى الآن تحكي قصة مختلفة. لا تقل إثارة عن أخراها، كلها تقف شاهدة على فصل كامل من فصول تاريخ مصر الطويل عبر العصور.

تبدو قصة اختيار هذا الوادي تحديدا ليكون المقر الأخير لجثامين ملوك مصر القديمة مثيرة كذلك. حيث يبدأ خيط تلك القصة من مقبرة عمدة طيبة في عهد الملك تحتمس الأول المدعو إنيني، التي اُكتشفت في منطقة شيخ عبد القرنة بالبر الغربي في الأقصر. حيث تم العثور على لوحة تؤرخ سبب الاختيار تقول على لسان صاحبها إنيني: “لقد أشرفت على حفر مقبرة جلالته الصخرية وحدي، لا أحد رأى ولا أحد سمع”.

كان إنيني هذا المشرف على إنشاء أول مقبرة في هذا الوادي المتواري عن الأنظار بعيدا عن أعين لصوص المقابر. فالمقابر المصرية القديمة التي كانت تتخذ أشكالا وأنماطا مختلفة سابقا كالأهرامات والمصاطب قبل تلك الفترة. لكنها تعرضت كلها تقريباً إلى السرقة. لذلك تم تكليف هذا المهندس والموظف رفيع المستوى في بلاط الملك تحتمس الأول بأن يختار مكانا غير معروف وينحت فيه مقبرة الملك في هدوء تام وبشكل سري.

***

ومقابر وادي الملوك في الأقصر كلها تخضع لأنماط مشابهة فهي عبارة عن محور واحد أو محورين متوازيين في عمق الجبل. محفوفة بالنقوش والرسومات التي تعبر عن الحياة الدينية والجنائزية للملك في حياته الأخرى. ولم يكن الوادي حكرا على الملوك فقط، بل كان كذلك للملكات أيضا مثل مقبرة نفرتاري زوجة الملك رمسيس الثاني. ولا مانع كذلك من وجود مقابر بعض كبار الموظفين في بلاط الملوك.

تبدو مقبرة توت عنخ آمون أشهر المقابر المكتشفة في هذا الوادي الكبير صغيرة نسبيا ولا تحفل بالنقوش الثرية كحال باقي المقابر هنا. إلا أنها صورت الملك في مناظر تعبدية مع العديد من آلهة مصر القديمة التقليدية، عرفانا منه بديانة آمون. بالإضافة إلى منظر واحد لفصل من فصول كتاب الإيمي دوات. تظهر المقبرة وكأنها لم تعد من البداية خصيصا لملك ثري كهذا أو أنه مات قبل أن يتم بناء مقبرة تليق به فدفن في مقبرة أحد موظفيه في الجيش. لكن على مقربة منها تقع أحد أجمل المقابر وأعمقها في وادي الملوك، ألا وهي مقبرة الملك سيتي الأول.

الرعامسة

والحديث عن سيتي الأول دائما يكون مثيرا للاهتمام، كحال معبده الكائن في أبيدوس الذي يعبر عن ذائقة فنية رفيعة المستوى، فإن مقبرته هنا في وادي الملوك كذلك لا تقل بهاءً وجمالا عن معبده هذا. وسيتي الأول هو الملك الثاني من الأسرة التاسعة عشر ووالد الملك رمسيس الثاني. وتم تزيين تلك المقبرة كعادة المقابر في وادي الملوك بنصوص جنائزية مختلفة، لضمان انتقاله إلى العالم الآخر بسلام. وكعادة الفن في عهد سيتي الأول الذي يمثل تطورا عاليا ودقة منقطعة النظير، فإن المقبرة تعد أحد أجمل المقابر في وادي الملوك. بالإضافة إلى أنها تحتوي على نصوص جنائزية كاملة بدقة عالية. حيث نقشت عليها نصوص أناشيد رع وكتاب الإيمي دوات “الخروج بالنهار” أحد أهم الكتب الجنائزية التي ظهرت في عصر الدولة الحديثة.

والإيمي دوات تعني كتاب ما في العالم الآخر حيث يصف رحلة انتقال المتوفى من الدنيا إلى العالم الآخر بكل ما يواجهه من تحديات واختبارات. بالإضافة كذلك إلى كتاب البوابات الذي كان يصف مرور روح المتوفى في العالم الآخر عبر سلسلة من البوابات. حيث يقف كل إله من آلهة مصر القديمة على كل بوابة. ويتطلب من المتوفى أن يعرف طبيعة كل إله على تلك البوابات، كانت مقبرة سيتي الأول مصدرا رئيسيا لتدوين هذا الكتاب الجنائزي الهام. ظفرت المقبرة كذلك بمشاهد فلكية زينت السقف في صورة مبهرة.

***

لا يبتعد الوالد رمسيس الأول كثيرا عن ابنه سيتي الأول. فمقبرته التي في الجوار مبهرة كذلك، تدخل إليها عبر ممر مائل حاد. ثم تجد في منتصف المقبرة تقريبا تابوتا ضخما من الجرانيت الأحمر، والمقبرة محفوفة بالنقوش والكتابات من كل جانب. فهنا رمسيس الأول مع إلهة الحق والعدل والنظام في الكون الإلهة ماعت أمام الإله بتاح سيد الحقيقة والمعبود الخالق عند المصريين القدماء في صورة مدهشة بالألوان النقية والزاهية. ولا تخلوا المقبرة كذلك من نقوش كتاب البوابات.

أما مقبرة رمسيس الرابع ابن الملك رمسيس الثالث، فهي تحتفظ بمعظم نقوشها في صورة مميزة. يظهر فيها قرص الشمس الذي يمثل الإله رع رمز القوة، وتشتمل على مناظر ونقوش جنائزية لضمان وصوله إلى العالم الآخر بسلام كامل.

لم تنته قصة الرعامسة بعد في هذا الوادي فمقبرة مرنبتاح ابن رمسيس الثاني الذي امتلك معبدا ضخما على الضفة الغربية من الأقصر تقبع في الجوار هي الأخرى. وتنزل إليها عبر منحدر طويل يضم رسومات ونقوش تتعلق بالحياة الأخرى. ثم إلى تابوت ضخم كان يضم المومياء الخاصة به. تتميز تلك المقبرة الفريدة بعمقها في الجبل، فهي منحوتة ببراعة داخل عمق طويل بانخفاض حاد، كأنها دلالة على فترته التاريخية المضطربة. وفترة الرعامسة هذه يقصد بها تلك الفترة التاريخية التي تضم الأسرتين التاسعة عشر والعشرين. والرعامسة دلالة على ملوك مصر الذين حملوا اسم رمسيس. ابتداءً برمسيس الأول وانتهاءً برمسيس الحادي عشر.

اقرأ أيضا:

«الأقصر».. معابد البر الغربي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر