أوراق زكريا الحجاوي المنسية: كان ذلك عام 1949

من أوراق زكريا الحجاوي المنسية نقرأ: لم تكن كلمة “الفلكلور” معروفة للناس على مستوى الجماهير بينما هي الآن من الكلمات المتداولة على كل لسان ومن موضات الأدب والفن على كل قلم.

والفلكلور باختصار ومن غير عياقة علمية هو الفن الشعبي، في ذلك الزمن كانت هذه الكلمة بكل مدلولاتها ومادتها هي موضع اهتمام أربعة صحفيين من الشبان ودفع بهم حماسهم للفن الشعبي أن ينشئوا مجلة وتم الاجتماع بين الأربعة أحمد رشدي صالح سكرتير تحرير إحدى الصحف السياسية الأسبوعية وناظر إحدى المدارس الابتدائية الخاصة، وحسن فؤاد الرسام وسكرتير تحرير إحدى الصحف اليومية المسائية، وأحمد شوقي الخطيب المحامي والعبد لله، وكنت في هذه الأيام أحد سكرتيري تحرير صحيفة يومية.

أوراق زكريا الحجاوي

كان يجمعنا إلى جانب الصداقة منهاج تفكيري واحد ومزاج فني متقارب، إذ كنا ننطوي على نظرة للحياة تختلف في ذلك الوقت عن نظرة الكتاب والصحفيين المعروفين ولم يكن منا رغم القراءة الواسعة والثقافة الجادة إلا المولود الناشئ في بيئة شعبية ومتفاعل بها ولذلك فقد آلينا على أنفسنا أن نهدم الحائط الذي يقسم الشعب إلى قسمين، قسم غريب عن الوطن يقرأ ويفكر بأسلوب الغرب.. والفلاحون – كقسم ثاني- وهم يعيشون على الثقافة الشعبية. كنا نريد هدم الجدار الفاصل بين الشعبين، حتى نأخذ من تقدم المدينة لنعطي للقرية ونأخذ من الشخصية القوية بالقرية ونعطي لإنسان المدينة، وازددنا إيمانا بالفكرة وإصرارا على تنفيذها لما علم أصدقاؤنا بمشروعنا هذا، ماتوا علينا من الضحك وسلقونا بألسنة حداد وبنكات لا تقاوم، وقررنا الاجتماعات العملية وبدأنا نسجل هذه الاجتماعات.

زكريا الحجاوي أثناء بحثه عن مواهب شعبية في أنجاء مصر
زكريا الحجاوي أثناء بحثه عن مواهب شعبية في أنجاء مصر

وفي شقة الأستاذ أحمد شوقي الخطيب بدأنا نجتمع يوميا صباحا قبل ذهاب كل منا إلى عمله وظهرا دون النظر إلى طعام أو شراب إلا نما يقيم الأود، وبدأنا نعد المراجع أذهب إلى المكاتب وأشتري كل ما ورد عن هذا الفن واذهب إلى سيدنا الحسين لأجمع كل كتب الثقافة الشعبية أبوزيد وعنترة وذات الهمة والظاهر وسيف بن ذي يزن وغيرها.. ووضعنا للميزانية قاعدة من قواعد الإيمان بالفكرة والصداقة وهي أن ما معه يسد وكان أغنانا وأكثرنا مالا شوقي الخطيب، فقد كان وراثا وناصحا.. أودع فلوسه بأحد المصارف واحتجز رشدي من راتبه شهريا جزءا وكذلك فعل حسن فؤاد وفعلت أنا وكنت أفقرهم، فقرروا أن أهب كتابي “سيد درويش.. حياته وفنه” للمشروع وفعلت وأعطيتهم الكشكولين المكتوب فيهما الكتاب وعلى فكرة هذا الكتاب لم يطبع للآن.. لأنه مايزال مخطوطا عند الأستاذ شوقي الخطيب.. وحرمني منه وأنا أكتب سيد درويش حلقات لصوت العرب.. ثم وأنا أكتبه فيلما للسينما.

العدد الأول

وتعاقد حسن فؤاد مع المطبعة وانتهى من وضع تصميم شخصية المجلة ببساطة رائعة ودفع عربون الورق للعدد الأول وعكف رشدي صالح على الكتابة والترجمة، وعشت في خلق أبواب للمجلة بتنوع يساعد على إعطاء فكرة عن فروع الفن الشعبي، وذهبت إلى الأستاذ المرحوم الدكتور سليم حسن أستاذ الآثار العالمي وأجريت معه حديثا عن الفن الشعبي في مصر القديمة، كما ذهبت إلى بيرم التونسي ليحدث قراءنا عن الزجل شعر العامة ومن هم القدامى الذين تأثر بهم. وذهب رشدي إلى عديد من زملائه الدكتور الأهواني والدكتور عبدالحميد يونس والدكتور محمد كامل سليم وتكون فريق من “الأنصار” وكان رشدي صالح كما هو اليوم قادرا على العمل الأربع والعشرين ساعة في الكتابة والترجمة والإبداع.

وفجأة وإذا بكل واحد منا يتلقى “نصيحة” من الدار الصحفية التي يعمل بها: “بلاش حكاية المجلة دي لأن البوليس السياسي شايف أنها ضد مصلحة البلد!”.

كان عجيبا أن يصل الخوف بالبوليس السياسي من أربعة أدباء ناشئين، إلا أن الخيانة كشفت عن نفسها بتلفيق الإتهامات لكل واحد منا. وانشغلنا بالدفاع عن أنفسنا، وعرفت من أحد ضباط القلم السياسي وكان بارزا من بين ضباط هذا القسم وكان زميلا لي بمدرسة بورسعيد الثانوية، علمت منه أن لكل منا تهمة “سراياتلية” فأنا مثلا كنت أضع يوم عيد الجلوس الملكي صورة لمريض هزيل طردته المستشفيات إلى جانب صورة الملك ومعنى ذلك أني أشوه الجلوس الملكي.. وجاءت الثورة كالأقدار المشرقة وإذا بالفن الشعبي ينطلق مع كل فكر ثوري، ينطلق على مستوى الجماهير.. وتغير منهاج فناني المدينة جميعا وكانوا غرباء بفنهم عن البيئة وعادوا إلى أوطانهم أحرارا بفن حر..

النبرة الموسيقية الفعالة هي النبرة الشعبية، التمثيلية الإذاعية الناجحة هي التمثلية الشعبية، المنهاج الجديد في توصيل الأفكار والمضامين العليا هو المنهاج الشعبي، المسارح والفرق والروايات لتجتذب الجمهور تقدم كل ما هو شعبي، وحتى الرقص الشعبي تعددت له الفرق.

للفن الشعبي اليوم مركز للتسجيل، محمد عبدالوهاب هذا الطائر العربي الفريد كان هو وأم كلثوم الخالدة في رائعة كامل الشناوي على أبواب مصر كانا مداحين بالنغم والأداء وكان غناؤهما بهذا الأسلوب البسيط المعجز. أسلوب مداحين لا لعصرنا وإنما لكل الأجيال الشهيدة على طريق النضال الوطني وللعصور القادمة، كنا نحلم وفسرت الثورة أحلامنا.. بالحقائق الزاهرة بعد أن أحلت الثورة “الضمير الوطني” محل البوليس السياسي.

زكريا الحجاوي

1 أكتوبر 1964

اقرأ أيضا

رمضانيات: أوراق قديمة منسية في حياة هؤلاء

محمود شكوكو في أوراق منسية: مسافر وسايب عندكم روحي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر