أم كلثوم العربية ضد عبد الوهاب المصري على الشاشة

كتبت في موضع آخر عن أفلام أم كلثوم مستخدما عبارة “سينما أم كلثوم” وميزت في الأفلام الستة التي قامت ببطولتها كوكب الشرق بين ما أطلقت عليه “أفلام المدينة” و”أفلام الصحراء”. وأشرت في عجالة إلى أن أفلام المدينة، التي تدور في المدينة الحديثة، كثيراً ما تقابل بين المدينة الأوروبية والحارة التقليدية، أو بين الريف والحضر. هي أفلام تدعم خطاب الهوية الثقافية المصرية الحديثة، وتجسدها في مباني ومؤسسات المدينة الحديثة والمهن التي يمارسها أهل المدن. بينما أفلام الصحراء هي أعمال تدعم خطاب هوية مصرية عربية، تعبر عن نفسها باستخدام مواضعات ومسكوكات استشراقية عن الصحراء والخيل والخيام، باعتبارها تجسيداً بصرياً لفكرة العروبة الثقافية.
فيما يلي، أتأمل شخصية أم كلثوم في أفلام العروبة السينمائية على ضوء المقابلة بين شخصيتها السينمائية وتفاعلها مع الواقع الثقافي والاجتماعي، وبين الشخصية السينمائية لمنافسها الغنائي والسينمائي، الموسيقار محمد عبد الوهاب. أرى الفاعلية الثقافية الاجتماعية لخطاب النجمين أم كلثوم وعبد الوهاب في دعم تصور المجتمع عن الهوية المصرية، من خلال حضور كل منهما على الشاشة، تضع عبد الوهاب موضعاً يكاد يكون على النقيض من حضور أم كلثوم السينمائي.
عبد الوهاب اللاكلثومي
يتضح تميز اختيار أم كلثوم لأفلامها على المستويين الثقافي والسياسي، إذا ما قورن باختيار الموسيقار محمد عبد الوهاب لأجواء الأفلام السبعة التي قام ببطولتها في حقبة معاصرة لسينما أم كلثوم في الثلاثينات والأربعينات. فكل الأفلام التي ظهر بها عبد الوهاب تنتمي إلى أفلام المدينة، بل وتركز على تفوق المدينة أوروبية الطابع وأحيائها الراقية، أو تميز نمط الحياة التي يتمثلها الأبطال في المدينة، حتى لو كانوا من أصول ريفية. حتى فيلم “ممنوع الحب” بطولة الموسيقار الكبير الذي يدور قسم منه في جو ريفي، يؤكد على أن المثل الاجتماعي الأعلى في القاهرة، وهو اختيار ظل عبد الوهاب يؤكده من خلال الشخصيات التي قدمها على الشاشة، وكذلك بما أستشفه من موسيقاه ومن خطابه في الصحافة ووسائل الإعلام طيلة حياته. والريف في فيلم “يحيا الحب” هو العزبة التي تؤكد ثراء الأبطال المقيمين بالقاهرة، استناداً إلى ثروة العائلة الزراعية. وكذلك الريف في “دموع الحب” هو سر ثروة البطل محمد عبد الوهاب.
أفلام عبد الوهاب إذاً أفلام مدينة، تدعم فكرة الحداثة المصرية باعتبارها ترتكز على التحديث على النمط الأوروبي. بينما أفلام أم كلثوم تتراوح بين ذلك الخطاب الداعم للحداثة المصرية القطرية، وهو الخطاب الموجود في ثلاثة من أفلامها: “نشيد الأمل” و”عايدة” و”فاطمة”، وبين خطاب العروبة الثقافية التي تضع الثقافة المصرية وتاريخها في إطار إقليمي رحب، وذي جذور قديمة تعود إلى العصور الوسطى، لا سيما في لحظات المجد الأموي في فيلم “سلامة” وزمن الزهو العباسي في فيلم “دنانير”، بالإضافة إلى فيلمها الأول “وداد” غير الواضح موقعه التاريخي، وإن أشار الخطاب النقدي إلى أن زمن الفيلم هو عصر المماليك.
***
أي أن أم كلثوم بحضورها القوي في أفلام الصحراء تعضد خطاب العروبة الثقافية، باعتبار الصحراء علامة نمطية تشير إلى العروبة، بينما عبد الوهاب يكاد يبتعد على وجه الإطلاق عن ذلك الخطاب، مكرساً فكرة مصر الحديثة المستقلة عن الإقليم العربي، المتمثلة النموذج الأوروبي العصري.
اللحظة الوحيدة التي كاد عبد الوهاب أن يظهر فيها وقد استخدم علامات العروبة الصحراوية التراثية هي أوبريت “مجنون ليلى” التي لحنها عبد الوهاب وغناها في ثنائي دويتو مع أسمهان في فيلم “يوم سعيد” الذي أخرجه محمد كريم عام 1939 وظهر على الشاشة في مطلع عام 1940. كان المفترض في الفيلم أن عبد الوهاب، وهو في المدينة الحديثة وبملابسه على الطراز الأوروبي، يذهب إلى المسرح أو الأوبرا مع حبيبته سميحة سميح، ليحضرا عرضاً لمسرحية “مجنون ليلى” من تأليف أحمد شوقي، وكأن المسرحية قد تحولت إلى أوبريت تؤدى غناءً على المسرح.
ثم يتخيل عبد الوهاب نفسه وقد تحول إلى شخصية قيس مرتديا ملابس العرب السينمائية، ويظهر على خشبة المسرح أمام أمينة الشريف وهي تؤدي دور ليلى، بينما تؤدي صوت ليلى المطربة أسمهان. وتم تصوير المشهد بحيث يظهر عبد الوهاب/قيس وهو ينشد مع أمينة/ليلى أبياتا من مسرحية “مجنون ليلى” لأحمد شوقي، في إطار مختارات من مشاهد المسرحية.
***
كانت الأوبريت التي يبلغ طولها عشر دقائق فرصة لاستعراض مواهب عبد الوهاب في التلحين الدرامي. وكان المشهد يلعب دور المجاز الذي يشير إلى حرارة حب عبد الوهاب لسميحة سميح. فالاستعارة التصريحية في تلك اللحظة المركبة بين زمن الفيلم وزمن العرض المسرحي الغنائي هي مجاز واضح: عبد الوهاب هو قيس، وحبيبته في الواقع المعاصر على الشاشة هي ليلى.
كما تؤدي تلك الفقرة دور التأصيل البصري لماض مجيد يعاد إنتاجه: القصة ترجع إلى العصر الذهبي للإمبراطورية العربية المسلمة في بداياتها الأموية. فإذا بالقصة التراثية تكتسي عظاماً ولحماً وتعود بالمشاهد المصري في مطلع عام 1940 إلى القرن السابع. وكأن المشاهد يعيش لحظة مجد مؤسس، وكأنه يشهد في دقائق خيطاً يمتد على الشاشة بين زمن المجد الأموي وزمن المجد الملكي المصري، في عصر الملك الشاب فاروق، الذي كان قد صعد إلى عرش البلاد قبل عرض الفيلم بأربعة أعوام.
ثم إن ذلك المجد الذي تستعيده السينما هو مجد متصل بخط متين بالحاضر الحديث، لأن الأبيات التي يغنيها عبد الوهاب وأسمهان كتبها شوقي في مسرحية “مجنون ليلى” وقد ظهرت عام 1931، أي قبل عرض الفيلم بأقل من عشرة أعوام.
***
لكن عبد الوهاب لم يعجبه شكله بالملابس العربية والماكياج “البدوي”. وصمم عبد الوهاب على إعادة تصوير المشهد بالاستعانة بممثل آخر. وهكذا قام أحمد علام بأداء الدور بصورته لا بصوته، وهكذا تجنب عبد الوهاب أن يراه الجمهور في ملابس غير حديثة، وبهيئة لا يستريح لها. فظهر فيلم “يوم سعيد” وقد خفتت تلك الاستعارة: عبد الوهاب هو قيس وأسمهان/أمينة الشريف هي ليلى.
وبذلك اختفت اللحظة الوحيدة التي كان عبد الوهاب قد طرح نفسه بصريا، على الشاشة، وهو يلقي بتحية إلى المجد العربي القديم، ويساهم -بظهوره في ملابس قيس بن الملوح- في تغذية خطاب العروبة السينمائية، وتأصيل الحداثة المصرية في التراث العربي أيام العصر الذهبي للإمبراطورية العربية المسلمة، والذي يتوازى مع فعل أمير الشعراء شوقي نفسه، الذي كتب مسرحية حديثة في مصر، يستعيد فيها قصة حب خالدة تعود إلى العصر الأموي.
أم كلثوم الجارية المستقلة في النهضة الحديثة
في أفلام الصحراء التي قامت أم كلثوم ببطولتها، أي في أفلامها “العربية” التي تدعم خطاب الجذور العربية المسلمة العريقة للحداثة المصرية، كانت كوكب الشرق دائما جارية. فشخصيات وداد ودنانير وسلامة في الأفلام الثلاثة التي تحمل أسماء البطلة، كانت جميعاً وبلا استثناء شخصيات جوارٍ مغنيات. ولم تتخل أم كلثوم عن تلك الشخصية النمطية منذ بطولتها في فيلمها الأول “وداد” عام 1936، إلى آخر أفلامها الصحراوية “سلامة” عام 1945.
من الناحية القانونية التقنية، لم تكن دنانير/أم كلثوم أمةً، لأنها كانت حرة في مضارب عشيرة أبيها في الصحراء. وذهبت مع جعفر البرمكي/سليمان نجيب إلى بغداد مختارةً لا أسيرة أو سبية. لكن في النهاية، من حيث علاقات القوة والوضع الاجتماعي، فحتى دنانير كانت رهن إشارة “سيدها” الوزير جعفر، لأن وضعها في القصر مرتبط بأنها قد دخلت الحريم، ولأن دنانير قد دخلت في خدمة جعفر البرمكي كمغنية، وأن مصيرها مرتهن بإرادته، ثم بإرادة الخليفة هارون الرشيد بعد أن أعدم جعفر.
***
ليس التناقض صارخاً على الشاشة فحسب، بين وضع الجارية القانوني في العصر الذهبي للحضارة المسلمة، وبين وضع أم كلثوم كنجمة مثقفة مستقلة تعتبر من قيادات الحقل الثقافي والمجتمع المدني، لكن التناقض الأخطر قائم بين الرغبة في إحياء ماض تليد، والسعي إلى التوفيق بين ممارسات ذلك الماضي وقيمه من ناحية، وبين سياق الحداثة المعتمد على حرية الأفراد والمساواة القانونية بينهم، من ناحية أخرى. كيف تقدم السينما -وسيط الحداثة بامتياز ودرة تاجها التكنولوجي- أم كلثوم جارية أموية أو عباسية في “دنانير” أو “سلامة”، بحيث تصلح أن تكون في الأربعينات أصلاً لصورة المرأة الجديدة، المرأة المتحررة التي ظهرت في الغرب غداة الحرب العالمية الأولى، والتي كانت أم كلثوم تجلياً لها على صفحات المجلات في الثلث الأول من القرن العشرين؟
في أفلام الصحراء العربية، تقف أم كلثوم على حدود المفارقة التوفيقية التحديثية في خطاب النهضة، موقفا شبيها بموقف هيكل والعقاد وطه حسين في فترة معاصرة لظهور أم كلثوم الأموية العباسية السينمائية. فهؤلاء المفكرون والمؤرخون الثقافيون يكتبون سيرة النبي محمد وأيام الإسلام الأولى بوصفها – بتعبير جرجي زيدان- عصر النهضة. وكما أن كتاب النهضة يعيدون صياغة حياة النبي محمد، بحيث تبدو سياسته متفقة مع معاير الحرب والسياسة في القرن العشرين، تظهر أم كلثومعلى الشاشةفي أفلام الصحراء، في شخصية جارية، لكنها تتمتع بقوة شخصية وحرية واستقلال تنسي المشاهد أن وضعها القانوني هو العبودية أو على الأقل التبعية لمشيئة الرجال. أي كما أعاد هيكل والعقاد وطه حسين إنتاج التراث العربي المسلم ليصير مؤسساً للنهضة في الثلاثينات والأربعينات، أعادت أم كلثوم إنتاج التراث ذاته ليبدو “مشابهاً” لأفضل التصورات عن المرأة ووضعها في القرن العشرين، زمن إنتاج الأفلام.
***
لكن يلفت النظر وجود تناقض كبير بين وضع الجارية أو “الخريدة” في القصر -بالتعبير التراثي-، أو حتى الحرة التي تنازلت عن حريتها بإرادتها في حالة دنانير، وبين تصورات الحداثة عن حرية المرأة، حتى في حدود المطروح في النصف الأول من القرن العشرين. المطروح آنذاك هو حق المرأة في اختيار زوجها، وحقها في الاختلاط والتعلم. وهو ما تقوم به جواري أم كلثوم على الشاشة. لكن يظل وضعها القانوني متناقضاً مع طموح الحداثة، وكأن وضع الجارية هو المسكوت عنه في لاوعي أفلام أم كلثوم التي تدور في الصحراء، وكأن الأفلام تزعم أن المرأة قد تحررت في الحداثة، بينما تعترف بشكل لاواعٍ بأن المرأة، على شاشة أم كلثوم، كما في الثلاثينات والأربعينات، لم تزل في وضع مقيد لحريتها واستقلالها.
فالحق أن السينما بشكل عام في الثلاثينات والأربعينات، لم تكن فقط طليعية في تقدميتها وحداثتها. بل كانت السينما تحاول عمل مواءمات أخلاقية، بين فكر التحرر والمساواة والرغبة في عدم إفزاع القوى المحافظة في المجتمع. فهكذا، مثلاً، فمن ناحية تظهر السينما تطلع أم كلثوم كجارية، لكن تعطيها سطوة على الرجال بفضل ذكائها المثقف وصوتها الخلاب.
***
ربما كانت علامة النهضة في أفلام أم كلثوم هي التوازي المضمر إنتاجه بين المجد المعروض على الشاشة، والمجد المفترض في مصر الملكية الحديثة. وربما كان التحسن المقصود في وضع المرأة تحديداً -كما تصوره أفلام الصحراء من بطولة أم كلثوم- هو إمكانية ترقي المرأة اجتماعياً بفضل التعلم، فغناء الجارية والخدمة في الحريم معادلان لمؤسسات التعلم الحديثة- مع اقتران التعلم باحتضان الدولة، وليس فقط احتضان رجل ثري.
من المثير أن أم كلثوم في كل أفلامها، في الصحراء والمدينة، تترقى اجتماعياً بالزواج، أو بالرابطة العاطفية_ من رجل غني (طبيب في “نشيد الأمل” أو وزير في “دنانير”) ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لأفلام عبد الوهاب، التي كثيراً ما نراه يصعد فيها اجتماعيا بفضل التعلم والتوظف، بالإضافة على زواجه من أسرة ثرية، بعد أن يثبت “استحقاقه” للترقي.
لكنَ فيلمين من أفلام أم كلثوم العربية الصحراوية ينتهيان بموت الحبيب أو بالفراق بين الحبيبين، في “دنانير” و”سلامة”. بينما تنتهي كل أفلامها الحديثة، التي تدور ولو جزئيا في أحياء القاهرة أوروبية الطابع، بنهايات سعيدة، أي بزواج أم كلثوم من حبيبها. ألاحظ أن النهايات السعيدة عددها أكبر في أفلام المدينة عند عبد الوهاب، فخمسة من سبعة أفلام تنتهي بالزواج السعيد بين البطل والبطلة. أرصدُ التباين بين عدد النهايات السعيدة في أفلام الصحراء عند أم كلثوم، ونهايات أفلام المدينة عند أم كلثوم وعبد الوهاب معاً.
***
لكن هل نبني على هذا فرضية أن اللجوء إلى الماضي العربي عند أم كلثوم يحمل حزنا وليس فقط حنيناً، باعتبار أن وداد وحدها هي التي ينتهي بها الحال إلى العودة لحبيبها أحمد علام (والعيش معه، لا الزواج منه)؟ هل نلاحظ أن أم كلثوم الجارية تتقطع بها سبل الترقي الاجتماعي بوفاة سيدها في فيلم “دنانير”، أو تترقى اجتماعيا في “سلامة” لكنها تفقد الحب؟ مع ملاحظة أنها لا تترقى كثيراً في “وداد”، بل إنها تعيش تدهوراً متواصلاً بعد أن يبعها سيدها وحبيبها، والتحسن في نهاية الفيلم هو مجرد عودتها إلى كنف سيدها الحبيب، بلا ترقي حقيقي. وكأن الركون إلى الماضي العربي في العصر الذهبي لا يحمل عند أم كلثوم على الشاشة إلا التعاسة.
وفي المقابل، فمعظم أفلام عبد الوهاب، وكلها ذات طابع مصري حديث تنتهي نهاية سعيدة، باستثناء فيلمي”الوردة البيضاء” و”ممنوع الحب”.وربما لا يعدو الأمر أن يكون تصوير محمد كريم وعبد الوهاب لتطور الذائقة العامة يتمثل جمهوراً يستعذب النهايات التعيسة قبل الحرب العالمية الثانية ولا يستعذبها. ففيلما عبد الوهاب اللذان ينتهيان بنهاية حزينة قد أنتجا قبل الحرب، فإذا ما اندلعت الحرب، لم يقدم عبد الوهاب إلا نهايات سعيدة، بينما أقدمت أم كلثوم على تقديم عملين “صحراويين” أثناء الحرب ينتهيان نهايات مفجعة، وكأن جلال الماضي العربي العريق لا يكتمل إلا بالحزن.
***
ربما كانت العظة المستخلصة من أفلام الصحراء العربية عند أم كلثوم أن الترقي والتحديث في كنف السلطة مآله الخراب. فحبيبا الجارية في “دنانير” و”سلامة” يموتان في ميدان السياسة أو ميدان الحرب، وفي أفلام أنتجت أو بدأ صنعها في خضم الحرب العالمية الثانية: عرض “دنانير” عام 1940 و”سلامة” عام 1945 بينما استمرت الحرب من 1939 إلى 1945. وتدهور حال البطلة بتدهور حال حبيبها وحاميها يشير للمشكلة المذكورة: أن التحديث كما نراه على الشاشة يزعم تصوير نهضة، لكنها نهضة لم تزل ترهن تقدم المرأة وتطور أحوالها بكونها “جارية” لرجل أو على الأقل تابعة له.أما في “وداد”، ينتهي الفيلم بالزواج بين الحبيبين أم كلثوم وأحمد علام، لكن بعد خراب حياتيهما، فلا يبدو الهناء هو الأفق في الفيلم، ولكن تضميد الجراح.
الاقتباس وخاتمة المصير السينمائي
يلعب الاقتباس عن الأدب دورا في تلك المقابلة بين الهوية الثقافية، كما يرسمها كل من النجمين أم كلثوم وعبد الوهاب على الشاشة. عندما لجأ محمد كريم إلى الاقتباس، فقد استلهم رواية “ماجدولين” التي اقتبسها المنفلوطي عن رواية “تحت ظلال الزيزفون” الفرنسية لألفونس كار، المنشورة عام 1832والمقتبسة إلى العربية عام 1912.
وكذلك استلهم الثنائي كريم/عبد الوهاب المسرحية الخفيفة الكوميديا الرومانسية “رصاصة في القلب” من تأليف توفيق الحكيم، في فيلم بالعنوان نفسه. أما الاقتباس الأوضح عند أم كلثوم فهو استلهام قصة سلامة الجارية الأمية المذكورة في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، كما استلهمها علي باكثير في رواية “سلامة القس” ومصطفى الرافعي الذي نشرها في كتابه “وحي القلم” بعنوان “سمو الحب”.
***
أي أن كلا النجمين قد لجأ إلى الاقتباس عن الأدب، ليزيد من رصيد عمله الرمزي والأدبي. لكن عبد الوهاب لجأ بوضوح للأدب الرومنسي والمسرح الحديثين، المعتمد بالأساس على الغرب الحديث، ورموزه “كار” والمنفلوطي بالنسبة ل “دموع الحب” والحكيم بالنسبة لـ”رصاصة في القلب”. بينما لجأت أم كلثوم في فيلم “سلامة” إلى كاتب محافظ، هو علي أحمد باكثير، يكتب نوعا فنيا حديثا نسبيا -وهو الرواية- لكنه يستلهم كتاب “الأغاني” القديم. أي أن المرجعية في حالة أم كلثوم هي التراث البعيد المنتمي إلى العصور الوسطى. وكأن حتى الاقتباس يشي بالتصاق عبد الوهاب بفكرة المصرية المستقلة المتمثلة الغرب الحداثي، بينما تلجأ أم كلثوم بقدر أكبر إلى المرجعية العربية التراثية.
لجأ عبد الوهاب إلى اقتباس أدبي جزئي، إذ ضمن فيلم “يوم سعيد” مقتطفاً من مسرحية أحمد شوقي الشعرية “مجنون ليلى”. كانت هناك لحظة وحيدة في ذلك الفيلم، كاد فيها عبد الوهاب أن يعمل عمل أم كلثوم، فيظهر مرتبطاً بعلامات الصحراء وبالتالي بإشارات العروبة الثقافية تراثية المصدر. لكن شاءت المصادفة -التي هي من بلاغة القدر وحكمته- أن يشاهد عبد الوهاب الشريط بعد تصوير أوبريت “مجنون ليلى”، فلايعجبه شكله بالزي البدوي واللحية المسرحية الملازمة للقوالب البصرية عن صورة العربي القديم. وبالتالي يوجه عبد الوهاب بإتلاف البوبينة المصورة، ويطلب من المخرج محمد كريم أن يعيد تصوير المشهد بممثلين آخرين وباستخدام صوت الثنائي عبد الوهاب وأسمهان من خارج الصورة.
***
هكذا احتفظنا بصريا بصورة عبد الوهاب الشاب والرجل الناضج حصرياً بملابس الحداثة الإفرنجية في فيلم “يوم سعيد”. ويزيد من المفارقة أن عبد الوهاب في حضوره العربي القديم على الشاشة، حين يعير صوته لشخصية من العصر الأموي مثل قيس بن الملوح، إنما يفعل هذا باستخدام تقنية الفويس أوفر، وهي من أكثر التقنيات السينمائية تعقيدا في عمر صناعة السينما المصرية آنذاك، لأنها تقتضي تركيب الصوت على الصورة بعدما تم تسجيلهما بممثلين مختلفين وفي سياقين مختلفين. مما يضاعف من صعوبة موائمة حركة الممثل في الصورة مع تدفق الكلمات المسموعة من فمه. أي أنه حتى عندما ظهر بصوته فقط حاملاً لإشارة إلى العصر الذهبي الأموي، فإنه يفعل ذلك محمولاً بتكنولوجيا معقدة حديثة.
سينمائياً، قدم عبد الوهاب شريطاً صوتياً أظنه الوحيد الذي يجمعه بمنافسة أم كلثوم المحتملة: أسمهان. لكن ظلت المنافسة بيننجمي الغناء العربي التحديثي: أم كلثوم وعبد الوهابمنافسة مباشرة في ساحات المسارح والأسطوانات والشاشات. وفي السينما تحديداً، مثل النجمان على الشاشة خطابين متمايزين عن الهوية الثقافية في نهايات عصر النهضة (الثقافية) المتأخرة: من ناحية، التحديث النخبوي القطري، المتطلع طبقيا والمستغرب، الذي يجسده عبد الوهاب في كل أفلامه،والذي تتفاعل معه أم كلثوم في أفلام المدينة التي قدمتها، لكن باعتباره تحديثاً يتطلع طبقيا دون نفي الأصول الفقيرة الريفية (في فيلم”عايدة”)، أو الأصول المدينية الشعبية في الحارة (في فيلم”فاطمة”). لكن موقف أم كلثوم السينمائي المناقض لموقف عبد الوهاب كان يتجسد في أفلام الصحراء التي قدمتها، والتي دعمت خطاب التحديث الحريص على التأسيس التراثي العربي للثقافة المعاصرة.
اقرأ أيضا:
شهادة أصدقاء الطفولة: «أم كلثوم» في سنوات التكوين
«الست» في 2025: ماذا لو كانت أم كلثوم بيننا اليوم؟