آخر معارك طه حسين: المذكرات المزعومة لـ«قربط» سكرتير العميد

كانت هذه المعركة آخر معارك طه حسين في حياته. ودارت أحداثها على صفحات الجرائد بداية من إبريل 1972.. أي قبل وفاة العميد بعام ونصف. وكان طرفها «فريد شحاتة» السكرتير السابق للعميد الذي ترك العمل عام 1968 بعد صحبة زادت عن الأربعين عاما. وقد أتيح له فيها أن يشهد من طه حسين مالا يشهده غيره وأن يقف على أخص خصوصياته وأن يرافق تطورات حياته عبر أربعة عقود، وقد فجّر فريد شحاتة قنبلة في الأوساط الأدبية عام 1972 حين أعلن أنه بصدد نشر مذكراته مع العميد، وأنه تلقى عروضا سخية من دور النشر في بيروت ولندن وباريس لنشر كتابه.

أعلن فريد عن المذكرات بكلمات حادة. يقول «آن الأوان لتحطيم هذا الصنم الذي يعرفه الناس باسم طه حسين، بعد تقديس استمر نصف قرن من الزمان أو يزيد». مضيفا أن مذكراته تتضمن وقائع أربعين عاما عاشها مع طه حسين لم يبارحه فيها إلا لكي يهرع ساعات قليلة إلى النوم.

صفحات من حياة طه حسين

إن هذه المذكرات كما وصفها فريد شحاتة هي صفحات مطوية تنشر لأول مرة ويقدم فيها للناس الوجه الآخر لطه حسين. وعلى ملامح هذا الوجه سوف يقرأون الكثير وسوف يكتشفون مدى جهد فريد شحاتة في استكمال بعض أعمال طه حسين الأدبية. وسوف يطالعون أيضا في ملامح هذا الوجه حقيقة مؤداها أن ثقافة طه حسين لن تخرج عن كونها بضاعة أوربية ردت لأهلها من الأوربيين.

ويستكمل فريد شحاتة كلماته قائلا: «هذا قليل من كثير عن طه حسين الذي أمضيت معه أكثر من أربعين عاما ضاعت هباء. ولن أحزن أو أتألم لمجرد ذكرها ولن أتساءل أيضا كم أربعين سنة أخرى تبقى لي في حياتي بعد ذلك؟. ولن أفكر في هذا اليوم الذي وجدت نفسي فيه بلا عمل. وهل هناك عمل جديد لمن قارب الستين. نعم كنت قد قاربت الستين. وقالت عني الصحف أني أحلت للمعاش يوم أن تركت طه حسين».

مازلت حيا

كانت مجلة «الإذاعة والتلفزيون» أول من فجّر القضية ونشرت تحقيقا صحفيا مطولا بعنوان «حدث أدبي خطير» وحملت المجلة ما ذكره فريد شحاتة وذهبت إلى طه حسين ووضعت بين يديه تصريحات سكرتيره السابق، فبدأ العميد يتذكر عندما جاء فريد ليحل محل أخيه توفيق شحاتة.

ويقول طه حسين: «رحم الله توفيق فقد كان إنسانا يريد العلم أينما حل وأما فريد فقد كان على عكس ذلك.. إنني أذكره حين جاءني ولم يكن معه من الشهادات سوى الابتدائية ولم أبخسه حقه فقد بدأ العمل معي منذ أربعين عاما بمرتب شهري قيمته سبعة جنيهات وهذا المرتب كان يعز على حملة المؤهلات العليا في ذلك الزمن وتدرج المرتب الشهري حتى وصل إلى ثمانين جنيها».

ويضيف «ومن الناحية الأدبية لا شك أن فريد قد استفاد الكثير، لا أشك في أن فريدا قد ارتفع بحياته أربعين سنة معي كما لا أشك أن ما أتيح له لم يتح لغيره ممن يحملون ما يشبه الابتدائية أو ما يقترب منها، ويبقى الحديث عن مذكراته وما ينسجه حولها من أقوال ينقلها إلى بعض الأصدقاء في أنها تتضمن أسرارا تذاع لأول مرة.. والعجب في كل هذا أنني مازلت حيا لا أرد أحد يطلب مني رأيا وأن أعظم ما يكتب عني لا يكون إلا مني.. أما وإن يدعي فريد بأنه يدخر للوقت المناسب أعظم ما كتب عني فأعتقد أن هذه العظمة لا تعني غير الإثارة الممقوتة المكروهة وفي هذه الحالة سينتهي به الأمر بأن يقدم للقضاء هذا في حياتي وبعد حياتي فما أشك أن أصدقاء لي وتلاميذ يرضيهم ما يقوله فريد».

معركة طه حسين مع فريد شحاتة

واصل العميد ساخرا: «أن فريد شحاتة غير قادر بالفعل على أن ينشأ أي عمل أدبي وهو كما عهدت به لا يستطيع أن يقدم جملة عربية واحدة صحيحة من حيث الإنشاء والإعراب، بل وأنني أتحدى أن يكتب فريد موضوعا على صفحات مجلتكم دون أن يسبب للأجهزة القائمة على النشر الكثير من التعب والإرهاق. وأرسل طه حسين ضحكة عالية وتساءل وما هي الأعمال الأدبية التي استكملها فريد؟، ثم يوجه الحديث لسكرتيره الحالي “الدكتور محمد الدسوقي” تفتكر يا دسوقي أن فريد استكمل بعض كتبي؟… رحم الله أياما مضت طلبت فيها من فريد أن يقرأ بعضا من الشعر العربي القديم وأذكر أن القصيدة كانت لأحد زعماء بكر بن وائل فيها بيت يقول:

قربا مربط النعامــة مني   لقحت حرب وائل عن حيال

فقرأ فريد هذا البيت كما يلي:

قربط النعامــة مني      لقحت حرب وائل من جبال

وطلبت منه أن يعيد القراءة من جديد فعاد ليقول مرة ثانية «قربط» وكان الشيخ مصطفى عبدالرازق عندما كان يزورني ويرى فريد كان يتذكر هذه الواقعة فيناديه على الفور بـ«الأستاذ قربط» وهذا قليل مما كنت أعانيه من طريقة فريد في القراءة والكثير ما أعانيه الآن مما يدعيه من أقاويل حول كتبي. ويختتم طه حسين حديثه قائلا: «لا يتصور أي إنسان هذا الجحود أكثر من أربعين سنة معي وبعد ذلك يقول إنه كان يؤلف لي وبأني سرقت ما كتبته من الأجانب. إنني لا أجد ما أقوله إلا هذا القول: إن لم تستح فاصنع ما شئت».

السكرتير يتراجع

وبطبيعة الحال انقلبت الدنيا على تصريحات السكرتير. ثم حديث طه حسين إلى مجلة الإذاعة وتبارى تلاميذ طه حسين في الدفاع عنه. فكتب عبدالمنعم الصاوي مقالا بعنوان «طه حسين ليس محتاجا إلى دفاع».

وكتب عبدالمنعم شميس مقالا بعنوان «دفاع عن قيمة وليس دفاعا عن شخص». وكانت شهادة شميس أن هناك مصححا مازال على قيد الحياة كان يعمل في جريدة السياسة عندما نشر فيها طه حسين «حديث الأربعاء». واعترف بأنه كان يتوقف كثيرا عند بعض الجمل التي كان يكتبها فريد شحاتة بخطه نقلا عن “حسين”. وقال المصحح إنه كان يعود دائما لطه حسين ليسأله عن الغامض في الكلمات. لأن فريد شحاتة لا يعرفها مع أنه هو كاتب يد طه حسين.

ولم تتوقف هذه المعركة لشهور على صفحات الصحف والمجلات في الوطن العربي. وهناك من انتهز الفرصة لتجديد خصومات قديمة حول فكر طه حسين. وكتب فريد شحاتة نفسه متراجعا ونافيا ما صدر عن نيته كتابة مذكرات عن طه حسين. وقد جاء النفي بعد طوفان من المقالات التي نددت بما يقول وخشية من العواقب الوخيمة التي قد تصيبه. وخصوصا أن طه حسين نفسه أكد أنه سمع مثل هذه الأقاويل ونقلت إليه في أكثر من مصدر. ولولا أن طه حسين عرف أن سكرتيره قد تقوّل وأشاع، لما اهتم بالرد أو رضى بإجراء حوارا حول المذكرات المزعومة. وكذلك كان الوسط الأدبي في مصر كلها يعلم ما يردده فريد شحاتة منذ ترك العمل مع طه حسين عام 1968.

وانتهت حملة التهديد ضد طه حسين التي شنها فريد شحاتة. ليبقى طه حسين عملاقا رائدا كانت حياته ثائرة مثيرة ولم تكن أبدا هامدة ساكنة.

اقرأ أيضا

ملف| طه حسين.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور

 

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر