«أم كلثوم» تكتب: قصتي مع المليم والجنيه

بدأت أغني وعمري ثماني سنوات، وكان ذلك عند مأذون قريتنا «طماي»، وغنيت يومها “أقول لذات حسن ودعتني بنار الوجد طول الدهر آه”. ولم أتقاض مليما، فقد كان شرفا لنا أن نغني عند المأذون، وسمعني أهل القرية المدعوون عند المأذون وقالوا إن صوتي جميل. وفي اليوم التالي دعيت إلى فرح خفير نظامي في عزبة “الجوال” بالقرب من قريتنا، وقد غنيت هناك إلى الصباح. وفي تلك الليلة تقاضيت أول أجر في حياتي وكان عشرة قروش صاغ، ولم يكن هذا نصيبي وحدي، وإنما كان أجرة الفرقة المكونة من والدي وأخي خالد وأنا.
وبدأت القرية تسمع باسمي، وبعد ذلك بخمسة أيام أقام الحاج يوسف تاجر الغلال بالسنبلاوين ليلة ودعانا لإحيائها، وغنيت في تلك الليلة أغنية: “حسبي الله من جميع الأعادي وعليه توكلي واعتمادي”. وبقيت أغني من الساعة التاسعة مساء إلى الساعة الثانية صباحا بغير انقطاع. وكم كان سرورنا عندما دس صاحب الفرح يده في جيبه وأعطانا أجرنا الضخم، وكان في ذلك الوقت خمسة وعشرين قرشا. سررنا كل السرور وأعتبرنا أنفسنا بهذا المبلغ أغنياء.
***
وبعد ذلك فكر حسن أفندي حلمي التاجر بمحطة أبوالشقوق فى إقامة “ليلة” يكون الدخول فيها بأجر، وكان أجر الدخول خمسة قروش في الدرجة الأولى، وثلاثة قروش، في الدرجة الثانية، وبلاش في الدرجة الثالثة. أي يقف المتفرج من وراء الخيمة. ونجحت الليلة نجاحا لم يخطر لنا على بال. فقد حضرها متفرجون من البلاد المجاورة، وكان بين هؤلاء بعض أهالي المنصورة فأقبلوا يهنئونني، ولم أعرف أني نجحت إلا عندما أعطانا صاحب الليلة جنيها ونصف جنيه، ونظرت إلى الجنيه فى دهشة، فقد كان أول جنيه أراه في حياتي.
ودعانا عبد المطلب أفندي الموظف بدائرة المرحوم الشناوي باشا في الأسبوع التالي. لإقامة فرح أخيه فى كفر دماص بندر المنصورة بأجر قدره جنيه ونصف في الليلة بما في ذلك مصاريف الانتقال. وبدأت أشعر أني انتقلت من مطربة “محلية” إلى مطربة “عالمية”. ذلك أني دعيت بعد ذلك إلى الغناء في مركز أجا. ثم وجدت نفسى انتقل من مديرية الدقهلية إلى مديرية الشرقية فغنيت في كفر صقر. وفي سنة 1915 كنت أركب حمارا ويسير أبي وأخي على أقدامهما!
وفى سنة 1916 زاد إيرادنا، فكنا نركب نحن الثلاثة حميرا. ومن الطريف أن أهل الفرح كانوا يحضرون لنا الحمير لنذهب إلى الفرح وبعد انتهاء الفرح يتركوننا نعود إلى بيتنا مشيا على الأقدام. وحتى سنة 1919 كنت أركب الدرجة الثالثة فى قطار السكة الحديد، وفي سنة 1919 ارتفع أجري بارتفاع القطن فوصل إلى ثماني جنيهات، ثم قفز إلى عشرة جنيهات. وكنا نجلس في الدرجة الثانية بتذاكر الدرجة الثالثة، لقد كنت أغني لهذا الكمساري طول الطريق ولا أقف إلا في المحطات!
***
وأول بيت رجل كبير دخلته منزل”حمزة” بالمحلة الكبرى، وكان الداعي نعمان الأعصر باشا عمدة المحلة، وقد أرسل يدعونا بالتلغراف، وكان هذا أول تلغراف تلقيته في حياتي، ولم نقاوله طبعا، واكتفينا بأن نرسل له خطابا بالقبول. وغنيت وأعطاني ثلاثة جنيهات فقط، ولم أقل شيئا فقد أعطاني المبلغ في كوفية حرير. ولم يكن هذا المبلغ قليلا في تلك الليلة، فقد رآني الشيخ أبوالعلا محمد لأول مرة. ومنذ تلك الليلة أصبح أستاذي ومنذ تلك الليلة أيضا تغير مجرى حياتي.
فقد سافرت مع الشيخ أبوالعلا محمد إلى مصر وتتلمذت على يديه. وكان أول شيء فكر والدي بعد أن تحسنت حالتنا المادية هو أن سمع أن البيض يحسن الصوت، فكان يجعلني آكل خمس بيضات كل يوم. وقد ظهر أن هذا البيض الكثير يتلف المرارة، ونتج عن هذا أن الأطباء الآن يمنعونني من أكل البيض، وفي كثير من الأحيان أشعر أن من أعظم أماني حياتي أن آكل بيضة واحدة!
آخر ساعة- فبراير 1948.
اقرأ أيضا:
شهادة أصدقاء الطفولة: «أم كلثوم» في سنوات التكوين
«الست» في 2025: ماذا لو كانت أم كلثوم بيننا اليوم؟