ماجدة صالح أول باليرينا مصرية: احتراف الباليه في مصر كان عيبا

حفرت ماجدة صالح اسمها في التاريخ المصري الحديث، كأول راقصة باليه محترفة في مصر، استطاعت بأصولها الشرقية الجمع بين السرعة والحيوية في الباليه الأمريكي، وقوة الأداء والإبهار في الباليه الروسي، والأناقة والجمال التي يتسم بها الباليه الفرنسي. كرمها الرئيس عبدالناصر ليصبح أول اعتراف مصري بفن الرقص، وفي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك حُذف اسمها من سجلات دار الأوبرا المصرية رغم أنها كانت أول رئيس لدار الأوبرا الجديدة. هنا تفتح لـ”باب مصر” صندوق ذكرياتها.

العيب
 ولدت بالقاهرة، لأب مصري أحمد عبدالغفار صالح، كبير الزراعيين والتعليميين في مصر في القرن الماضي، وقد شغل عدة مناصب في عمله أدت في النهاية إلى رئاسته الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وخلال استكمال دراسته العليا بالخارج تعرف على والدتها فلورانسا الإسكتلندية، أتما الزواج هناك وعادا معا إلى مصر. دعم الأب والأم للفراشة الصغيرة منذ أعوامها الأولى ساعدها بأن تصبح أول باليرينا مصرية، هذا الفن الذي لم يكن رائجا كثيرا في مصر حينها، واقتصر تعلمه في الاستديوهات الخاصة بالمعلمات الروسيات والإيطاليات اللواتي أقمن في مصر، بدأت ماجدة تدريباتها في سن الطفولة على يد معلمة إنجليزية والتحقت بعدها لدراسة الباليه في القسم المخصص له بـ”كونسرفتوار” الموسيقى بالإسكندرية على أيدي معلمات إنجليزيات.
 الفراشات عمرهن قصير

لم يكن الاحتراف هو حلم ماجدة، وزميلاتها اللواتي كانا يتعلمن البالية، كان الهدف الوحيد هو الرشاقة واللياقة الجسدية. لم يكن الاحتراف حلما لأيا منهن بسبب معرفة الأهل المسبقة برفض المجتمع للموسيقى والرقص وكذلك للشروط القاسية التي يتطلبها جسد الباليرينا من التدريبات المتواصلة لأنظمة التغذية وعدم الإنجاب، وذلك على عكس ماجدة التي نشأت في منزل يتحدث 3 لغات وكانت على وعد من أسرتها بالتخصص في دراسة الباليه بعد انتهاء المراحل التعليمية.

“هل احتراف الباليه في مصر كان صعبا؟” أجابت: «لا، ويرجع ذلك لعدة أسباب أولها أن فن الباليه لم يكن جديدا على مصر حينها، دخل مصر في أواخر القرن التاسع عشر حين تأثرت مصر بالثقافة الغربية للحملة الفرنسية، السبب الثاني هو جهود الدولة في تقدير الثقافة والفنون، وتمثل ذلك في تكليف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر زميله ثروت عكاشة، بإنشاء وزارة الثقافة، وكان واحدا من أهم أهدافها إنشاء أكاديمية فريدة من نوعها تكون معنية فقط بالفنون، ومنها المعهد العالي للبالية».

التحقت به برفقة زميلاتها الأربعة دودو فيظي، علية عبدالرازق، مايا سليم، ديانا حقاق في أولى دفعاته في عام 1958، واستعان المعهد بالنظام الأكاديمي الروسي، درست ماجدة وزملائها بنين وفتيات على يد الخبراء من الاتحاد السوفيتي، وتخرجت بترتيب الأولى على الدفعة.

ارتاد محبي الباليه وراغبي التعلم على يد الخبراء الروس بمعهد الباليه، الكثير من دون الالتحاق رسميا، وكان منهم راقص مصر الأول، الفنان الراحل محمود رضا، وتقول ماجدة إنه كان يحضر دروس الباليه الروسي بعد تدشين المعهد في عام 1958 لإثراء خبراته عن رقص الباليه مع الخبراء الروس، وانقطع عن الحضور بعد إنشاء «فرقة رضا» وانطلاقها الصاروخي نحو العالمية.

رحلة عمر

صداقة طويلة منذ الطفولة جمعت بين ماجدة صالح، ونجمة الرقص الشرقي والفلكلوري المصري فريدة فهمي، ويرجع عمر هذه الصداقة حين كان عمرهما 7 سنوات واجتمعتا للمرة الأولى في حديقة منزل فريدة، بسبب الزيارات المتكررة لوالد ماجدة وصديقه والد فريدة، ومن هنا بدأت صداقة الفتاتين. تقول ماجدة: “كان لدى فريدة منزل كبير للدمى الألعاب”، ومنذ طفولتها كانت تهوى الرقص، وشجعها والدها ووالدتها الإنجليزية على تطوير الهواية إلى الاحتراف، كان والد فريدة يطلب منها في طفولتها الرقص أمام أصدقائه تشجيعا لها، وهذا كان أول جمهور لها، واستمرت الصداقة حتى الآن.

وتجددت الصداقة خلال إعداد ماجدة لرسالة الدكتوراه عن الرقص الشعبي، وهو أول بحث ميداني لتوثيق هذا الفن من مصادره الأصلية عن الحجالة والتحطيب، وتقول: “فريدة هي من ساعدتني في جمع البيانات المطلوبة”، واصفة فرقة رضا بأنها الفرقة الوحيدة التي أبدعت في نقل الرقصات من بيئتها الأصلية وعرضها على المسرح، وترى أن فيلمي «إجازة نص السنة» و«غرام في الكرنك» من الأفلام التي لن تتكرر في تاريخ السينما المصرية.

فن اللحظة

“متى نقدم عرض باليه بأداء مصريين فقط؟”،مرت ثمانية أعوام من الدراسة في أول مدرسة باليه مصري يردد فيه طلابها هذا السؤال عن تحقيق الحلم، وأتيحت الفرصة عام 1963 بحصول الطالبات الخمس الأوائل وبينهن ماجدة على منحة لدراسة الرقص في أكاديمية البولشوي الروسية، وتخرجن منها بتقدير امتياز، وبعد عودتهن إلى مصر كان الحلم على وشك أن يصبح حقيقة، فقد قاموا بتأسيس أول فرقة باليه مصرية. قدمت الفرقة أول عرض باليه مصري، بعنوان «نافورة باختشيسراي»، المكون من أربعة فصول، تم عرضه للمرة الأولى عالميا في عام 1934 والعروض من تصميم المخرج الروسي زاخاروف، وهي مستوحاة من قصة حقيقية كتبها الشاعر الروسي ألكساندر بوشكن كقصيدة شعر، وقدم العرض في مصر أعضاء الفرقة المصرية رجالا ونساء، وجسد الرجال الأربعة شخصية التتار، وهم يحيى عبدالتواب، رضا فريد، منصور الجنادي ووجيه يوسف.

تكريم عبدالناصر

نالت عروض باليه الفرقة المصرية، إعجاب كل الفئات المصرية، حتى أن عكاشة تواصل مع الرئيس جمال عبدالناصر حينها طالبا منه الحضور والاستمتاع بأحد العروض، وبالفعل حضر في اليوم التالي برفقة زوجته في دار الأوبرا القديمة، ونظرا لأن العرض نال إعجابه قرر تكريم الفرقة ومنحهم أوسمة رفيعة، ماجدة والفراشات الأربعة حصلن على وسام الاستحقاق، وأصحاب الأدوار الرئيسية “نوط الاستحقاق”، أما الخبراء والمشرفين فقد حصلوا على وسام الجمهورية، لتصبح المرة الأولى التي ترعى فيها مصر فن الرقص وتعترف به رسميا.

 الحلم يتحقق

كان لحريق دار الأوبرا القديمة، تأثير على اندثار عروض الباليه المصرية، وتقول صالح: “نشاط الباليه قل في مصر، بعدما اضطرت كل الفرق للبحث عن مسارح أخرى لم تكن بنفس مكانة الأوبرا”، وربما كان هذا السبب في ابتعادها عن الرقص مجددا، فكان رأي والدتها “إما الرقص في مكان يعرض الباليه فنا أرستقراطيا أو لا”، واتخذت بنصيحة الأم التي وجدت أن استكمال دراستها الأكاديمية هو الأفضل، نظرا لأنها كانت معيدة حينها، واتجهت لاستكمال دراساتها العليا في الولايات المتحدة من جامعة كاليفورنيا عن «الرقص الشعبي وتطبيقه في الثقافة الأمريكية»، وحصلت على الدكتوراه من جامعة نيويورك عام 1997 عن «تقاليد الرقص الشعبي المصري» باعتباره المصدر الأساسي للإلهام. وعادت إلى مصر بعد حصولها على الماجستير وتم تعيينها عميدة لمعهد الباليه وكان يعاني من الإهمال بالدراسة والمكان، وبعد عامين من العمل الروتيني استقالت، وآثرت الاستمتاع بحياتها الشخصية 14 شهرا، خلال هذه الفترة خاض راقصو الباليه الأوائل في مصر تحدي بين حلم الرقص وصعوبة تحديد المكان المناسب، حتى إنشاء دار الأوبرا الجديدة، وتقول إن فكرة الأوبرا الجديدة لم تكن جديدة حينها لأن ثروت عكاشة كان قد أعد خطة لتوسع الأوبرا وأعد التصميمات مهندس ألماني ولكن لم يتم العمل بها.

تعيين وإقالة 

في عام 1988 شغل فاروق حسني منصب وزير الثقافة، ووقع الاختيار على ماجدة صالح لتصبح أول رئيس لدار الأوبرا المصرية الجديدة، وواجهت حينها تحديا كبيرا من عمل روتيني لنقص المعدات والتمويل، شكلت فريقا للعمل برفقة الراحل عبدالله العيوطي مدير مسرح الأوبرا القديمة، والإعلامية عايدة حسين، وسكرتارية منال محمود، وتقول ماجدة: “تسلمت منصبي في مرحلة انتهاء البناء من الفريق الياباني، كنا نناضل على أكثر من جهة، كان الأمر شاقا لالتزامنا بميعاد الافتتاح، في ظل عدم وجود ميزانية”. رغم الجهود التي بذلتها خلال هذه المدة القصيرة كأول رئيس لدار الأوبرا المصرية الجديدة، تفاجأت خلال شغلها منصبها بأنه تم تعيين رتيبة الحنفي رئيسا للأوبرا، بدون مقدمات او إبداء أسباب، “وكأنني لم أكن”، مع شن حملة إساءة ضد ماجدة، لتعيد بعدها ترتيب أوراقها، “هجوم لا يليق بتاريخي، ووفاة أبي وأمي سر إقامتي بمصر”، وكان هذا هو السبب في العودة للعمل الأكاديمي ولكن هذه المرة في الولايات المتحدة حيث استقرت منذ أكثر من ثلاثة عقود استطاعت خلالها خدمة الثقافة المصرية على طريقتها الخاصة.

من الباليه لعلم المصريات

في أمريكا تكونت أسرة جديدة لماجدة صالح برفقة زوجها عالم المصريات الشهير جاك جوزيفسون، اجتمعا على حب الفن. من خلاله عرفت الكثير عن التاريخ مصر، يستكشفان المواقع الأثرية معا، يكتب وتراجع هي مقالاته، وزارا مصر عدة مرات معا، وكانت الزيارة الأخيرة لماجدة صالح إلى مصر بمفردها في أكتوبر2019. وجدت في هذه الزيارة جزءا من التقدير التي كانت تستحقه هي ووالدها، حيث اعترفت الجامعة الأمريكية بدور والدها والجهود الذي بذلها لاعتراف الحكومة المصرية بشهادات الجامعة الأمريكية الحالية، وتقول: إن والدها هو من قاد الحملة قبل عشرات الأعوام، وجاء التكريم في المقر القديم للجامعة بميدان التحرير في القاهرة، بعدما أصبح مركزا ثقافيا نشطا، وتقديرا لهذا التكريم أهدت ماجدة المركز جهاز البيانو الخاص بها، ليتم عرضه باسمها في في المركز الثقافي الجديد بعد تحديد موعد افتتاحه رسميا. بعد انتهاء الزيارة إلى مصر، فوجئت ماجدة بأول تكريم لها من دار الأوبرا من خلال معرض خاص بصورها استمر على مدار أربعة أيام. تصف الأمر: “هذه خطوة كبيرة بعد سنوات من عدم الاعتراف بي يتم عرض صور خاصة بي”.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر