ليلة التبريزة والتحنين والأغاني.. هكذا يحتفل الأهالي بالحج

بعيدة بعيدة ونفسى أزور وأمسح بإيدى شباكه الكريم.. وأكحل عيونى بنور البشير.. بعيدة بعيده يا أرض الحبيب.. بعيدة بعيدة.. وإن عطانى ربى.. لأروح لك سعيدة.. يا بدر يا نور.. ولا مال معايا يا كريم يا ربى.. يارب العطايا ولا مال فى إيدى.. بعيدة ونفسى إن عطانى ربى.. لأروح لك بزفة.

لا يوجد في أي مكان آخر ما يرافق رحلة الحج من الأغاني والزغاريد، وآلات الموسيقي الشعبية، سوى في مصر، وقد وصف ابن إياس في “بدائع الزهور” موكب خروج زوجة السلطان قايتباي إلى الحج سنة 1475م، فقال: “وقدّامها من الحداة أربعة”، وقد وصف أيضا رحلة خروج المحمل محملا بكسوة الكعبة، وأمامه العوام وهم يرقصون ويغنون “بيع اللحاف والطرّاحة، حتى أرى ذي الرماحة.. بيع لي لحافي ذي المخمل.. حتى أرى شكل المحمل”.

وهو ما يؤكد أن أغاني الحج عند المصريين كانت وما تزال حالة شجن شعبية صافية، ولها أغاني تحمل كلماتها محبة خالصة نابعة ليس من قلب الحاج فقط بل من كل القلوب المحيطة به من أهل وأقارب ومحبين، محبة تجعل المحب يذوب عشقا للحبيب المصطفي وشوقا لزيارة روضته الشريفة.

رسم على أحد البيوت - تصوير: منال محمود
رسم على أحد البيوت – تصوير: منال محمود

أنواع الأغاني

توارث المصريون الأغاني الخاصة الحج وزادوا عليها، مما جادت به قرائحهم وبما تحمله قلوبهم من ولع بالحج، وباتت تعرف تلك الأغاني في الفولكلور بـ”التحنين”، الذي إبدعته الجماعة الشعبية والخاص بالرحلة إلى الأراضي المقدسة، وذكر باحثان في التراث والفلكلور أن أغاني الحج تنقسم إلى أنواع ثلاثة، وذلك حسب التوقيت، حيث إن القسم الأول يؤدى قبل سفر الحجاج، وحديثا منذ التأكد من الحصول على تأشيرة الموافقة على الحج، وتسمي أغاني توديع الحجاج.

بينما يرتبط القسم الثاني بعودة الحجاج، ويؤدى عند استقبالهم، وتسمى أغاني استقبال الحجاج، أما القسم الثالث من تلك الأغاني فهي أغاني “تحنين الحجاج” التي يؤديها الحجاج قبل رحلة الحج وأثناءه.

ويقوم بأداء أغاني الحج ثلاثة أنواع من المؤدين، هم: المداحون وغالبا ما يكونوا من الرجال الذين يقومون بإحياء الاحتفال بالحاج ورحلته قبل الرحلة وبعدها، وعادة ما يتم حصول هؤلاء المداحين على أجر مقابل إحياء الاحتفال والإحتفاء بالحاج.

وتمثل السيدات وخاصة كبار السن النوع الثاني من المؤدين، حيث يؤدين أغاني الحج القديمة التي ورثنها عن الآباء وتحفظها ذاكراتهن “التحنين”، بينما تؤدي السيدات والفتيات الأغاني الحديثة التي تغني بها مطربون ومطربات وصدحوا بها في الإذاعة والتلفزيون.

ليلة التبريزة والأغاني

لم تكن أعداد الذين يستطيعوا تأدية فريضة الحج في السابق كثيرة، لنفقاته الكبيرة، ومشقة السفر، لذلك كان لابد إبراز هذا الشخص والاحتفاء والاحتفال به حتي يقوم برحلته.

وتقول الحاجة هداية عبدالسميع، من قرية المشرك قبلي مركز الشواشنة بالفيوم، في العقد السابع من عمرها، إن ليلة التبريزة كانت بمثابة الفرح في منزل الحاج، وكان يتم الاحتفال بها منذ أول اليوم نهارًا، فيتم نحر الذبائح حسب مقدرة كل حاج، ويأتي المهنئين من الجيران والأقارب والأحباب لتناول وجبة الغذاء ولتوديع الحاج أو الحاجة.

وفي المساء، يتم الاحتفال خارج المنزل حيث تعلق “حبال النور”، ويوزع الشربات، ثم يجلس الرجال في حلقة كبيرة، وتجلس السيدات في حلقة كبيرة أيضا ويتم “التحنين”، وتغني “بعيدة بعيدة يا بلاد الرسول.. لواوي لواوي يا طريق النبى”، وهناك أيضا: “يا رب لأجل النبى والبيت وعماره.. تكرم ضيوف النبى وتراعى زواره.. وكل ما لقى الأنا، مشتاقة لأنواره.. يسعد فى مكة ومنى، واصلى بجواره”

وتستمر الأغاني والتحنين حتي طلوع الفجر، ثم نقوم بتوصيل الحاج أو الحاجة إلى السيارة المزينة بالرايات الخضراء والبيضاء، والتي ستقله إلى المطار أو الميناء.

الدكتور إبراهيم عبد العليم - تصوير منال محمود
الدكتور إبراهيم عبدالعليم – تصوير: منال محمود

الاحتفال بالحج في الأحياء الشعبية

يقول الباحث في التراث الشعبي الدكتور إبراهيم عبدالعليم، لا يختلف الاحتفال بالحج كثيرًا في الأحياء الشعبية بمدينة الفيوم عنه في القرى، حيث تؤدى نفس الطقوس تقريبًا، من تقديم الطعام نهارا، والاحتفال مساءًا من خلال الغناء أو التحنين، ويستعد الحاج أو الحاجة لبدء الرحلة المباركة وسط جموع من الأهل والأحباب، وكان الاحتفاء والاحتفال يبدأ منذ أن يعرف الحاج أنه سيسافر للحج عن طريق مديرية الأمن التي تصلها أسماء الذين وقع الاختيار عليهم لتأدية تلك الفريضة، وقد أبدعت الثقافة الشعبية كلمات معبرة عن الفرح بمعرفة الحاج بأن اسمه بين كشوف مديرية الأمن، حيث تقول الكلمات.

لما جابوا الورق ليا

وطلعت بيه على المديرية

جانا الحبايب بالميه

يا قلبي صلي على النبي

ولما قعدنا في الوابور

فيه العجل والله بيدور

يا فرحتنا بلقى الرسول

يا قلبي صلي على النبي

ويكمل عبدالعليم: غالبا ما تستخدم تلك الأغاني مقام البياتي الذي يجمع بين الشجن والرقة والحزن والفرح، ثم ترد الزغاريد على الأغنية التي يتخللها بكاء الفرحة و الحنين للحج وشوقا لزيارة المصطفي، وتعد تلك الطقوس الخاصة بالحج من الغناء والتحنين، وتعليق الرايات على السيارات وتزيين المنزل برسومات الحج والآيات القرآنية، ملمح شعبي من ملامح الثقافة الشعبية الذي يصعب اختفاؤه.

المرأة والتحنين وأغاني الحج

تعتبر المرأة المصرية أحد مخازن الثقافة الشعبية التي تنقل من خلالها وتتوارثها الأجيال، وكان لحضور المرأة فى طقوس التحنين وأغانى الحج حضورا طاغيا ومتميزا، حيث كانت أول البادئين بالغناء والممهدين لرحلة الحاج سواء كانت هي التي ستقوم بالرحلة أو زوجها أو حتى شخص غريب عنها، وكان يصاحب صوتها الدف، كآلة إيقاع دافئة الصوت، والتي كانت النساء يستعضن عنها إن لم تجدها بأحد أطباق المطبخ، أو بالنقر على قطعة خشبية، وكان ينطلق صوت النساء من داخل بيت الحاج قبل بدء الحج بشهر أو شهرين، كتمهيد للرحلة الأعظم تقديسا، وغالبا ما كان إيقاع الأغانى يبدأ بطيئا ثم يتسارع مع اقتراب موعد الرحلة.

ويتسم “التحنين” بأنه منغمًا أشبه بالعديد، حيث يؤدي شخص ويرد عليه الحضور الذين يكونوا مثل كورس، ويصاحب التحنين التصفيق باليد والزغاريد.

الحاجة بدرية عبد الهادي - تصوير منال محمود
الحاجة بدرية عبدالهادي – تصوير: منال محمود

رايحه فين يا حاجة يا م شال قطيفة

رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة

راحه فين يا حاجة يا م شال سماوي

راحة أزور النبي محمد وأطلع على القيناوي

راحة فين يا حاجة يا أمو شال زيتي

راحة أزور النبي محمد واعاود لبيتي

راحة فين يا حاجة يا مو شال بمبي

راحة ازور النبي محمد وعاود لولدي

يا فاطمه يا بنت نابينا

افتحي البوابة يا فاطمه دا أبوكي داعينا

يا فاطمه يابنت التهامي

افتحي البوابة يا فاطمة دا أبوكي داعاني

يا بير زمزم سلابك حريري

والشربة منك والله دوا للعليلي

يا بير زمزم سلابك سلاسل

والشربة منك والله دوا للمسافر

بتلك الكلمات الجميلة التي تفيض حنينا وشوقا لزيارة النبي والشرب من ماء بئر زمزم، سمعتُ الحاجة بدرية عبدالهادي، ذات العقد السابع، من قرية المشرك قبلي مركز الشواشنة بالفيوم، وهي تغني مغمضة العينين كأنها في لحظة تجلي ترى ما لايراه الحضور، والتي قد تكون الوحيدة في قريتها التي تحفظ الكثير من أغاني التحنين.

تتوقف لبضع دقائق لتمسح دموعا فرت من عينيها من شدة الوله والحنين لزيارة النبي، وتعاود فتقول.

العين تدمع والقلب يخشع والأذن تسمع ذكر حبيب الله

ذكر الرحمن قوى إيماني والذكر يرفع للحي الباري

غني يا شادي ذكر الأسيادي ملكوا فؤادي هما أهل الله

يا أهل راما كفاية ملامة هو غرامي ذكر حبيب الله

تقطع الحاجة بدرية تحنينها وتقول مشيدة باحتفالات زمان أنها كانت أفضل من الآن، حيث كانت تبدأ منذ نية الحاج أو الحاجة على زيارة البيت الحرام والحج، حتى توديع الحاج ومطالبته بألا ينسى الدعاء للحضور في الطواف وعلى جبل عرفات، ثم تتذكر التحنين وتقول.

يا هناه اللي يصلي صلوا على الحبيب صلوا

يا سعده اللي يصلي عليه

يا قاصد لما توصله بأمانة تسلملي عليه

قول له يا أغلى الأحباب والله بعدي عنك طال

عوبيدك واقف على الباب خايف من اللوم والعذاب

تكرم تعطف وبص نظرة إليه…يا قاصد لما توصله بأمانة تسلملي عليه

جايلك يا حبيب الله جايلك بإذن الله

جايلك وكلي ذنوب اغفر لي يا الله

يا قاصد لما توصله بأمانة تسلملي عليه

ثم تتوقف لمسح دموعها مرة أخرى، وكأنها كانت بالفعل توصي من يسافر بأن يسلم لها على حبيبها النبي، وتدعي للحضور والجالسين معها بزيارة النبي وحج البيت وتنشد.

يا حمام الحما وصلني لجبل عرفات وأصلي كل الصلوات

خدوني معاكم يا رايحين تزوروا النبي

خدوني معاكم لأزور النبي وأسوي غداكم

خدوني معاكم يا رايحين تزوروا النبي لأزور النبي واسوي عشاكم

تتوقف الحاجة بدرية، لتقول “البتاع اللي اسمه الدي جي والسماعات أفسدوا كل حاجة، حتى الشربات مش موجود، وبقى بداله الحاجة الساقعة، لكن دي سنة الحياة وربنا يفرح الناس كلهم”، ثم تعاود التحنين فتقول.

في طريق النبي شمالك يمينك وأفرحوا يا حجاج وبرك هجينك

في طريق النبي يمينك شمالك وأفرحوا يا حجاج وبرك جمالك

ما تقوم يا عاصي وبلاش معاصي دا القبر ضيق والحساب قاسي

يارب ما اموت ولا انزل ترابى

إلا اما ازور النبى وابلغ مرادى

يارب ما اموت ولا انزل لحودى

إلا اما ازور النبى

وابلغ مقصودى

يا هناه اللى اتوعد

الشاعر البدوي سيد بو دهيم الرمحي - الصورة من صفحته على الفيس بوك
الشاعر البدوي سيد بو دهيم الرمحي – الصورة من صفحته على الفيس بوك

الاحتفال بالحج والأغاني في البادية

يقول سيد بو دهيم الرمحي، الشاعر ابن البادية بعرب الفيوم، إن التراث البدوي تراث جميل ويعبر عن ثقافة أهل البادية التي يجب أن يحرص أهلها في الحفاظ عليها كي لا تندثر، ومنها عندما كان يأذن الله لرجل او امرأة بالحج، يجتمع أهل النجع في الليلة التي يكون الحاج مسافرا إلى الحج، وتبدأ من الصباح حيث يذهب أهل النجع والجيران والأقارب إلى بيت الحاج أو الحاجة ويتناولون الغذاء وليباركوا ويهنئوا ويحتفلوا، وتطلق النساء الزغاريد وتنشد الأهازيج ومنها:

امناى انسافر له ونزور.. نبينا والبيت المعمور

اوعدنا ياربى الغفور.. بعفوك والحج المبرور

دعيتك ياربى الودود.. علينا بالغفران اتجود

امبارك ياحاج دعينالك.. برضا مولاك هنيالك

صلوا عالهادي الرسول.. شفيع الأمه يوم الهول

الفرض الخامس حج البيت.. وهكي لفروضك تميت

الشاعر محمد حسنى إبراهيم - الصورة من صفحته على فيس بوك
الشاعر محمد حسنى إبراهيم – الصورة من صفحته على فيس بوك

الأغاني طقس ثقافي شعبي له جذور

وحول أغاني الحج والتحنين يقول شاعر العامية محمد حسني إبراهيم، إن أغانى التحنين طقس ثقافي شعبي يمارسه المصريون منذ زمن بعيد وممتد، وتأتي فى قالب موسيقي صغير يشبه إلى حد ما العديد فى الصعيد، والتحنين هو القول المختصر الذي يعبر بشكل قاطع وبسيط عن تلك الرحلة الطاهرة

مضيفا أن المصري القديم كان يغني أغاني كثيرة ويعبر عن مشاعره أيضا بالرسم، فعند الانتقال من مكان إلى مكان كان يغني، ومن زمن إلى زمن كان يغني غناء تصحبه رسومات داخل القبور تصور مراكب الشمس في رحلتها للذهاب لإستعادة الحياة من الأماكن المقدسة وهي سفن روح الآلهة.

وجاء الامتداد لتلك الرحلة في رحلة الحج، حيث الانتقال من الذنوب إلى التطهر منها، ولم يكن توديع الحجيج بالغناء فقط، بل كان في الغالب يكون هناك ما يوصي به جموع المودعين مثل “ادعي لنا بالزيارة”، وقد سميت باسم التحنين لما كان بالرحلة من مشقة فكان المودعين يدعون للمسافر أن يحنن عليه ربنا.

وتختلف كلمات أغاني الحج والتحنين باختلاف المكان، حيث تختلف أغانى الحج في الصعيد عنها فى الدلتا وبحري، لكن المشترك في تلك الأغاني هو الرغبة القوية في الزيارة والحنان لأرض مكة وطلب العفو من الله وغفران الذنب، وجعل الرحلة ميسرة ومبرورة، كما أبدعت الثقافة الشعبية المصرية أغنيات تصف وسيلة نقل الحاج، وقد اختلفت باختلاف الوسيلة، حيث توجد أغنيات تصف الجمل وأخرى تصف الباخرة ووصفت أغنيات أخيرة الطائرة فنجد:

يابو الخُفّ زينه.. يا جمل

يا جمل.. يابو الخف زينه..

ورايح فين ياجمل.. دانا رايح اودى الحبيب يزور نبينا

 

وفي ذكر الباخرة مثل:

تحت ضل الجبل و اريح شوية

تركبوا البواخر و أنا امدح نبيا

يا زايرين النبي خذوني معاكم

تركبوا البواخر و أنا أمدح وياكم

الباخرة عما تنادى يلا يا زوار الهادي

الباخرة طالعة قدامى رايحة لحج التهامي

حج النبي دا غرامي و العين من شوقي دامعة

ويضيف حسني، ولا يملك من ليس في استطاعته الحج وهو متعطش لزيارة الحبيب، إلا توصية الحاج بالدعاء.

يارايحة عند النبي

أوصيكى تدعيلي

ومن الحبيب قربي

ده نبينا قنديلي

اقرأ أيضا

 

 

مشاركة

‫4 تعليقات

  1. تنبيه: casino play
  2. تنبيه: PRAGMATIC PLAY
  3. تنبيه: bonanza178

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر