دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«اختيار مريم» واعتصام «زاوية»: جريمة تعلن عن نفسها!

ربما يكون اعتذار إدارة سينما “زاوية” عما بدر من بعض موظفيها تجاه مخرج شاب قرر أن يتظاهر بمفرده أمام دار العرض، واحدا من أفضل السلوكيات التي شهدتها حياتنا الفنية والثقافية مؤخراً. لقد أصبح العنف و”قلة الأدب” أسلوب حياة في مجتمعنا، حتى إن المرء ليدهش حين يجد شخصاً يعتذر لآخر أو حين يرى سلوكا متحضرا يصدر من أحد الأشخاص، وكأنه شيء غير متوقع ونادر.

حين رأيت الفيديو الذي يتعرض فيه المخرج للدفع والطرد من أمام دار العرض، شعرت بالإشفاق على الشاب، وتذكرت أنني شاهدت فيلمه، مثار الخلاف، في مهرجان الإسكندرية منذ عامين، كعضو في لجنة تحكيم المسابقة المصرية بجانب الفنانة شيرين وصانعة الأفلام السكندرية دينا عبد السلام. حيث نال الفيلم إعجاب اللجنة وفاز بثلاث جوائز: جائزة لجنة التحكيم لأفضل مخرج (محمود يحيى)، وأفضل ممثل (محمد رضوان)، وأفضل ممثلة (رشا سامي).

حين شاهدت الفيديو أشفقت على الفيلم وصاحبه، وتذكرت الكثير من الشباب الذين شاهدت أفلامهم خلال السنوات الأخيرة. بعض هذه الأفلام شارك في مهرجانات، وحصل على جوائز داخل مصر وخارجها، لكن معظمها لم يحصل على فرصة للعرض العام في السينما أو المنصات.

***

أشفقت على الشاب وزملاءه من الشقاء الذي يشعر به صانع فيلم مستقل قضى سنوات من حياته، وربما يكون قد أنفق كل ما يملك، لكي يصنع فيلما، أقل ما يستحقه أن يعرض على الناس ليقولوا رأيهم فيه. ولكنه بعد ذلك كله لا يستطيع العثور ولو على قاعة واحدة ليعرض فيلمه فيها.

وتخيلت الأسابيع والشهور الطويلة الصعبة التي مرت على محمود يحيى وهو يسعى للعثور على موزع ليعرض فيلمه أو منصة تشتريه، في الوقت الذي يشكو فيه أهل الصناعة من قلة الأفلام المصرية المنتجة وخلو دار العرض من الأفلام المصرية، ومن قلة الأفلام الجديدة التي تعرض على المنصات، وهي مفارقة عجيبة من المفارقات الكثيرة التي تمتلئ بها حياتنا السينمائية!

تخيلت الشاب وهو يطرق أبواب الموزعين وأصحاب المنصات دون جدوى، وزحف اليأس إلى قلبه والشيب إلى رأسه، كما حدث ويحدث لعشرات من صناع الأفلام الذين قضت على أحلامهم وطموحاتهم ظروف صناعة السينما. وتفهمت القرار الذي اتخذه عندما رفضت إدارة سينما “زاوية” عرض فيلمه، وهي الملجأ الأخير الذي يتوجه إليه صناع السينما المستقلة في مصر، والتي اتخذت منذ سنوات سياسة دعم وتشجيع الأعمال الفنية غير التجارية.

***
صُناع فيلم اختيار مريم
صُناع فيلم اختيار مريم

لم يفهم الشاب رفض السينما لعرض فيلمه، ليس فقط لأن كل صاحب فيلم يراه عظيما، ولكن لأن الفيلم تم تقديره بالفعل من قبل مهرجان الإسكندرية وبعض المهرجانات الأخرى خارج مصر، ولذلك قرر أن يعترض، أن يصرخ، أن يطلب العون والمساعدة، وهو معذور في ذلك.

معذور بالرغم من بدهية أن أحداً لا يستطيع أن يفرض على دار عرض أن تعرض فيلماً لا تريده. ولكن المسألة أعقد من هذا القول الساذج والوقح، فالأمر لا يتعلق فحسب بحق دار عرض، ولكن بمناخ عام استبعادي وطارد وحزمة من الشلل المعروفة في الإنتاج والتوزيع التي احتكرت الصناعة وعلى وشك أن تقضي عليها. ومعذور لأنه لم يذهب للاعتراض لدى هذه الكيانات التجارية المغلقة على شللها، ولكنه قرر أن يذهب إلى الذين يشبهونه من محبي السينما والفن، والذين يقترب منهم عمراً وفكراً وقرر أن يصرخ طالبا منهم المساعدة والاستجابة.

***

وكطرفٍ محايد شاهدت الفيلم، كما شاهدت الكثير من الأفلام المصرية التي تعرضها سينما “زاوية” يمكنني أن أقول أن “اختيار مريم” فيلم جيد جداً ويستحق أن يعرض في “زاوية” وغيرها، متمنيا أن يعيد أصحاب السينما النظر في قرارهم برفض الفيلم.

وكطرفٍ محايد أيضاً يمكنني أن أتخيل سبب رفضهم، ذلك أن الفيلم يعاني من بعض المشكلات التقنية، الناتجة عن ضعف الإنتاج، في الصوت وتصحيح الألوان، والمونتاج الذي يحتاج إلى بعض المعالجة، وهي عيوب بسيطة مقارنة بمستوى الفيلم فنياً، وربما كانت تستحق أن تقوم شركة محترفة بشراء حق التوزيع وإصلاحها، كما يحدث بالمناسبة في العالم كله، وعلى مستوى شركات التوزيع والأفلام الكبرى.

هذه العيوب البسيطة، وعلى ما أذكر، هي التي منعت لجنتنا من منح الفيلم الجائزة الكبرى (التي تمنح عادة للإنتاج) وقررت منح الجوائز للمخرج والممثلين. وقد كتب الناقد الدكتور وليد سيف متسائلاً وقتها عن سبب عدم إعطاء الفيلم الجائزة الأولى.. وهذه هي الإجابة!

***

ربما كان محمود يحيى يحتاج إلى مناقشة صريحة مع مسؤولي السينما عن سبب رفض عرض فيلمه، والبحث عن حل إذا أمكن. أما من الناحية الفنية والجماهيرية فأعتقد أن “اختيار مريم” لا غبار عليه، وأفضل من أفلام كثيرة تعرض في السوق، وفي سينما “زاوية”، بل أعتقد أنه فيلم جميل، لم أزل أتذكره وأتذكر الحالة الشعورية التي انتابتني عند مشاهدته منذ عامين!

يشير عنوان الفيلم الذي يحاكي عنوان الفيلم الأمريكي الشهير “اختيار صوفي” (إخراج آلان باكولا، 1982)، الذي لعبت فيه ميريل ستريب دور أم لطفلين، ولد وبنت، في معسكرات الاعتقال يجبرها أحد الضباط النازيين على الاختيار بين واحد فقط من طفليها.

ولكن اختيار مريم من نوع آخر، فمخدومها المريض يطلب منها أن تساعده على الموت مقابل مليون جنيه، ولكنها تخشى بالطبع أن تصبح قاتلة. ومريم هي أيضاً أم وفرد في عائلة فقيرة مكونة من أب قاس وولدين مراهقين وابنة  في سن الزواج. وتصارع العائلة الفقر كما تتصارع فيما بينها، خاصة الابن الأكبر مع أبيه، وتتخلل الفيلم لحظات سوريالية وغرائبية ترقى به إلى مصاف الشعر، كما يتسم بجودة التمثيل خاصة من محمد رضوان الذي يقدم دوراً جاداً معقداً يختلف عن أدواره الكوميدية الخفيفة، ومن الوجوه الجديدة أو غير المشهورة، وبالأخص رشا سامي في دور الأم وأحمد أبو زيد في دور الابن المتمرد.

***

ومن المشاهد التي لا تنسى في الفيلم مشهد في البداية تجلس فيه الأسرة لتناول الطعام بينما أحد الأبناء يرتدي قناع فيل غريب ومخيف (على طريقة فيلم دوني داركو، لريتشارد كيلي، 2001)، ومشهد في النهاية يتعرض فيه الأب للضرب والسرقة من قبل لصوص بينما الابن يجلس في الغرفة المجاورة، محتلاً نصف الكادر، لا يسمع شيئاً لأنه يضع سماعات حول أذنيه.

ولعل أفضل ما في الفيلم هو المزج بين الواقعية متمثلة في دقة تصوير الحياة الشعبية الفقيرة والتمثيل الطبيعي وبين اللحظات الفانتازية السوريالية، ما يشيع إحساساً بالغرابة والانقباض يعبر عن الشخصيات وعالمهم.

“اختيار مريم” فيلم جيد يستحق أن يشاهد، وليت أحداً من الموزعين أو مسئولي المنصات ينتبه إليه. يستحق “اختيار مريم” وكثير من الأفلام المستقلة وأصحابها مزيداً من الفرص والاهتمام.. فلا تقتلوا شبابهم وأحلامهم كما فعلتم مع الكثيرين من قبلهم!

اقرأ أيضا:

عن آل عبد العزيز وبوسي: فنانون بالاسم فقط!

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.