بين «كيرة والجن».. و«النمس والجن»

من يتابع المحتوى السينمائي المصري (الحديث) على المنصات العالمية والعربية لابد أن يصاب بحالة من الإحباط من المستوى المتواضع لمعظم هذه الأعمال، مقارنة بمثيلتها العالمية، وحتى العربية، ولابد سيتساءل عن السبب وراء هذه الظاهرة المؤسفة. وآخر مثل على ذلك هو فيلم “كيرة والجن” الذي بدأ عرضه على منصة “شاهد” مؤخرا. بعد أن حقق من عرضه السينمائي في العام الماضي إيرادات تقرب من 120 مليون جنيه. ليصبح أكثر الأفلام تحقيقا للإيرادات في تاريخ السينما المصرية.

أفضل ما يمكن تقديمه؟!

“كيرة والجن” شارك في صنعه عدد من “جهابذة” السينما في مصر: الشركة المنتجة الأكبر، المؤلف الأكثر مبيعا، المخرج الأكثر نجاحا جماهيريا، النجمان الأكثر شعبية الآن، وهلم جرا.

والآن بعد أن انقشع الغبار قليلا عن الضجة التي أثارها الفيلم في دور العرض السينمائي ووسائل الإعلام ومواقع التواصل. عندما نراه بعيون أهدأ وأكثر حيادية، ونقارن بينه وما يعرض على المنصات من بلاد أخرى. يجب أن يتساءل المرء: هل هذا هو أفضل ما يمكن أن نقدمه إلى العالم؟

ربما يكون الفيلم جيدا بمقاييس الصناعة المصرية، لا بأس به على المستوى التقني كعادة مخرجه الموهوب مروان حامد. ولكن مشاهدته أشبه بتناول وجبة شعبية (فول وفلافل، أو ملوخية، مثلا) في مطعم خمس نجوم، يقدمها لك “سفرجية” يرتدون الجلباب الفلكلوري، ورئيسهم يرتدي الاسموكنج الإنجليزي، و”مينيو” مكتوب بالحروف اللاتينية. كل شيء يبدو أنيقا ومتقنا. ولكن إذا دققت قليلا، قليلا جدا، سوف تتبين أن هناك شيئا، بل أشياء، غير مريحة، كثيرة. سواء في جودة الطعام المقدم لك، أو الطعم، أو مستوى نظافة المكان، أو حتى أداء هؤلاء المتحذلقين من مرتديي الجلابيب والاسموكنج.

**

لو دققت قليلا في وجوه أبطال العمل، كريم عبدالعزيز وأحمد عز وهند صبري، مثلا. ستلاحظ التجاعيد العميقة التي تختفي تحت تلال الماكياج والشوارب الصناعية. والترهلات التي تثقل حركتهم، حتى لدى من يذهب إلى “الجيم” يوميا منهم.

ورغم الجهود الهائلة التي يبذلها مصمموا المعارك والحركة والمخرج والمونتير. لكن من الصعب أن تقتنع بمعركة أو حركة واحدة منهم. صحيح أن الماكياج والمؤثرات والإضاءة يمكنها أن تزيد أو تقلل من عمر الممثلين، ولكن هناك حدود، لا يصح تجاوزها مهما كان اسم النجم وشعبيته، وإلا تحول إلى مسخ.

وحتى مخرج بقامة سكورسيزي وممثل بقامة دي نيرو وآل باتشينو وجو بيشي وإمكانيات تقنية بحجم هوليوود. لم تستطع أن تقنعنا بشباب شخصيات فيلم “الأيرلندي”. ولو كان سكورسيزي استعان بممثلين أصغر سنا، على الأقل في مرحلة الصبا، لكان لهذا الفيلم شأن آخر.

أبطال “كيرة والجن” يبدون عواجيز على الشخصيات التي يؤدونها، والأكثر شيخوخة حتى من مظهرهم هو أداءهم التمثيلي “البلاستيكي”. فرغم عشرات المشاهد التي يمكن أن تكون مؤثرة، من موت، ودماء، ومذابح، وحماس وطني، وقصص حب مستحيلة، ومواقف نبيلة. لكن يصعب للغاية أن تزيد درجة حرارة انفعالك ملليمترا واحدا عن درجة حرارة التكييف المركزي الذي يغلف قاعة العرض، ومواقع وشوارع تصوير الفيلم!

تمثيل رديء وكيمياء مفتقدة

ومن الغريب في هذا أن أبطال الفيلم ممثلوا دراما بالأساس، ولكن الأضعف حتى من مشاهد الأكشن هو تمثيلهم الدرامي. خذ عندك مثلا قصة الحب “الرقيقة” المأساوية بين أحمد عز وهند صبري. فالأول صعلوك، سكير، وزئر نساء، مسلم، بينما هي طبيبة، مسيحية، من الصعيد، لها أهل متعصبون مستعدون لقتلها على أهون سبب.

أو قصة الحب المعقدة بين كريم عبدالعزيز ورزان جمال، فهو متزوج وأب بالفعل، ومناضل ومقاتل في صفوف المقاومة ضد الاحتلال. بينما هي ابنة قائد عسكري بريطاني. القصتان على الشاشة باردتان للغاية، والكيمياء مفتقدة بين الثنائيين، وأعمار كريم وعز وهند البادية على ملامحهم لا تشي بأي نوع من الحب. خاصة حين نفكر في شكل الحب منذ قرن مضى. وحتى على مستوى الجهد التمثيلي المبذول. فالوحيدة التي تمثل باقتناع واندماج فيهم هي رزان جمال. أما عز وهند وكريم فيبدون وكأنهم لديهم تصوير إعلان مستعجل يريدون اللحاق به بعد التصوير!

الحقيقة أن معظم الممثلين في هذا الفيلم يبدون مثل موظفي المطعم الشعبي الخمس نجوم: بعضهم يرتدي الجلباب فوق القميص والبنطلون، وبعضهم يرتدي الجلباب تحت الاسموكنج! وكل منهم يشعر أنه يتواجد في مكان ليس مكانه الصحيح، ويتنكر في زى غير مريح. واعتقد أن هناك مشكلة عامة تتعلق بتوجيه الممثلين في معظم الأعمال التاريخية لدينا. إذ بمجرد أن يرتدي الممثل من هؤلاء ملابس العصر القديم، ويلصق اللحية والشارب بوجهه، يصبح أداءه “مسرحيا”، بالمعنى الرديء للأداء المسرحي.

أرجو من القارئ أن يشاهد الفيلم الهندي RRR الذي غزا السوق العالمية وجوائز الجولدن جلوب والبافتا والأوسكار في العام الماضي. فهو يتشابه مع “كيرة والجن” في فكرته وقصته وحبكته ونوعه الفني، ويقارن بين الفيلمين ليحكم بنفسه على فرق الخيال والطزاجة والروح والأداء والتنفيذ التقني.

على “نتفليكس”.. الوضع أسوأ

وإذا كان هذا هو الحال على منصة “شاهد” فالوضع أسوأ بكثير على منصة “نتفليكس”.

حتى الآن، ورغم مرور سنوات طويلة على دخول منصة “نتفليكس” إلى السوق العربي، لا يوجد عمل (باستثناء بعض كلاسيكيات السينما المصرية القديمة، وخاصة أعمال يوسف شاهين) حقق نسبة مشاهدات عالمية معتبرة، أو “اقتحاما” من أي نوع للسوق العالمية. كما هو الحال مع بلاد أخرى لم يكن لها حضور على الساحة العالمية حتى عقد أو اثنين مثل كوريا والهند واليابان ودول أمريكا اللاتينية وغيرها.

الأعمال المصرية على “نتفليكس” في أغلبها ليس لها هدف تقريبا سوى جذب بعض الجمهور المحلي جدا للاشتراك في المنصة. وهذه، مثلا، بعض عناوين المعروضات الحديثة:

أفلام “تماسيح النيل”، “الخطة العايمة”، “حامل اللقب”، “البعض لا يذهب للمأذون مرتين”، “مش أنا”، “ماما حامل”، “ماكو”، “وقفة رجالة”، “اللي اختشوا ماتوا” و”النمس والجن”،..

وهذه بعض المسلسلات: “مكتوب عليا”، “طريقي”، “الكبير”، “ريح المدام”، “فاتن أمل حربي”..

المنصة مترددة!

النسبة الأعظم من الأعمال المصرية على “نتفليكس” من إنتاج شركات أخرى تم فقط شراء حقوق عرضها. ولأسباب متعددة، تتردد المنصة الأكبر والأشهر عالميا في دخول تجربة إنتاج أعمال مصرية. ومن هذه الأسباب النتائج المخيبة للآمال التي نالت الأعمال القليلة التي قامت المنصة بإنتاجها. وعلى رأس هذه الأعمال فيلم “أصحاب ولا أعز”، الذي نال حملات من الهجوم والمقاومة لم تنلها حملات الهكسوس على مصر. ومسلسل “ما وراء الطبيعة” المأخوذ عن أعمال عراب الجيل أحمد خالد توفيق، الذي مني بخيبة على مستوى المشاهدات العالمية.

وللأسف عندما تقرأ هذه الأعمال أو تعرض الأعمال المأخوذة عنها في منافسة مع أعمال بلاد أخرى يتضح الفارق الرهيب على كل المستويات: إبداعيا وخياليا وتقنيا.

ما سبب هذا التواضع في المستوى. ولماذا تقف السينما والدراما التليفزيونية لدينا عند حدود محدودة جدا لا تهتم ولا تحلم بتخطيها؟

سؤال نحاول الإجابة عليه المرة القادمة.

اقرأ أيضا:

«الأيام» على الطريقة اليابانية: عندما أنقذ المهندسون والعمال العالم!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر