في ذكرى ميلاد محمد عبد الوهاب.. أسرار في حياة موسيقار الأجيال

“يا مسافر وحدك.. كل ده كان ليه.. لا مش أنا اللي أبكي.. النهر الخالد”. جميعها أغاني وألحان تذكرنا بالمبدع الراحل الموسيقار محمد عبد الوهاب ، موسيقار الأجيال، الذي تحل ذكرى ميلاده هذا الشهر.

هو صاحب البصمة الفنية التي أحدثت نقلة في الموسيقى في مصر مطلع القرن العشرين ومنتصفه. فقد استطاع أن يمزج الموسيقى الغربية بالشرقية ليكون خلطة لحنية مبدعه نسمعها في ألحانه لنفسه أو لنجوم الطرب في ذلك الوقت، ومن بينهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد.

الإبداع والإلهام الفني من وجهة نظر عبد الوهاب. يقول “إنها القدر.. القدر لحظة ينطق كلمته.. لحظة الميلاد لايمكن أن تتحدد بزمن أو معاد قد تأتي فجأة وقد أنتظرها زمنا طويلا..”.

غلاف كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني
غلاف كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

لغز الميلاد

محمد عبد الوهاب، الذي عشق الغناء والإنشاد في سن صغيرة ومارسه وهو لم يبلغ الـ12.

ووفقا لكتاب “محمد عبد الوهاب: حياته وفنه” من تأليف الدكتورة رتيبة الحفني، إصدار الهيئة العامة للكتاب.  “كان هناك اختلاف على عام ميلاد عبد الوهاب الذي لم يحسمه هو نفسه في حياته حيث ظل عام الميلاد لغزا غامضا ومحل خلاف”.

ولد محمد عبد الوهاب في 13 مارس 1910م.

وجاء في سجل المكتبة الصوتية للمؤرخ عبد العزيز محمود العناني أنه من مواليد 1902.

وفي حديث منيرة المهدية فإن عبد الوهاب مثل أمامها دور “مارك انطوان” عام 1927. وكان عمره وقتها 25 عام ولذلك كان عام 1902م يظل أرجح الأراء حول مولده، وفقا للكتاب سالف الذكر.

صور من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني
صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

نشأ محمد عبد الوهاب لأب متدين، يتلو كتاب الله، وهو الشيخ محمد أبو عيسى من قرية “بني عياض” بمركز أبو كبير بمحافظة الشرقية، لكنه عاش في القاهرة بعد ذلك عند دراسته في الأزهر وعمل مؤذنا وقارئا في جامع سيدي الشعراني في حي باب الشعرية، أما والدته هي فاطمة حجازي من القليوبية وقد أنجبت ثلاثة أولاد، هم: حسن ومحمد وأحمد وبنتين ماتتا صغيريتين.

ثقافة عبد الوهاب الموسيقية والغنائية

تعلم عبد الوهاب تجويد القرآن على يد الشيخ رمضان عريف في الرابعة من عمره، كما عاصر في طفولته أصواتا كثير من الشيوخ، فحفظ الموشحات والقصائد، كما تأثر بأسلوب الشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد درويش في الغناء، واكتمل صوت عبد الوهاب في أوائل العشيرينيات بعد أن استوعب صوته في هذه الفترة 14 مقاما.

صور من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني
صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

يقول عبد الوهاب عن العلم والثقافة “العلم شيء والثقافة شيء آخر يقولون فلان متعلم معه شهادة.. باسبور في يد إنسان يقول إنه مهندس، دكتور.. الخ.. المثقف يختلف لأنه هو الذي يرغب في تثقيف نفسه.. يعني ممكن متعلم وغير مثقف لأن الثقافة هي الكلية الشاملة التي تشمل الحياة.. المدرسة لا تعلمك كل الحياة”.

مراحل في حياة عبد الوهاب

 

ومن خلال كتاب الدكتورة رتيبة الحفني، توضح المراحل التي مر بها عبد الوهاب في حياتة الفنية، التي قسمتها إلى تسعة مراحل: 

1- التقليد والمحاكاة “فيها كان متأثرا بالأسلوب التقليدي في تلحين الأغاني متأثرا بالشيخ سلامة حجازية وسيد درويش والتي كانت بمثابة مرحلة دراسية له.

صور من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني
صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

2- مرحلة “ياجارة الوادي”1928 م

وخلال هذه المرحلة لحن كلنا نحب القمر، و ياجارة الوادي وغيرها من الأغاني والقصائد في هذه المرحلة، كما اهتم بإظهار العرض الصوتي في أسلوب متميز بعيدا عن الابتزال، وفي هذه الفترة لمع فن “المنولوج” الذي أعجب به عبد الوهاب، وأبدع فيه معتمدا على ما كان يكتبه أمير الشعراء أحمد شوقي من أشهرها “بلبل حيران”، “اللي يحب الجمال”، “أهون عليك”.

تلحين مونولوج

3- مرحلة “الليل لما خلى”

وهو منولوج لجأ فيه عبد الوهاب إلى لون جديد في الغناء يعرف “بالغناء الحر” وتعني بدون مصاحبة إيقاعية للحن إضافة إلى أنه أدخل آلات جديدة على الموسيقى العربية وشكلت هذه المرحلة بالنسبة له صفحة جديدة في التلحين والغناء، كان هو من رواده وتأثر به كل معاصريه.

4- مرحلة السينما:

وأولها كانت مرحلة أفلام مثل “الوردة البيضاء”، “دموع الحب”، والثانية “يوم سعيد”، “ممنوع الحب”، “رصاصة في القلب”.

وقد انتقل عبد الوهاب بالأغنية السينمائية إلى لون جديد اعتمد فيه على البساطة واختصار العرض الصوتي، وفيها أدخل لأول مرة الإيقاعات الراقصة  في الأغاني مثل الرومبا، والتانجو، والسامبا، إضافة إلى اقتباسه بعض ألوان الغناء الغربي.

5- مرحلة القصائد والأغنية الطويلة:

التي ظهرت خلال مرحلة السينما مثل “الجندول” 1939 ، “كليوبترا”1944 و”الكرنك” 1941 وقد قام عبد الوهاب بتتطوير هذا القالب الكلاسيكي في ألحانه.

مرحلة أيظن 

7- هذه المرحلة اسمها عبد الوهاب“أيظن” 

وهي مرحلة جديدة انتقل فيها إلى الشعر الغنائي التي ركز فيها بالتعبير عن الكلمة.

صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني
صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

8- مرحلة أغاني أم كلثوم:

التي أطلق عليها النقاد مرحلة الشوامخ، وظهرت فيها ما سمى باللقاء السحاب إنت عمري، هذه ليلتي، فكروني.. وهنا نقل عبد الوهاب أم كلثوم إلى أسلوب جديد وأقنعها بإدخال آلالات الأكورديون والجيتار والأورج الكهربائي إلى أغانيها.

9- مرحلة الموسيقى البحتة أو التعبيرية:

وفيها أدخل قوالب موسيقية جديدة غير مألوفة، كما اهتم بالمقدمة الموسيقية، التي كان من الممكن أن تؤدي كمقطوعة مستقلة بذاتها، وقد تميز إنتاج عبد الوهاب في الخمسينات بالغزارة وظهرت له الأغاني القصيرة مثل “قولي عملك ايه قلبي”، و”ومش أنا اللي ابكي”.

اللقاء الذي غير حياتة الفنية

أحمد شوقي أمير الشعراء- مشاع إبداعي، ومحمد عبد الوهاب من كتاب د.رتيبة الحفني

وفقا للكتاب الحفني “تصادف أن أقام النادي حفلا في صيف 1924 بكازينو “سان استيفانو” بالإسكندرية حضره كبار رجال الدولة، وكان من بين الحاضرين الشاعر أحمد شوقي وغنى وأبدع عبد الوهاب في غناء أدوار محمد عثمان وبعد انتهائه من الغناء فوجىء بمن يستدعية لمقابلة شوقي “بك” الذي كان قد تسبب من قبل في حرمانة من الغناء.

قال شوقي: “استمعت إليك وأنت تغني بصوت جميل.. ولكنك كنت طفلاً صغيرا..

وأكمل عبد الوهاب الجملة: ومنعتني من الغناء

ضحك شوقي وقال: “كان ذلك في مصلحتك.. إنني كنت أخاف على صحتك.. لقد هالني أن تبقى كل ليلة تعمل في المسرح حتى مطلع الفجر..

أما اليوم وقد صرت شابا.. فأنا مطئن أنك اتخذت طريقك الصحيح

شوقي وعبد الوهاب

بعد هذه الكلمات طلب أحمد شوقي من عبد الوهاب أن يتصل به في القاهرة بمجرد عودته إليها، ومنذ هذه اللحظة تغيرت حياة عبد الوهاب الفنية.. فقد تبناه أحمد شوقي وغير كل شيء في حياته، حيث كان عبد الوهاب معجب بشخصية شوقي حتى أصبح نسخة طبق الأصل من أستاذة وذلك وفقا لما ذكرته الدكتورة رتيبة الحفني في كتابها.

وعندما كان يواجه عبد الوهاب نقدا لاذعا يغضب منه، كان يستمع لنصيحة شوقي “ضع الجرائد التي تهاجمك على الأرض وقف عليها.. كلما ارتفعت الجرائد ارتفعت قامتك أيضا”.

وقال عبد الوهاب عن أستاذه “إنه وهب حياتة للشعر وعاش به راهبا بعيدا عن الناس.. وهذا أرقى عشق الفنان لفنه”.

تطويره الموسيقى العربية

أدخل عبد الوهاب آلات غربية جديدة لأول مره تستخدم في الموسيقى العربية، وهي آلة الفيولنسيل “الشيللو” والكونترباص إلى جانب آلتي المثلث والكاسنيت وهما من الآلآت الإيقاعية، إضافة إلى آلة “الأكورديون” التي نلاحظها في أغنية “مريت على بيت الحبايب” والجيتار والأورج الكهربائي، وأيضا آلة البيانو في أغنية “الصبا والجمال” التي كان مقلا في إدخالها في أغانيه ثم أدخل أيضا آلة المندولين، وآلة أخرى تشبهها تسمى “البلالايكا” واستخدمها في مقدمة اغنية “عاشق الروح”.

حصل الموسيقار على جائزة عالمية هي الأسطوانة البلاتينية من شركة إيمي العالمية، وذلك في حفل أقيم له بحضور الرئيس الراحل أنور السادات في قاعة سيد درويش بالقاهرة 2 فبراير عام 1978م، إضافة إلى حصوله على أوسمة ونياشين عديدة من حكام وملوك الدول العربية والأوروبية.

سبب الوسوسة

يقول محمد عبد الوهاب، في حديثة للإذاعة صوت العرب 1962م، عن نشأته وفقا للكتاب فالدكتورة رتيبة الحفني “أسرتي فقيرة.. وكنت نحيلا.. حتى أنه صدرت شهادة بوفاتي وأنا في 12 من عمري، وأفقت وهم يغسلوني استعدادا للدفن.. ربما كانت وفاتي سببا في وسوستي وخوفي الشديد على صحتي”.

ومن أقوال عبد الوهاب، فيما يخص الحياة والموت “أن الموت هو الحق الوحيد الذي أكرهة.. والحياة هي الباطل الوحيد الذي أحبه”.

وعن حرصه على الحياة قال “أنا أنفق مالي، وأنفق من صوتي، وأنفق من صحتي… ولكني لا أبدد المال ولا الصوت ولا الصحة وفرق هائل بين الإنفاق والتبديد”.

صورة من كتاب محمد عبد الوهاب حياته وفنه- تأليف د. رتيبة الحفني

وفاته

يذكر أن الموسيقار محمد عبد الوهاب، توفي مساء يوم 4 مايو عام 1991 على إثر جلطة كبرى وجسيمة بالمخ نتيجة سقوطه الحاد على أرضية منزله بعد انزلاقه المفاجئ من سجاد الأرضية وشيعت جنازته يوم 5 مايو بشكلٍ عسكري بناءً على قرار الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.

د.رتيبة الحفني- مشاع إبداعي

د.رتيبة الحفني مؤلفة كتاب “محمد عبد الوهاب حياته وفنه”

والدكتور الحفني، فنانة مصرية، ومغنية أوبرا عالمية، كما كانت عميدة معهد الموسيقى العربية في القاهرة، فضلا عن أنها أول امرأة تتولى منصب مدير دار الأوبرا المصرية في القاهرة.

ولدت رتيبة الحفني في القاهرة عام 1931، وكانت نشأتها في أسرة موسيقية، فوالدها محمود أحمد الحفني، الذي ألف حوالي 45 كتابا عن الموسيقى، كما كان أول من أدخل دراسة الموسيقى في المدارس المصرية.

وكانت جدتها لأمها الألمانية الأصل تعمل مغنية أوبرا ألمانية، ولقد أجادت عزف البيانو وهي في سن الخامسة، كما درست الموسيقي في برلين وميونخ، لدى عودتها إلى القاهرة غنت في أوبريت الأرملة الطروب في عام 1961، ومثلت بدور البطولة في أوبرا عايدة لفيردي في باريس.

حصلت على “جائزة الدولة التقديرية في الفنون” من المجلس الأعلى للثقافة المصري، في عام 2004 وتوفيت يوم الإثنين 16 سبتمبر 2013 عن عمر يناهز 82 عاما.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر